من السهولة بمكان إطلاق العروض التشكيلية لمناسبة السنة المخصصة للثقافة الجزائرية عام 2003، وذلك لسبب بسيط أن الفنانين الجزائريين البارزين اختاروا فرنسا خصوصاً العاصمة للإقامة والعمل منذ التحرير، هي خصيصة لا تشبه نظائرها في المحترفين التونسي والمغربي. من هؤلاء المقيمين منذ الستينات عبدالله بن عنتر وعبدالله محجوب والنحات رشيد كمون وبن المهند ثم المعلم محمد اكسوح الذي نحن بصدد معرضه التكريمي. أقام المعرض أخيراً "مركز الدراسات الافريقية" مجموعة دور بحوث بما فيها اCNRSب بالتعاون مع "بيت علوم الإنسان". هو من مواليد الجزائر العاصمة عام 1934. أقام في باريس منذ عام 1964، يعمل في تعدين "الدرابزونات" والحواجز والميداليات. ويمارس بطريقة عصامية التصوير، فلم تتح له فرصة التعليم الأكاديمي من حسن حظه. هو ما يتناقض مع سعة موهبته التقنية والثقافية وتجريداته النخبوية، لدرجة يبدو اليوم من أبرز الفنانين الجزائريين في جاليتهم المذكورة بخاصة بعد تقاعده وتفرغه للعمل الفني. كما يبدو من أشدهم شمولية وانفتاحاً على "مدرسة باريس" وتجريدها "الغنائي". خصوصاً انه استقال منذ البداية من أثقال الذاكرة الجمعية التراثية. هي التي شغلت قطبي التأسيس المتنافس: محمد راسم أولاً ومحمد خده ثانياً وتلامذة كل منهما. لكن تصوير اكسوح اضطر بصيغة غير واعية لأن يعقد مصالحة عضوية بين جغرافية الشمس الجزائرية ورمادية محيط وانعكاسات نهر السين، وبين الأشواق المتوسطية والديكارتية التصويرية التي طبعت أعمال البنائيين الهندسيين وتجريداتهم في أوروبا. لعله من أعمق التجريديين "الغنائيين" الذين اندثر ذكرهم لما بعد الستينات الى جانب اللبناني شفيق عبود والفرنسي جاك نالار. يشرف الثلاثة على "صالون الواقعيات الجديدة" الذائع الصيت منذ تأسيسه في بداية الخمسينات. يجمعهم نفس رهان اسمه ثقافياً، وذلك من خلال التقصي عن صيغ تجريدية "أشد حقيقية من الدلالة الواقعية". تتكشف في هذه الحال دلالة الطبيعة المضمرة في تجريداتهم التي تنطلق من المشهد "ما بعد الانطباعي". لم يبق من دلالتها سوى الرفيف الضوئي المتجمع حول مقام لوني زماني واحد، وعابر لا يقبل الإعادة أو الاستعادة. تشق تجارب الفرسان الثلاثة في قنوات متوازية، حيث تجرى مادة المكان النورانية - القزحية في زمان نسبي لا علاقة له بتعيينات الفصول والطقس أو الليل والنهار. تسعى مناظرهم المجهرية خلف الضوء المتوسطي المندمج بحساسية "مدرسة باريس". هي التي ترجع في أصولها الى المصور بونار وفيلسوف "الديمومة" برغسون. لعله البحث عن "الزمن الضائع" الذي شغل روايات بروست وميز موسيقى دوبوسي ودوفايا. تستحضر لوحات اكسوح أماكن حميمة داخلية منطوية على نفسها. تعشش في حناياها سيرته الطفولية والأشباح التجريدية لأشيائه وعناصره المعيشة التي تقبع في غرفة نومه أو جنبات محترفه أو ذاكرة بيته الطفولي. وذلك على غرار الايقاعات التجريدية العمودية التي تقارب هيئة شرائح مكتبته أو الأوتاد والدعائم الخشبية المتعارضة في ميلانها. مثلها مثل أشباح النوافذ والمنافذ. يبتدئ التكوين من مستطيل هندسي أشبه بالباب أو النافذة يعلقه في بطن الفراغ فيأخذ دور البؤرة المعمارية التجريدية الأساسية، والتي ستقترح بالتداعي العاطفي بقية خرائط الفراغ وايقاعات نوطاته البصرية الشاحبة. تتحرك الفرشاة في شتى الاتجاهات لتُحيك الفراغ مثل السجاجيد النابضة بالرفيف الضوئي الذري. وكما تحاك أنظمتها وفق تقاطعات خيوط "اللحمة والسداة". تنضبط خرائطه العاطفية أو الحدسية مثل جبرية رقعة الشطرنج، معتمداً على سلّم رهيف متطور من الألوان الخافتة حتى حدود "الوشوشة" والصمت. تنحصر صباغاته ما بين "الكوبالت" الأزرق النيلي و"الأهرة" الأصفر الترابي مع مشتقاتهما البيض والرمادية. قد تصل تدرجاتها اللانهائية حتى حدود اللون البنفسجي الشاحب أو الأزرق المخنوق، بما تخفيه طبقاته الداخلية من ألوان شفقية - غسقية أو غروبية. يسمح له التمسك بتقنية الألوان الزيتية التقليدية بأن يطفئ اللون بعكسه: يخرس السطح الشفاف بالعجائن الكتيمة، ويلثّم الحار بالبارد، والمشع بالخافت، ضمن ترويض وصقل "أوركسترالي" دؤوب يخلص المشهد من حدود الظل والنور والتضاد اللوني، ألوان حيادية متقاربة تنتمي الى التوأمية العائلية نفسها في صوت الأورغ، يعزف على رمادياتها الرهيفة كما يعزف "شوبان" باليد اليسرى على الطبقات الصوتية الدنيا من "أوكتاف" آلة البيانو. تبدو العلاقة بين تصوير اكسوح والنوطة الموسيقية وشيجة، هو ما يفسّر مصاحبة معارضه غالباً بجلسات من العزف والتقاسيم على آلة القانون، فطبيعتها "النقرية" تتواصل مع تشظي سطوحه الى وحدات صوتية صغيرة. هو ما يكشف تقنية "التزامن اللوني" الحوار الثنائي المستقاة أساساً من السجاجيد اللحنية. يرى اكسوح نفسه ان سلالمه اللونية تربطها علاقة عضوية مع بعض المواد الطبيعية. يقول عام 1991 عبر حديث أجريته معه إن: "لوحاتي تعكس ذلك اللقاح الأبدي بين الضوء والسطوح الطبيعية، مثل الأعشاب التي تنبت من صلابة الحجر والحصى المتحركة مع أمواج شواطئ البحار". هو ما يفسر اقتراب ألوانه من مادة البخار والباستيل، تتوضع لمساتها برفق وترفق ودعة دون أدنى ضجيج يجرح العين، فتتحول الى ما يشبه الهمهمات الواطئة التي لا تكاد تسمع. يتحول السطح الى نسيج متماسك مرصوص بتراكمات اللمسات المتعددة الغزارة والقياس، تحجز الفراغ ضمن حقول شبه هندسية، أقرب الى هيئة جهاز الأورغ في الايقاعات العمودية. انها سجاجيد علاء الدين المحمولة من أقصى الشرق العربي عندما تحط على ضفاف مدرسة باريس.