الاحتقان الاهلي الذي رافق خروج الجيش العراقي من مدينة الموصل ووصول عناصر البيشمركة الكردية اليها، بلغ حدود الانتفاضة، ولكن غياب اي بوصلة لتحرك المواطنين في لحظات هياجهم ربما ساعد على تفادي كارثة دموية كان من الممكن ان تحصل. في الثانية عشرة ظهراً وصلنا الى الموصل، وكان في استقبالنا كما في معظم المدن التي انسحب منها الجيش، وضع غامض يختلط فيه الخوف بالدخان، وبعربات السارقين وأغراضهم التي أخرجوها من المباني الرسمية والخاصة. ولكن ثمة شيئاً مختلفاً في هذه الجموع، ثمة أناس خائفون، ووجوه متسائلة، وان تكون صحافياً عربياً فهذا يتيح لك فرصة ان يفتح هؤلاء لك قلوبهم. انهم منحازون الى النظام العراقي، يحبون صدام ويعتبرون ان الحملة الاميركية على العراق احتلال تجب مقاومته. رجل اربعيني يقف بين جموع عند مدخل المؤسسة العامة للاستهلاك راح يقول: "هذه السرقات يقوم بها أناس من غير أهل المدينة. وما يجري جريمة بحقنا…". معظم البضائع المنهوبة خردة لا تصلح للاستعمال، والمدينة في لحظة تحوّل غير واعٍ وعنيف. طفل يقود جراراً زراعياً يهوي به في حفرة، رجال يبكون على فقدانهم رئيسهم، ورجال آخرون يحتفلون، وفي آخر الشارع تظاهرة لمجموعة شيعية ترفع صورة الإمام الخوئي وترتفع حماستها الى حد الإتيان على كل شيء يقف في وجهها. الاستغراق في التقدم نحو أحياء المدينة الداخلية شيء من العبث، ضحكات مدوية يطلقها شبان يعبرون بسرعة على دراجاتهم النارية يحمل واحد منهم العلم العراقي، وفي هذه اللحظة تصل امرأة بسيارة يقودها ابنها على الارجح وتترجل ثم تبدأ بالبكاء والصراخ أمام مجموعة رجال متجمعين قائلة: "أين أنتم يا رجال الموصل؟ اين كرامتكم؟ المدينة تُنهب وأنتم واقفون". يلبي الرجال نداء المرأة ويتوجهون الى الصحافيين ويبدؤون بالشكوى من الناهبين، لكنهم يتحولون بعد لحظات الى التهديد، ثم يبدؤون بالقول أن سلاحهم في منازلهم وانهم ينصحون الصحافيين بالمغادرة على وجه السرعة. قد يصعب وصف عمليات السرقة في ساحات الموصل. فالمدينة عامرة بالمؤسسات والمصارف والمخازن، والجموع بين المنشآت هائمة وغير منسجمة. فجأة تتسارع الخطى باتجاه باب حديد ويبدأ هؤلاء بتحطيم الباب، وبعد لحظات يشرع آخرون بإطلاق النار من فوق رؤوس هذا الجمع الذي لا يكترث للأمر. في هذه اللحظات يتبادر سؤال عن الجهة التي تحكم المدينة الآن. عناصر البيشمركة المسلحون عددهم قليل جداً، والمسلحون الآخرون لا احد يعرف اذا كانوا أكراداً ام عرباً، فبينهم من يحمل السلاح وعلى وجهه قسمات رعب وتردد، وبجانبهم يقف رجال من المؤكد انهم جنود عراقيون خلعوا البزات لتوهم، وبعض هؤلاء تقدم نحونا وراح يسأل: "أين الاميركان؟" وهل نعلم المدة التي ستخضع الموصل خلالها لاحتلالهم؟ كانت لحظات غير مفهومة حقاً. فهذا الرجل الذي راح يقول لنا "اخرجوا من المدينة" لم يكن مفهوماً ان كان يهددنا أم ينصحنا. والسارقون اختلطوا بين عرب واكراد، وبين فرحين وتعساء، وهذا كله في ظل غيابٍ كامل لأي جندي اميركي. الأقلية الشيعية خرجت رافعة صور الخوئي وشاتمة صدام حسين، ولكنها في الوقت نفسه مهددة الاميركيين والأكراد. بعض السكان العرب رحّبوا بالاكراد ولكنهم توعدوا الاميركيين. والبعض الآخر قال ان اميركا "أمر واقع" اما الاكراد "فلن نسمح لهم بأن يحكمونا". وخلافاً لمدن الشمال العراقي الاخرى، تبدو الموصل مدينة كبيرة ومعزّزة ببنى ومنشآت بحيث تتسع لخراب أكبر، ثم ان سكانها والى جانب انغماسهم في حال الفوضى يعيشون لحظات حزنٍ وخوف من الممكن ان تتحول الى غرائز قاتلة. وضاعف من هذا الوضع ذلك الدمار الكثيف الذي خلفه القصف الاميركي للمدينة. فقصف مبنى الاستخبارات دمّر حياً كاملاً في محيطه، والمعسكر الكبير في ناحية المدينة الاخرى تحول الى كومة هرمية. نهر دجلة يقطع الموصل الى نصفين. وبعد تجاوزنا الجزء الاول للمدينة، شعرنا بأن التوتر صار أشد، لكنه لم يعد جماعياً. فالحائرون في ان يكونوا مقاتلين أم سارقين، محبين للنظام أم ثائرين عليه، تحولوا في هذا الجزء من المدينة، الى أفراد على وشك ارتكاب أمر ما. اذاً علينا العودة بسرعة الى اربيل. هذا ما قاله جميع الصحافيين الذين أدخلتهم البيشمركة الى المدينة قبل أن تدخل هي.