محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تحتفي بولادة أول وعلين نوبيين    خلو السعودية رسميا من مرض أنيميا الخيل المعدي    "التجارة" تٌشهر بمواطن ومقيم ارتكبا جريمة التستر في مستلزمات المطاعم    خيانة باسم البرّ.. ابن يبيع منزل والدته دون علمها    مختص: استشارة الزوج لزوجته وعي عاطفي لا ضعف في القيادة    هيئة كبار العلماء تعقد اجتماعها الدوري ال(97)    بدء تطبيق قرار رفع نسب التوطين لمهن الصيدلة وطب الاسنان والمهن الفنية الهندسية    مشروع جديد لشبكات المياه يخدم 10 أحياء في الخرج بتكلفة تتجاوز 13 مليون ريال    زين السعودية تحقق نموا في أرباحها بنسبة 28%    إنفاذًا لتوجيهات القيادة.. بدء فصل التوأم السوري "سيلين وإيلين"    سميرة آل علي أول امرأة برتبة عميد في تاريخ شرطة دبي    أمطار رعدية ورياح نشطة تضرب مناطق جنوب وغرب المملكة اليوم    أمانة جدة تشعر المباني الآيل للسقوط في حي الرويس    استشهاد 12 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي شقة وخيمة في قطاع غزة    فريق AG.AL بطلا لمنافسات Honor of Kings في كأس العالم للرياضات الإلكترونية    نائب وزير الرياضة يتوّج الفلبيني "كارلو بيادو" بلقب بطولة العالم للبلياردو 2025    أنغام تطمئن جمهورها بعد الشائعة    قصر كوير    التوسع في صناعة السجاد اليدوي بين الأسر    ثعبان بربادوس الخيطي يظهر بعد عقدين    المكونات الأساسية للحياة على الأرض    الذكاء الاصطناعي يسرع الاحتيال المالي    صواريخ جزيئية تهاجم الخلايا السرطانية    18 ألف حياة تنقذ سنويا.. إنجاز طبي سعودي يجسد التقدم والإنسانية    عبد المطلوب البدراني يكتب..عودة الأنصار مع شركة عودة البلادي وأبناءه (أبا سكو)    اقتران هلال صفر 1447 بنجم "قلب الأسد" يزيّن سماء الحدود الشمالية    "سدايا" تدعم الدور المحوري للمملكة    الرئيسان السوري والفرنسي يبحثان مستجدات الأوضاع في سوريا    صفقة من العيار الثقيل تدعم هجوم أرسنال    وسط تحذيرات من المخاطر.. 1.3 مليون سوداني عادوا من النزوح    القيادة تعزي رئيس روسيا الاتحادية في ضحايا حادث تحطم طائرة ركاب بمقاطعة آمور    47 اتفاقية بقيمة 24 مليار ريال.. السعودية.. دعم راسخ للتنمية المستدامة والازدهار في سوريا    نور تضيء منزل الإعلامي نبيل الخالد    الفيفي إلى عش الزوجية    تدشين مبادرة "السبت البنفسجي" لذوي الإعاقة    العنوان الوطني شرط لتسليم الشحنات البريدية    ولادة "مها عربي" في محمية عروق بني معارض    الأهلي يخسر ودية سيلتيك بركلات الترجيح    أليسا وجسار يضيئان موسم جدة بالطرب    وفاة الفنان زياد الرحباني.. نجل فيروز    أحمد الفيشاوي.. "سفاح التجمع"    الاحتراف العالمي الجديد    بلازا يعلن قائمة "أخضر الصالات" المشاركة في بطولة القارات    "أنتوني" يرحب بالاحتراف في الدوري السعودي    أغلقته أمام عمليات تفتيش المنشآت.. إيران تفتح باب الحوار التقني مع «الطاقة الذرية»    واشنطن تحذر من المماطلة.. وجوزيف عون: لا رجوع عن حصر سلاح حزب الله    6300 ساعة تختم أعمال الموهوبين بجامعة الإمام عبدالرحمن    رحيل زياد الأسطورة    خطيب المسجد الحرام: التشاؤم والطيرة يوقعان البلاء وسوء الظن    عسكرة الكافيين في أميركا    بتقنية الروبوت الجراحي HugoTM️ RAS .. مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يجري عمليتين ناجحتين    أمير الشرقية يعزي أسرة الثنيان    رئيس أركان القوات البحرية يلتقي عددًا من المسؤولين الباكستانيين    نائب وزير الرياضة يشكر القيادة بمناسبة تمديد خدمته لمدة أربع سنوات    المدينة المنورة تحيي معالم السيرة النبوية بمشروعات تطويرية شاملة    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عبدالعزيز الغريض    الأمير محمد بن عبدالعزيز يستقبل قائدَي قوة جازان السابق والمعيّن حديثًا    المفتي يطلع على أعمال "حياة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهد مستعادة من شريط سقوط مدن الشمال العراقي . أقليات الموصل وأكثريتها القومية في يوم تسليم حاميتها دفة المدينة للأميركيين والأكراد
نشر في الحياة يوم 23 - 04 - 2003

يروي آزاد وهو عراقي كردي من مدينة اربيل انه في عام 1991 كان مجنداً في الجيش العراقي ويخدم في الكويت، وما ان بدأ الأميركيون عمليتهم ضد الجيش العراقي في حينه، حتى فرّ وتمكن من الوصول الى اربيل. وبعد يومين على وصوله بدأت الانتفاضة التي قام بها الأكراد في وجه الجيش العراقي. في الأيام الأولى شرع الجيش بحملة اعتقالات وتصفيات واسعة في حق الناشطين الأكراد، فراح الجنود يفتشون المنازل بحثاً عن الرجال لاعتقالهم. لطفي كان في منزله حين طرق الجنود بابه، ففتحت زوجته الباب ليسألها ضابط عن وجود رجال في المنزل، فنفت. لكن جندياً اطل برأسه وشاهد لطفي جالساً في غرفة داخلية، فزجر الزوجة وطلب من لطفي الحضور فوراً. وفي هذا الوقت ارتمت الزوجة بين قدمي الضابط وراحت ترجوه ان يعفو عن زوجها. لاحظ الضابط ان لهجة الزوجة مصلاوية نسبة الى الموصل، فسألها من اين تكون، فأجابت انها من الموصل. قرّع الضابط الزوجة قائلاً ان نساء الموصل لا يركعن على الأقدام وانه سيعفو عن زوجها لئلا يرمّل امرأة مصلاوية.
تشكل مدينة الموصل واحدة من المدن الأساسية التي تغذى منها الجيش العراقي والحرس الجمهوري تحديداً بعدد كبير من عناصره وضباطه، واذا كانت تكريت مركز العصبية العشائرية التي تغذى منها النظام، فإن الموصل هي مركز العصبية العسكرية التي رفدت الحرس الجمهوري بعدد من قيادييه وتولى الكثير من ابناء المدينة مناصب ووزارات عسكرية. فيما يعطي آخرون تعريفات اخرى لميول ابناء المدينة، فيؤكدون انهم قوميون متشددون، لكن قوميتهم ليست بعثية بقدر ما هي استجابة لأزماتهم مع القوميات الأخرى المجاورة، لا سيما الكردية منها، ويشير هؤلاء الى ان الموصل كانت مركز التنظيمات القومية لا سيما الناصرية منها خلال عقد الستينات.
اليوم الذي اعلنت فيه حامية الموصل استسلامها للأميركيين كان نهار الجمعة في الرابع عشر من الشهر الجاري. الطريق من اربيل الى الموصل يعج بآلاف الزاحفين الى المدينة لأهداف مختلفة، البعض تعيدهم عناصر البيشمركة وآخرون يتمكنون من الافلات عبر طرق فرعية. السائق الساخر من المتوجهين الى المدينة يقول ان من لم يوفقوا بالأمس في كركوك بغنائم يتوجهون اليوم الى الموصل. الجسور المدمرة من جراء معارك الأيام الفائتة استعيض عنها بكميات من التراب حجزت مياه الأنهر وتولت جرافات الحزب الديموقراطي الكردستاني تمهيدها لكي تصلح لعبور السيارات. اما مصير الأنهر بعد حجز مياهها فكان ان تحولت الى الحقول المجاورة محدثة بحيرات وآتية على الكثير من الشجر والمزروعات. لا شيء يمكن ان يقف في وجه العابرين الى الموصل، حتى طلقات الرصاص التي كان يطلقها عناصر البيشمركة لم تكن تثير مخاوف المصممين على العبور.
جسر الخازر الذي شهد المعركة الوحيدة تقريباً في شمال العراق بين الجيش العراقي والوحدات الخاصة الأميركية، نسفه العراقيون قبل انسحابهم. النهر الذي يعبر من تحته جارف ومن الصعب الاستعاضة عن الجسر بكميات من التراب، والتوجه الى الموصل يحتم تجاوز النهر. السائق مستغرق بتساؤلاته حول دافع هذه الأعداد من المدنيين للوصول الى الموصل بهذه السرعة. بالأمس كان الازدحام على طريق كركوك مبرراً، اذ ان عشرات الآلاف من ابناء المدينة ابعدوا عنها الى السليمانية وأربيل خلال العقود الماضية وهم يستعجلون العودة اليها فور انسحاب الجيش العراقي، اما هؤلاء الزاحفون الى الموصل فهم بحسب السائق الكردي ذاهبون لتغذية مشاعر التنابذ. الجسر الذي استعيض عنه بجبل ترابي كان من الصعب على السيارات العادية تجاوزه، فقط سيارات الدفع الرباعي، ولكن السكان الأكراد كانوا ينزلون من سياراتهم ويتجاوزونه مشياً، ويتابعون على اقدامهم في انتظار مصادفة ما تنقلهم الى الموصل.
الطريق المستقيمة تغص بمئات المشاة من الرجال واحياناً من النساء. عناصر البيشمركة يوقفون سيارات المدنيين وينزلون منها ركابها، لكن هؤلاء الأخيرين يعودون فيتابعون تقدمهم سيراً على الأقدام. وقبل الوصول الى الموصل تجمع مئات من سكان المنطقة يرقبون هذا السيل الجارف من المتوجهين الى المدينة. لم نتمكن من تحديد اتجاه ملامحهم. الذهول على وجوههم كان يصعب رده الى خوف ام مجرد ترقب. انهم عشائر كردية فرض عليهم النظام تبديل قومياتهم ويبدو ان زعماءهم رضخوا بعدما قدمت لهم اغراءات بإعادة ملكيات كانت انتزعت منهم، وبعد قبولهم بالأمر اخرجهم الأكراد من عباءتهم ولم يتمتعوا بقبول عربي كامل. ورجال هذه العشائر الواقفون في لحظة سقوط الموصل على مدخلها يتأملون ما ستؤول اليه اوضاعهم في ظل هذا التغيير الكبير الذي تعيشه منطقتهم.
الأسواق والمخازن التموينية عند مدخل الموصل تحولت الى ساحة نهب عام. السارقون لم يخبئوا وجوههم، والأكراد والعرب راحوا في هذه اللحظة وأثناء حملهم البضائع يتبادلون التهم. رجل اطل برأسه من خلف الصندوق الذي يحمله وقال ان الأكراد هم الذين يسرقون. الأطفال اعتبروا ان هذه اللحظة هي ذروة العبث فراحوا يقودون السيارات ويخطئون توجيهها فتهوي بهم، وآخرون عثروا على معدات زراعية فحولوها الى العاب. لكن المشهد لم يكن احتفالياً، ففي غمرة العبث والنهب واللهو كان ثمة حزن على وجوه الواقفين على مدخل الأسواق العامة في الموصل. ثمة مفارقات تُصّعب رسم صورة منسجمة، وعناصر المشهد على قدر كبير من عدم التوازن. حزن عميق يرافقه ميل احتفالي وتخريبي. شاحنة تخرج من المجمع حاملة سيارة من طراز جديد، والرجل المصلاوي السمين والأسمر لا يخفي دمعته ويقول: "صدام مهجة قلوبنا" ويضيف: "لقد خانوه جميعهم".
التقدم في اتجاه أحياء الموصل الداخلية وشوارعها في هذا الوقت يشعرك بمزيد من اجواء الحذر. الحزن الممتزج بالنهب والتخريب يتحول الى شحن وغضب كلما تقدمت. تظاهرات صغيرة يقوم بها رجال وشباب غاضبون. ما زلنا في النصف الأول من الموصل، النصف الواقع شرق نهر دجلة، والموصل بمعزل عن الذي يجري تبدو مدينة عامرة بالمؤسسات ودقيقة التخطيط خلافاً للمدن الأخرى في شمال العراق.
الوجوه على طرفي الطريق لا تبعث على الاطمئنان، والرجال السمر الموزعون على مداخل الأبنية يبدو التعب على وجوههم. انهم عناصر الحزب والجيش الذين خلعوا بزاتهم ولكنهم ابقوا على سلاحهم الفردي. لا يبدو انهم مهيأون لشن حرب ولكنهم في طور مراقبة ما يجري. الواحد من هؤلاء يقف مترقباً مصيره ويده على الزناد. كل شيء في الشارع مستباح، ويمكن اي عابر ان يأتي على الفعلة التي يرغب فيها. لا شيء في هذا الوقت يمكن ان يكون رادعاً، والغرائز الأولى تتحرك في انحاء المدينة. السيدة الواقفة امام ساحة البلدية كانت تجمع اوراقاً تناثرت من احد المكاتب. ظهرت فعلتها هذه ضرباً من العبث، فماذا تجدي الأوراق وسط تبعثر هذه الأحجام المعدن والخشب في كل انحاء الساحة. الواقفون بقربها من الرجال كانوا حائرين ومترددين، وهم لشدة ارتعادهم لم يكترثوا لفعلة المرأة. توجهوا نحو الصحافيين وسألوهم عن الأميركيين الذين لم يصلوا بعد على رغم الاتفاق الذي عقدته عشائر المدينة معهم والذي يقضي بدخول المارينز سلماً الى المدينة، على ان تسلم الفرقة العسكرية الموجودة في المدينة نفسها اليهم. من الواضح ان هؤلاء الرجال المرتدين لتوهم ثياباً مدنية هم على وشك الاقدام على امر ما. هم غاضبون من وصول الأكراد الى مدينتهم، وهم في الوقت نفسه غير مطمئنين الى مصائرهم، وبقاؤهم في المدينة محفوف بأعمال انتقامية من الممكن ان يقوم بها اعداء محليون سبق ان اضطُهدوا. ولكن هؤلاء من دون شك يشعرون ايضاً بانزياح ثقل كبير عن المدينة، فالسلطة اذا كانت من ذلك النوع الذي مورس في العراق، هي ثقل حتى على من يمارسها، ومعظم هؤلاء سيقوا اليها سوقاً. يمكن المراقب تحسس ازدحام هذه المشاعر والهواجس في وجه رجل واحد. اجسام هؤلاء الرجال في لحظة انفلات من قيد ما، حتى اثناء خوفها وتوجسها.
نهر دجلة يفصل بين حالين متفاوتي الأوضاع في المدينة، ففي الجزء الغربي الجنوبي من المدينة تتركز المؤسسات الرسمية والفنادق وفي هذا الجزء ايضاً المدينة القديمة وساحة المحافظة حيث مكتب المحافظ وبعض المصارف. وهنا صار المصلاويون اشد ظهوراً وجرأة. عناصر البيشمركة القليلون حاصرتهم جموع غير مسلحة وراحت تطلب منهم المغادرة، وجموع اخرى تولت التقدم في اتجاه الصحافيين وشرعت تطلق تهديدات بضرورة مغادرة الجميع المدينة. وكانت وتيرة الغضب ترتفع عندما تتقدم بعض النسوة ويشرعن بتقريع الرجال على تهاونهم مع الناهبين، وكان الرجال في هذه اللحظات يشتعلون غضباً يوزعونه تارة على النسوة وتارة على القادمين الى المدينة. ووسط هذا الغضب كان يصل الى مسامع الجموع صوت ارتطام باب حديد يحاول البعض كسره، وما إن كسر الباب حتى انطلقت جموع في اتجاهه. انه المصرف الذي ظهرت صور العابثين فيه وهم يحرقون الأوراق النقدية، ففي تلك اللحظة وصل السارقون والغاضبون في وقت واحد وراح الجميع يعبث بالأوراق النقدية واختلطت الغايات وراح الجميع ينثرون الأوراق ويقطعونها في لحظة غياب فعلي عن الوعي. وفي هذا الوقت كانت اصوات طلقات الرصاص تصل غليظة وقريبة، وأصاب بعضها اشخاصاً من المتجمعين، لكن ذلك لم يحدث هلعاً. كان المصابون يهوون ببطء ويتولى البعض نقلهم الى جهات مجهولة، من دون ان يردع ذلك احداً. كان العراك غامض المقاصد، فهؤلاء المتشاجرون في ساحة المحافظة كانوا ينتقلون من زاوية الى اخرى ويبدلون خصومهم ليعاودوا بعد لحظات اخرى الانقضاض على متجر. لكن هذا المشهد خلا تقريباً من البضائع والمسروقات. الاحتقان في هذا الجزء من المدينة لم تتخلله عمليات نهب كبيرة. اقتصر الأمر على بعض الأوراق المتناثرة من مكاتب الوزارات المدنية، ولكن سرقة هذه الأوراق وجمعها ثم منع السارقين من نقلها صاحبها عنف مضاعف. فسرقة المعدّات والبضائع والسيارات كان يمكن فهمه ولكن سرقة هذه الوزارات حملت تفسيرات اخرى. بعض السكان راح يقول انهم يجمعون هذه الأوراق ليتحققوا من اسماء الموظفين او العاملين مع النظام. هذه التوقعات كانت تضاعف من الاحتقان، فالمتجمعون في ساحة المحافظة من شبان الموصل يعتقدون ان ساعة محاسبتهم قريبة. الصحافيون العرب تمكنوا من النفاذ الى مشاعر هؤلاء اكثر من الصحافيين الغربيين، وبعدما تحول الجمع الى قوة ضاغطة شرع عدد من الشبان بالتوجه الى الأماكن التي يتجمع فيها الاعلاميون وراحوا يطلبون منهم ايصال تهديداتهم لمن ينوي الدخول الى المدينة من غير الأميركيين "فالأميركيون غزاة ونحن قبلنا بدخولهم، اما الآخرون فسنقاومهم". شاب من المتجمعين قال لمصور لبناني يعمل في وكالة غربية: "انتم اللبنانيين سيصلكم الدور، لا احد من العرب سينجو من سقوط النظام عندنا".
الموصل التي سبقت الدخول الأميركي - الكردي اليها مفاوضات مع عشائرها وفعالياتها الذين وصل قبل ليلة وفد منهم الى بلدة صلاح الدين وطلبوا دخولاً هادئاً الى المدينة، لم تتمكن من ضبط نفسها حيال هذا التحول الذي اصابها في ليلة واحدة. ويبدو ان الأيام التي سبقت هذه الليلة لم تكن سهلة، فالطيران الأميركي راح يلاحق دوريات الحزب وفدائيي صدام من حي الى حي، ويوم قصفت الطائرات الأميركية مكاتب الصحافيين في بغداد شعر ابناء المدينة بأن مكتب الجزيرة في الموصل، وهو المكتب الصحافي الوحيد في المدينة، يشكل خطراً عليهم فقاموا بالتضييق على المراسل والعاملين واستمروا في ذلك الى ان غادر فريق الجزيرة الموصل. والمتجول في الموصل سيتفهم من دون شك ما اقدم عليه اهلها في حق الفريق الصحافي، فقد تحولت الطائرات الأميركية الى قناص فعلي تتسلل قذائفه من بين البيوت متجهة الى هدفها، ومراكز حزب البعث المختبئة بين المنازل تحولت الى حطام اسود من دون ان يمتد الخراب الى مساحات حولها. ويبدو ان الهدف الرئيس للطائرات الأميركية في الموصل كما في معظم المدن العراقية كان مركز الاستخبارات، او ان هذا المركز هو ما كان يظهر بداية للزائر، فقد اختار النظام العراقي قلب المدن ليقيم فيها مراكز جهاز الاستخبارات، وغالباً ما استهدفت هذه المراكز بقصف عنيف. هذا الأمر دفع الكثير من السكان الى الاعتقاد ان بين القتلى الذين سقطوا اثناء الغارات مئات من المعتقلين السياسيين الذين تتولى الاستخبارات اعتقالهم، وهم يقضون في سجونها شهوراً وربما سنوات قبل نقلهم الى السجون الأخرى. انه حال العشرات من العوائل التي قصد افراد منها مركز استخبارات الموصل صبيحة ذلك اليوم الذي انسحب فيه الجيش العراقي من المدينة، لكنهم وجدوه مدمراً بالكامل. اما نحن فوصلنا ظهراً الى المدينة وكانت العائلات غادرت، لكن سكان المنازل المجاورة كانوا لا يزالون واقفين قرب المبنى المدمر وتحدثوا عن المرأة التي صعقها مشهد المبنى الذي تعتقد ان ابنها كان مسجوناً فيه، وهي حاولت الدخول بين الأنقاض، لكنهم اقنعوها بأن المساجين كانوا ينقلون الى سجون اخرى. من السهل تمييز الجنود والضباط عن المواطنين، ثم ان هؤلاء لم يخفوا هوياتهم على رغم تبديل ثيابهم. من الواضح ان عدداً منهم ليسوا من الموصل ولكنهم كانوا من الجنود الذين يخدمون فيها، ولم يتمكنوا بعد من مغادرتها. رجل كان يرتدي ثوباً عشائرياً قال انه عقيد في الجيش العراقي وأشار الى شباب متفرقين في انحاء الشارع قائلاً هؤلاء جنودي بعضهم عاد الى منزله في البلدة والآخرون ينتظرون انجلاء الأوضاع حتى يغادرون. الجميع يؤكد ان الجيش لم يكن يرغب القتال وأن بقاءه في مواقعه ناجم عن توزع فرق الاعدامات على مداخل المواقع لمنع الجنود من الفرار.
ويبدو ان مسألة عدم الاكتراث لضحايا الجيش العراقي في غمرة تغطية الحدث شكلت احدى الثغرات الكبيرة في عملية التغطية، فالجزء الغالب من ضحايا هذه الحرب كانوا من الجنود العراقيين والعينات التي تمكن الصحافيون من مقابلتها مثلت نموذجاً للضحية الفعلية. احد الضباط راح يلوم الاعلام على تسليطه الأضواء على المدنيين قائلاً: "ألسنا بشراً... نحن ضحايا بالمعنى الفعلي، فالمدنيون كانت تتاح لهم فرص الهرب من الغارات القليلة التي استهدفتهم، اما نحن فكانت الغارات تستهدفنا ولكننا ممنوعون من الهرب". كلام الضابط الذي سلم نفسه للبيشمركة كان اشبه بالمناشدة، والجنود الذين كانوا يقفون حوله كانوا فعلاً صوراً حقيقية للضحايا. واحد من هؤلاء كشف عن اذنه التي قطع جزء منها في فترة سابقة عندما حدد النظام العراقي عقوبة قطع الأذن لمن يحاول الفرار من الجيش. آلاف من الجنود قتلوا ولكن ذلك بقي في منأى عن الاستهوال، اذ اعتبر الجميع ان مقتل الجنود في الحرب امر طبيعي، ولكن في حال الجيش العراقي يبدو كلام الضابط هو الحقيقة. الجنود هم الضحايا الذين لا يملكون زمامهم، ووجوههم على الطرقات وفي المعتقلات تحمل ندوب النظام اكثر مما تحملها وجوه المدنيين العراقيين. معظمهم لا يعرف شيئاً عن مصير اهله وأولاده في المدن العراقية البعيدة، ومعظمهم ايضاً يردد الحكايات نفسها عن فرق الاعدامات وعن محاولاته الفرار، وكثيرون منهم اقتطعت اجزاء من آذانهم كعقوبة عن محاولة فرار عاثرة. كانوا متفاوتي السحنات بما يوحي انهم من مناطق متباعدة، ولكن انقضاء سنوات على خدمتهم في الجيش العراقي تصعب امكان تخيلهم ابناء او آباء او اشقاء. انهم ايتام هذا الجيش على قدر ما هم ضحاياه، وهم حين تحدثوا عن عائلاتهم لم يوحوا بأن ثمة من ينتظرهم. فسنوات تجنيدهم الطويلة قطعتهم عن اي نسيج آخر من الممكن ان يكونوا خرجوا منه، والحياة التي رووا فصولاً منها ستبتر من دون شك اي صلة اخرى. فمعظمهم من المجندين اجبارياً، ومضى على خدمتهم في الجيش بين الخمس والعشر سنوات، خاضوا في اثنائها تجارب الحرب والسجن والتعذيب بصنفيه، اي كضحايا وكجلادين.
النظام هو من كان يمسك بالمجموعات السكانية في الموصل وهو من كان يصوغ علاقاتها بحيث لا تعرف هذه المجموعات طريقاً الى بعضها بعضاً الا عبره. لا بل ان النظام اشعل الضغائن من دون ان يفجّرها. فالبرود في العلاقات بين المجموعات السكانية الذي عاينّاه لحظة انهيار النظام كان يضمر درجة في التوتر الواضح. ففي الموصل اكثرية سنية، وعشائر كردية وأقليات آشورية وكلدانية، وفي المدينة ايضاً اقلية شيعية. من الواضح ان اضطراباً كبيراً يشوب العلاقات بين هذه المجموعات. السنّة يعتبرون ان الأكراد في صدد غزو المدينة ويشعرون بلحظة غبن كبيرة، والشيعة القليلون تجمعوا بما يوحي انهم خارج المشهد، وأطلقوا نوعاً مختلفاً من التظاهرات التي حملوا فيها صور الإمام الخوئي وراحوا يطلقون شعارات ضد صدام وضد ايران في آن. كان مشهد الجموع في المدينة مفككاً، وحملت كل مجموعة هموماً وغايات مختلفة. وفي هذا الوقت بدأ عناصر البيشمركة بالانسحاب من المدينة فيما بدأت سيارات "هامر" التي تحمل جنوداً اميركيين بالوصول الى الموصل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.