من يقول سيرج غينسبورغ وجين بركين يعني فوراً الإغراء والفضيحة. فاسمهما ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعار والعيب و"غير المسموح" بعدما تحدّيا كل الأعراف الإجتماعية السائدة في السبعينات من القرن الماضي. أغنية واحدة فقط منهما أثارت حفيظة غالبية الدول العالمية التي منعت بثها... فكيف 11 عاماً من علاقتهما معا؟ هو موسيقي، كاتب، شاعر، رسّام، قبيح، سكيّر وزير نساء، عاش مشاغباً على هامش المجتمع وانتهى بعد موته عبقرياً "رفع الأغنية إلى مستوى الفن" كما قال عنه الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران. وهي بريطانية، مشت على خطاه، لا تزال مراهقة في الستين من عمرها، إشتهرت بفضل "هامشيته"... ولا تزال. من لوسيان إلى سيرج ولد لوسيان غينسبورغ في باريس عام 1919 من والدين روسيين هربا من روسيا في بدء القرن الماضي. تبع خطى والده عازف البيانو الذي كان يرافقه في النوادي الليلية ولم يبلغ بعد الثامنة من عمره. واضطر إلى الهروب مع عائلته إلى الريف الفرنسي إبان الإحتلال النازي لفرنسا، فانغرست فيه صغيراً بذور النقمة الإجتماعية خصوصاً أنه عانى من خيانة الأصدقاء والجيران لعائلته. وما لبث أن عاد إلى عاصمة النور بعد تحريرها، فالتحق بمدرسة الفنون الجميلة بعدما برزت موهبته في الرسم الذي خذله لأنه لم يكن يوماً راضياً عن لوحاته، ما دفعه إلى إهماله والإنصراف إلى كسب عيشه من العزف على البيانو في النوادي الليلية. ولم يكد يبلغ التاسعة عشرة من عمره حتى وقع في حب أرستقراطية روسية تزوجها. وبقيا معاً 10 سنوات كان في خلالها لوسيان يعلّم الفنون ويعزف ويؤلف المقطوعات الموسيقية وكلماتها... ويلاحق النساء. فهجرته زوجته بعدما يئست من الحصول على إخلاصه. ولم تمض سنة واحدة حتى بدّل لوسيان اسمه إلى سيرج، تيّمناً بأصله الروسي وحوّر كتابة إسم عائلته ليصبح غينسبورغ، ونبذ نهائياً الرسم بعدما مزق كل لوحاته ورمى أدوات تلوينه... وقطع عهداً على نفسه بألا يحمل بعد اليوم ريشة للرسم. تهكمه هزلي قاس وانصرف سيرج إلى الموسيقى وإلى كتابة النصوص التي أثارت ردود فعل متناقضة في من يسمعها. فإما يحبها وإما يكرهها لأن تهكمه وكلماته الهزلية كانت قاسية الى أبعد الحدود. وانطلقت مهنته الموسيقية بخجل، ينتج موسيقى رائعة فيما الصحافة الفنية تحطمه. يكتب للمغنين الفرنسيين الآخرين، يؤلف موسيقى الأفلام ويغني في بعض الأحيان أغانيه... ويواصل ملاحقته النساء. تعرف الى بريجيت باردو، تزوج بياتريس التي جعلته اباً لأول مرة، طلّقها بعد سنتين، عاد وارتمى في أحضانها بعد سنة فأصبح أباً لمرة ثانية، ثم تركها نهائياً بعدما باشر علاقة حب عاصفة مجدداً مع بريجيت باردو التي سجل معها أسطوانتين "دويتو"... وأغنية "أحبك، وأنا ايضاً" التي توسلت إليه ألا ينشرها لأنها كانت متزوجة، فالتزم وعده ولم يفعل... إلى أن التقى بعد أشهر معدودة جين بركين، الممثلة البريطانية غير المعروفة التي لم تكن تتقن كلمة واحدة من اللغة الفرنسية. أرستقراطية مع إبن الشارع سيرج كان في الأربعين من عمره، وهي في الثانية والعشرين. كره خجلها وبدأ يضايقها ويزعجها... إلى أن خرجا معاً للعشاء وبقيا معاً 11 عاماً من دون انقطاع، فأغوى تلك المراهقة الأبدية التي ترفض بلوغ سن الرشد... ترتدي الفساتين الشفافة لتعجبه وتضع أنبوب الماسكارا تحت وسادتها وتستيقظ ليلاً للماكياج خوفاً من أن يراها قبيحة، كما قالت مرة. فهي لم تكن مهيأة لتصبح رفيقة "أمير الليل الماجن" بعدما ترعرعت في لندن في منزل ارستقراطي بريطاني رفيع، ونشأت مع شقيقها وشقيقتها في جو بورجوازي مفعم بالفن بفضل والدتها الممثلة المسرحية. حاولت اتبّاع خطى أمها داخلة ميدان الفن مراهقة، لكنها لم تكد تمثّل أول فيلم لها شبه عارية حتى تزوجت من موسيقي بريطاني وأنجبت منه إبنتها كايت وطلّقت بعد اقل من سنة. ووصلت في السنة التالية إلى فرنسا لتمثيل فيلم ثان... وللتعرف إلى الحياة الباريسية الليلية برفقة "أميرها". فأمضت مع سيرج ليالي من السهر والتدخين والكحول، وبدأ هو يتعلق بتلك الصبية النحيفة التي تتكلم بلكنة مميزة باتت رمزاً لها. إدانات لاغنيتهما الأولى عاشا معاً 24 ساعة على 24 ساعة، مطلقين العنان لكل الإجتهادات الإعلامية عن علاقتهما التي توّجتها أغنية "أحبك، وأنا ايضاً"... التي أعادا تسجيلها، حاملة على غلاف أسطوانتها عبارة "ممنوع لمن هم دون ال21". فتضمنت تأوّهات جين وكلمات سيرج الماجنة، وأثارت عاصفة من الإحتجاجات الدينية والدولية، أبرزها من الفاتيكان الذي أصدر كتاب إدانة لشركة الإسطوانات الإيطالية التي سجلتها... ما جعل الأغنية تفيد من دعاية مجانية وضعتها في المرتبة الأولى من المبيعات. وباتت جين منبوذة في وطنها الأم بسببها وكأنها تعيش في جزيرة وحيدة مع سيرج بعيداً من العالم. وانتقلت أخيراً لتعيش معه في منزله مع ابنتها. وأصبح سيرج اباً مجدداً بعدما أنجبت جين الصغيرة شارلوت. وتابع كل منهما مهنته تمثيلاً وتأليفاً موسيقياً وغناء. إلا أن سيرج انصرف كلياً لكتابة الأغاني لجين فقط، ولم يعد يكتب مقطوعة موسيقية واحدة له أو لغيرها من الفنانين وكأنها اختصرت وحدها كل عالمه الفني. أبقى تمثالها معه وعلى رغم النجاح الذي كان يحيط به، إستمر غينسبورغ في نمط حياته المدمر، سكراً وإدماناً على التدخين والسهر والفضائح. فأصيب بنوبة قلبية وكان في الرابعة والأربعين من عمره، وبدأ يسلك طريق الإنهيار من دون تردد. إبداعه الفني يعاني من نمط حياته غير المستقر، فيكون تارة في القمة وطوراً وتكراراً في الهاوية... حتى ضاقت جين به ذرعاً وهجرت منزلها مع ابنتيها. وانفصلت نهائياً عن سيرج الذي نحت مجسّماً برونزياً على صورتها كي يبقيه إلى جانبه بعدما تركت المنزل. وبقيت على علاقة صداقة به على رغم أنها باشرت علاقة حب جديدة مع المنتج السينمائي الفرنسي جاك دوايون الذي أضفى بعداً أعمق على أدوارها السينمائية مخرجاً إياها من قوقعة الفتاة الساذجة والبسيطة التي كانت اصطبغت بها. فعاشت معه وأنجبت منه ابنة ثالثة لم تحل دون تجدد علاقتها المهنية بسيرج الذي أطلق ألبومها الجديد المفعم بالحنان والإحساس المرهف... فيما كان في قمة تدمير نفسه جسدياً ونفسياً، وكأنه لم يستطع التغلب على هجرها له. وأثار عاصفة جديدة من الفضائح مغنياً مع ابنتهما شارلوت أغنية أقل ما يقال فيها أنها جريئة. وسارت شارلوت على خطاه، تمثيلاً خارجاً على المألوف فيما صعدت والدتها لأول مرة على المسرح لتحيي أول حفلة موسيقية حيّة منذ 20 سنة. رسم صورتها بعد 40 عاماً ولم يتوقف سيرج عن تحطيم نفسه، ولم تفلح رفيقته الجديدة العارضة الآسيوية "بامبو" التي كان يكبرها ب32 عاماً، في الحؤول دون استمرار انهياره. منحته إبناً واستمر في كتابة الأغاني لجين. بقيت معه، فواصل شرب الكحول التي أدت إلى خضوعه لعملية عاجلة في كبده. ولما رأى أن أيامه باتت معدودة، ألّف في غضون أسابيع قليلة آخر ألبوم غنائي لجين، كان بمثابة نشيد حب لها. فأمسك لأول مرة منذ 40 عاماً أقلام تلوينه ورسم صورة وجهها بالحبر على الغلاف. ولم تمض أشهر معدودة حتى قضى "زير النساء" بنوبة قلبية مفاجئة، وحيداً في سريره على رغم كل الحبيبات اللواتي أحطن به طوال حياته. ولم تدع جين الحزن يقضي عليها، لا بل تابعت حياتها المهنية غناء للأغاني التي كتبها لها سيرج وتمثيلاً لأفلام صديقها الجديد. ونشطت في النضال من أجل القضايا الإنسانية العالمية... ولم تطو صفحة غينسبورغ نهائياً إلا في عام 1998 عندما أصدرت ألبوماً لم يتضمن أياً من ألحانه أو كلماته، وكأنها تحررت أخيراً من شبحه الذي لازمها طويلاً... وطويلاً جداً.