الأمير مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل خريجي جامعة الأمير مقرن    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    جمال الورد    99 % انتشار الإنترنت في المملكة    سقوط الجدار الإعلامي المزيف    لاعبو الأندية الإيطالية خارج القائمة.. ولاعبو «البريمير ليغ» الأكثر حضوراً    الاتفاق والنصر إلى المباراة النهائية لممتاز قدم الصالات    الاتحاد يتغلّب على الهلال وينتزع ذهب نخبة الطائرة    ذكاء التوقيت والضمير العاطل    المركز الوطني للمناهج    مؤقت عالمي    ب 10 طعنات.. مصري ينهي حياة خطيبته ويحاول الانتحار    رَحِيلُ البَدْرِ    انكسار الهوية في شعر المُهاجرين    المقاهي الثقافية.. والمواهب المخبوءة    مفوض الإفتاء في جازان يشيد بجهود جمعية غيث الصحية    «البعوض» الفتاك    أمانة الطائف تسجل لملّاك المباني بالطرق المستهدفة لإصدار شهادة "امتثال"    أولمبياكوس يهزم أستون فيلا ويبلغ نهائي دوري المؤتمر الأوروبي    تعزيز الاستدامة وتحولات الطاقة في المملكة    الحياة في السودان مؤلمة وصادمة    أمير منطقة جازان يلتقي عدداً من ملاك الإبل من مختلف مناطق المملكة ويطّلع على الجهود المبذولة للتعريف بالإبل    رئيس المجلس العسكري في تشاد محمد إدريس ديبي إتنو يفوز بالانتخابات الرئاسية    رئيس جامعة جازان المكلف ⁧يستقبل مدير عام الإفتاء بالمنطقة    ليفركوزن يسقط روما ويتأهل لنهائي الدوري الأوروبي    أسماء القصيّر.. رحلة من التميز في العلاج النفسي    كيف نتصرف بإيجابية وقت الأزمة؟    بلدية صبيا تنفذ مبادرة لرصد التشوهات البصرية    قُمري شلّ ولدنا    للرأي مكانة    النصر يتغلب على الأخدود بثلاثية ويحكم القبضة على الوصافة    رونالدو يحفز النصراوية بعد الفوز على الأخدود    رسالة من أستاذي الشريف فؤاد عنقاوي    حقوق الإنسان في القاموس الأمريكي    تجنب قضايا المقاولات    دلعيه عشان يدلعك !    شركة ملاهي توقّع اتفاقية تعاون مع روشن العقارية ضمن المعرض السعودي للترفيه والتسلية    وزير النقل: 500 ريال قيمة التذكرة بين الرياض وجدة.. ولا نتدخل في أسعار «الدولية»    مكان يسمح فيه باقتراف كل الجرائم    "تاسي" ينهي تداولات الأسبوع على تراجع 1.4%    تدشين مشروعات تنموية بالمجمعة    الملك وولي العهد يعزيان رئيس الإمارات في وفاة هزاع بن سلطان بن زايد آل نهيان    أمير الرياض يرعى حفل تخريج الدفعة ال 15 من طلاب جامعة المجمعة    دله البركة توقع عقد إنشاء شركة مع يوروبا بارك لتنمية قطاع الترفيه في المملكة    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من تركيا متجهة إلى المملكة    الجمعية السعودية لطب الأسرة تطلق ندوة "نحو حج صحي وآمن"    نائب أمير عسير يتوّج فريق الدفاع المدني بكأس بطولة أجاوييد 2    مفتي عام المملكة يستقبل نائب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    أمطار رعدية ورياح تؤدي إلى تدني في الرؤية بعدد من المناطق    القيادة تعزي رئيس البرازيل    يسرق من حساب خطيبته لشراء خاتم الزفاف    روح المدينة    خلال المعرض الدولي للاختراعات في جنيف.. الطالب عبدالعزيزالحربي يحصد ذهبية تبريد بطاريات الليثيوم    فهيم يحتفل بزواج عبدالله    " الحمض" يكشف جريمة قتل بعد 6 عقود    دجاجة «مدللة» تعيش حياة المرفهين    لقاح لفيروسات" كورونا" غير المكتشفة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«رجلنا في بغداد»: المرشّح ... الحكيم والصدر بين الاحتلال والمقاومة (4)
نشر في الحياة يوم 03 - 06 - 2010

تنشر «الحياة» على خمس حلقات فصولًا من كتاب الصحافي الأميركي جون لي أندرسون «رجلنا في بغداد» الذي يتناول فيه بعض خفايا الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولات الجانبين العراقي والأميركي إعادة ترتيب الوضعين السياسي والأمني في البلد، في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة.
تتناول الفصول أدوار شخصيات محورية في فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين والأحداث التي واجهتها والمساعي الداخلية والخارجية لتطويق أخطار الحرب الأهلية.
يصدر الكتاب باللغة العربية قريباً عن مؤسسة «شرق غرب للنشر- ديوان المسار».
عاش طارق عزيز الذي كان مرة مبعوث صدام حسين الأكثر ظهوراً في فيلا مبنية من الطابوق في بغداد على ضفة نهر دجلة مواجهة لمشهد ساحر من الماء وبستان أشجار النخيل على الجانب الآخر، حيث كان يسكن العديد من جيرانه من كبار الأعضاء في نظام صدام حسين أو من أقرباء صدام. إن مجمع قصر الجادرية الذي يعود إلى عائلة صدام يبعد بضع مئات من الامتار عن ذلك. وكان دار عزيز منبسطاً وواسعاً مع مسبح في الباحة الخلفية لكنه في موقع حساس – فهو قريب جداً من الأعمدة الاسمنتية القبيحة لجسر الجادرية التي تشرف عليه. أما الأرض حول الأعمدة فهي غير مستوية ومملوءة بالنفايات ما يجعل زيارة البيت عند الظلام تثير الأعصاب. ولقيادة السيارة على ضفة النهر عليك النزول إلى شارع غير مضاء والقيادة بين الأعمدة ثم تحت متاريس الجسر. ويبدو لي أن الموقع ممتاز لنصب الكمائن، والجسر موقع مثالي لإطلاق القنابل الصاروخية.
إن طارق عزيز محتجز مع أعضاء قياديين آخرين من حكومة صدام حسين في سجن تديره الولايات المتحدة قرب مطار بغداد، وأصبح بيته الآن دار إقامة لزعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وهو أكبر تجمع شيعي جيد التنظيم في البلد. وقبل الحرب كان أعضاء المجلس الأعلى مطاردين وكان يتم تعذيبهم إن قبض عليهم فقد يقتلون أو يسجنون. وأقام أعضاء المجلس في مدن إيرانية مثل طهران وقم، أما مقاتلو المجلس الأعلى فقد عملوا من معسكرات سرية على طول الحدود العراقية - الإيرانية.
ومع افتراض إجراء نوع من الانتخابات في العراق هذ العام (2006)، فإن عبدالعزيز الحكيم الذي أصبح رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بعد شقيقه آية الله محمد باقر الحكيم الذي اغتيل في شهر آب (اغسطس) 2003، له فرصة جيدة في أن يصبح رئيس العراق التالي – إن بقي على قيد الحياة إلى هذه الفترة. فقبل أيام من زيارتي الأخيرة للحكيم في شهر تشرين الأول (اكتوبر) أطلق أحدهم صاروخاً عليه حين كان في زيارة لإحدى الحسينيات.
الحكيم رجل متزوج وله أربعة أولاد. وحين عاد إلى العراق بعد عقدين من النفي في إيران بقيت عائلته في قم، إلا أنها عادت معه الآن ويسكن الجميع في بيت طارق عزيز. أما مساعدوه فيعملون في الطابق الأرضي في غرف متقشفة مؤثثة بمناضد وكراسٍ وليس أكثر من ذلك. وأرضية إحدى الغرف مغطاة بسجادة كبيرة يجلس عليها هؤلاء ويتقاسمون الوجبات ثم ينامون على السجادة لدى انتهاء عملهم.
أما الغرف العلوية حيث يلتقي الحكيم بضيوفه فمزينة بأسلوب ديكور شائع في العراق. فالسجاد فارسي ملون والكراسي مترفة تشبه العرش والأرائك محفورة في شكل باروكي وذات خلفية مذهبة. أخذت إلى غرفة فيها طاولة اجتماعات ضخمة حيث كان الحكيم يترأس نوعاً من مراسيم التخرج لشباب أبلوا بلاءً حسناً في ورشة ما يسمى ب «الولاء والإسناد».
كان الحكيم الذي ارتدى العمامة السوداء والجلباب الرمادي الذي هو رداء رجل الدين الشيعي على رأس الطاولة أمام مايكرفون يتحدث ربما إلى مجموعتين من الشباب وامرأة واحدة. كانت المرأة تجلس نحو الخلف في كرسي دفع نحو الحائط. يبدو أنها كانت في العشرينات من عمرها وكانت ترتدي تنورة طويلة وحجاباً. وكان الحكيم يتحدث معهم حول كيف كان الشيعة على مفترق تاريخ مهم كتاريخ ثورة العشرين إثر الانتفاضة العربية ضد المستعمرين البريطانيين التي أدت كما قال إلى سلسلة من القرارات السياسية التي حددت طريقة حكم العراق منذ ذلك الحين. كما أشار إلى الاضطهاد المستمر للشيعة.
إن اضطهاد الشيعة في العراق يمتد إلى عام 1638 على الأقل حينما استولى السلطان العثماني على بغداد. وأقيم التشيع كدين لدولة فارس المجاورة في القرن السادس عشر، وتحارب العثمانيون السنّة مع الشيعة في مناطق وادي الرافدين لمئات السنين. وأحكم العثمانيون السيطرة حتى الحرب العالمية الأولى، وعلى رغم اعتناق أكثر من نصف السكان المذهب الشيعي إلا أن السنّة بقوا مهيمنين على شؤون السياسة. وقد ساند الإنكليز هذا التقليد مباشرة بعدما أقاموا دولة العراق عام 1920. فقد نصّبوا ملكاً هاشمياً سنّياً هو فيصل. وعقب الإطاحة بالملكية عام 1958 بقيت السلطة السياسية بيد السنّة مع استثناءات قليلة وإلى حين الإطاحة بصدام حسين.
وقال الحكيم مخاطباً الشباب الشيعة الجادين الذين أبلوا جيداً في درس الولاء: «سينظر إليكم الناس كقادة لهم. ونحن قد خطونا خطوة كبيرة إلى الأمام مع تأسيس مجلس الحكم» – وهو هيئة إدارية عراقية مؤلفة من خمسة وعشرين عضواً أقامتها سلطة الائتلاف الموقتة – «الذي وافق عليه شقيقي الراحل آية الله محمد باقر الحكيم رحمه الله. لكن الأمر يعود الآن لنا لاتخاذ الخطوات التالية لكي تأخذ الغالبية الديموقراطية (أي الشيعة) مكانها في المجتمع الذي عوملت فيه كمواطنين من الدرجة الثانية لأكثر من ألف وأربعمئة سنة». وقال: «إنها كانت الرغبة الكبيرة لآية الله الراحل أن يكون الأمر على هذه الشاكلة». ثم وقف الجميع وسلم الحكيم شهادات الدبلوم للخريجين الثلاثة الأوائل. الاثنان الأولان كانا شابين أحنيا رأسيهما ليقبلا يده بينما دمدم هو بكلمات الامتنان. الثالثة كانت المرأة التي تقدمت من الحكيم وركعت على الأرض أمام قدميه. عقد الشباب ألسنتهم في الغرفة في عدم الموافقة على هذا العرض وأشار الحكيم إليها لتنهض. وسلمها الدبلوم ثم أسقطت نفسها على الأرض مرة أخرى وطقطق الشباب بألسنتهم مرة أخرى. نهضت وكان وجهها محمراً وأخبرها الحكيم أنها كانت مثالاً محبوباً لدى النساء الشيعيات. ابتسم ولوّح بيده تحية لهم وغادر هو وحراسه الشخصيّون الغرفة.
واقترح المساعد الذي رافقني أن أشاهد الحكيم وهو يمنح مقابلة إلى قناة العربية، وانتظرنا إلى حين قيام فريق التلفزيون بتثبيت المعدات بينما وجدت جماعة الحكيم هناك مرتبين الأثاث وواضعين الأزهار الاصطناعية على طاولات الشاي. جلس الحكيم مقابل ستارة وطرح أسئلة حول الإشاعات التي أطلقت عن مقتله وتحدث عن أهمية إعطاء سلطة الحكم إلى العراقيين وكيف يكتبون الدستور. لقد كانت رئاسة مجلس الحكم الحاكم دورية وهي تتغير كل شهر، وكان دور الحكيم أن يكون رئيساً في شهر كانون الأول حين كانت القضية الأكثر إلحاحاً التي تواجه المجلس آنذاك هي كيفية تطابق المطالب المتعارضة للولايات المتحدة ورجال الدين الشيعة حول انتخاب حكومة موقتة.
القضية الكبيرة الثانية هي كيفية التعامل مع وضع أمني متدهور في العراق. فالحكيم لا يعتقد أن القوات الأجنبية ضرورية. وأخبر المحاور في قناة العربية «إن التنظيمات التي قاومت النظام لعقود هي الآن ممثلة بمجلس الحكم. فلدينا الآن مثلاً منظمة بدر». وقد تشكلت منظمة بدر، وهي الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، عام 1983 بعد فترة قصيرة من ذهاب عبدالعزيز الحكيم وشقيقه إلى المنفى في إيران. وكانت تدعى فيلق بدر في حينه. وتم تدريب أفراد فيلق بدر من قبل الحرس الثوري للجمهورية الإسلامية في إيران وحاربوا إلى جانب إيران في الحرب العراقية - الإيرانية. وإن كلاً من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والفيلق يحظيان بدعم الحكومة الإيرانية. في عام 1991 ومباشرة بعد حرب الخليج حين ساهم الشيعة في الجنوب في انتفاضة ضد حكم صدام احتل فيلق بدر مدينة البصرة لفترة قصيرة ونفذ أعمالاً انتقامية ضد البعثتين هناك. وقال الحكيم: «إن لديهم التنظيم والخبرة للتعامل مع الوضع الأمني». وقد حاول أن يشير إلى شبح الحرب الأهلية على غرار الأسلوب اللبناني الذي يتخوف منه العديد من العراقيين وبشكل خاص السنّة منهم كلما تمت مناقشة منظمة بدر. وقال: «حين تتم كتابة الدستور يصبح بالإمكان دمج الميليشيات في القوات المسلحة الوطنية، ونحن بودنا أن نرى عراقاً لا يحمل فيه أفراد الشرطة أسلحة في الشارع».
في الليلة التي أعقبت قيام الحكيم إجراء المقابلة في قناة العربية عدت إلى الفيلا. جلس الحكيم في كرسي مزخرف في إحدى الغرف المؤثثة في شكل صارخ في الطابق العلوي، وجلست أنا في كرسي مماثل قربه. وقدمت لنا القهوة التركية وجاء أحد الحراس الشخصيين للحكيم بولاعة وسجائر (فهو لا يدخن علناً). وكان يرتدي الحذاء الأسود نفسه ذي الكعب المطاطي الرخيص الذي كان يرتديه في اليوم السابق. إن الحكيم شخصياً غير متباهٍ، فملابسه أنيقة لكنها غير مترفة وهي مناسبة فقط لشخص هو سيد، أي من أحفاد النبي محمد، وسليل إحدى أعرق العوائل الدينية الشيعية وأعلاها مكانة في العراق. إن لآل الحكيم مكانة خاصة كعائلة للشهداء. أما أفراد العائلة ممن بقوا في العراق في الثمانينات فقد عوملوا بوحشية خاصة من قبل صدام، فقد تم قتل أكثر من خمسين منهم.
ويتكلم عبدالعزيز الحكيم في رتابة صبورة ولا يكشف عن غضبه أو انفعاله علناً. ويبدو مثل قس أو قاضٍ أكثر من كونه سياسياً، على رغم أن دوره كان دائماً سياسياً. فوالده الذي توفي عام 1970 كان مشاركاً في انتفاضة ضد البريطانيين في العشرينات، وكان يمثل المرجعية الروحية القيادية في العراق في الستينات، أي رئيس الحوزة في النجف، وهي مركز التعليم. ويحمل آية الله العظمى علي السيستاني هذا المنصب الآن. إن شقيق عبد العزيز الأكبر قد قتل في المنفى في الخرطوم عام 1988. أما الشقيق الذي قتل في شهر آب (اغسطس) 2003 وهو آية الله محمد باقر الحكيم فقد كان عالماً دينياً تبنى على رغم قراره بالذهاب إلى إيران شعار الخميني بالإسلام السياسي، وأرسل ميليشياته لمحاربة العراقيين الآخرين في الحرب العراقية الإيرانية ما أدى إلى إبعاد العديد من الشيعة العراقيين بما في ذلك بعض رجال الدين من زملائه. وكان عبدالعزيز المساعد السياسي الاقرب لشقيقه وكان قائداً لفيلق بدر.
في التسعينات وبعد حرب الخليج انخرط آل الحكيم مع ارتباطاتهم في إيران بمحادثات هادئة مع الولايات المتحدة. وكان حامد البياتي مبعوثهم في لندن الذي يعمل الآن في بغداد مع عبدالعزيز هو الديبلوماسي الرئيس لديهم. فالمجلس الأعلى كان من بين التنظيمات التي قدم لها الكونغرس الأميركي الدعم المالي من خلال قانون تحرير العراق عام 1998. لكن آل الحكيم لم يأخذوا الأموال، إلا أنهم استمروا في علاقاتهم الودية مع حكومة كلينتون ثم بعد ذلك مع حكومة بوش. في شهر آب 2002 وخلال التسارع للذهاب إلى الحرب إلى العراق زار عبد العزيز واشنطن حيث التقى نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد. لقد عارض آل الحكيم الغزو الأميركي إذ كانت لديهم خططهم لتغيير النظام أوضحوا موقفهم بعدم التدخل. في شباط (فبراير) 2003 وقبل شهر من بدء الحرب أقام أكثر من ألف مقاتل من بدر قاعدة في كردستان العراق. ولم تكن وزارة الدفاع الأميركية مسرورة لذلك وحذرت أنه في حال وجدت فيه مقاتلي بدر في الميدان مع أسلحتهم فإنها ستعتبرهم قوة معادية.
وحين عاد الشقيقان الحكيم إلى العراق تبنيا سياسة عدم المواجهة مع قوات التحالف وساعدا على استقرار المناطق الشيعية في جنوب العراق. وقد مثل عبدالعزيز مقعد المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في مجلس الحكم واستمر في معالجة أغلب المفاوضات مع الأميركيين. واستأنف آية الله حياته كرجل دين في النجف وكان يؤم الصلاة أيام الجمعة في مقام الإمام علي. في 29 آب انفجرت سيارتان ملغومتان خارج الضريح وقتلت آية الله وحوالى خمسة وثمانين آخرين. وكانت تلك الحادثة الأكبر من حيث القتل الجماعي منذ نهاية الحرب.
وبعد اغتيال شقيقه بدأ عبد العزيز بتأكيد مواقفه السياسية في شكل علني أكثر وأقوى. فقد أنحى باللائمة علناً على الأميركيين لسوء الأوضاع في العراق التي جعلت من عملية الاغتيال ممكنة، وقد جاء برجاله من فيلق بدر في استعراض قوة حول النجف. وفي تشرين الأول (اكتوبر) بعد أن قصفت إسرائيل ما ادعي بأنه معسكر تدريب للجهاد الإسلامي في سورية، سافر عبدالعزيز إلى دمشق حيث التقى الرئيس السوري بشار الأسد وأعلن أن أي هجوم من قبل إسرائيل ضد سورية سيعتبر هجوماً ضد العراق. كما أخذ عبدالعزيز جانب القادة الأكراد في معارضتهم للخطة الأميركية بإرسال قوات تركية إلى العراق.
القلق الكبير لدى الولايات المتحدة حول الشيعة العراقيين هو أنهم قد يتحولون كثيراً مثل الشيعة المتشددين في إيران. فقد كان ذلك في ذهن جورج بوش الأول عام 1991 حين لم يتدخل لوقف مذابح صدام للشيعة الذين ثاروا ضد حرب الخليج. ويقول مسؤولو المجلس الأعلى للثورة الإسلامية إنه في الوقت الذي يدينون فيه بالفضل للإيرانيين لأنهم قدموا لهم الحماية والدعم في الثمانينات والتسعينات، إلا أنهم الآن مستقلون عن طهران وتراجعت آمالهم عن الثورة الإسلامية في العراق. لكن الحكيم لا يزال له صلات ودية مع إيران. ففي كانون الأول (ديسمبر) حين أثار رئيس مجلس الحكم قضية تعويضات الحرب العراقية الإيرانية (حيث كانت إيران تريد مئة بليون دولار) فقد دعمها. إلا أن الدليل على اعتدال الحكيم وبراغماتيته هو تعاون المجلس الأعلى للثورة الإسلامية مع سلطة الائتلاف الموقتة. وقال لي ضابط مخابرات أردني سابق: «لو أراد الشيعة لأحرقوا الشرق الأوسط برمته، إلا أنهم سيقومون بذلك فقط إن شعروا بالتهديد».
وعلى رغم التاريخ الطويل من العداء بين السنّة والشيعة إلا أن الطائفية لم تكن القوة المنظمة المركزية في المجتمع العراقي في الوقت الحديث. فإلى وقت متأخر يعرف أغلب العراقيين أنفسهم بالقومية أو العشيرة أو بما يعيشون فيه من مجتمع حضري أو ريفي أو بالواقع الإيديولوجي الذي ليس بالضرورة دينياً. إلا أن الانقسامات الطائفية قد أدخلت عنوة خلال نظام صدام لأن البعثيين قد اضطهدوا المجاميع السياسية التي كانت شيعية حتى وإن كانت ثانوية ولأن الشيعة عانوا خلال حرب صدام مع رفاقهم في الدين من إيران. في الثمانينات أعدم صدام آلاف الشيعة. كما أن مئات الألوف قد اتهموا بكونهم من التبعية الإيرانية وتم ترحيلهم عنوة إلى إيران.
صعود الدين
أصبح الدين في شكله المؤسساتي أكثر أهمية في الأسابيع التي أعقبت سقوط صدام. فقد كان هناك فراغ مفاجئ في السلطة وتم ملؤه من قبل المنظمات الشيعية التي كان بوسعها أن تتعامل مع القضايا العملية، بينما كان الأميركيون يتخبطون محاولين الحصول على مأربهم. أما القوات الموالية للزعيم الشيعي مقتدى الصدر فقد سيطرت بسرعة على منطقة شاسعة شمال شرق بغداد تعرف بمدينة صدام. وقد أقاموا سيطرات في الشوارع واستولوا على المستشفيات وأعادوا تسمية المنطقة باسم مدينة الصدر تخليداً لاسم والد مقتدى الذي كان آية الله والذي اغتيل على الأرجح بأوامر من صدام قبل عدة سنوات، وبقوا يتمتعون بالسيطرة الفعلية هناك إلى الوقت الحاضر. فجيش المهدي مجاميع غير مدربة من الشباب الرعاع الذين دعموا قوة الصدر في أجزاء من جنوب العراق. وتحرك مقاتلو الحكيم من منظمة بدر واحتلوا عدة مدن شمال شرق بغداد وحاربوا الموالين لصدام في مدينة بعقوبة. وقد وصلت قوة طوارئ من البحرية الأميركية إلى المنطقة بعد أسابيع وأجريت مناوشات طفيفة مع قوات بدر قبل أن تستعيد هذه القوة السيطرة على بعقوبة. ومع المحافظة على ظهور قليل، فقد بقي أفراد منظمة بدر في مدن رئيسية أخرى عدة على طول الحدود وفي بغداد وفي بعض المناطق المتعددة في الجنوب.
إحدى أكبر الفصائل لمنظمة بدر للتطوير والإعمار وهو الاسم الرسمي لميليشيا الحكيم الآن تعمل بعيداً من مقر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في البصرة وفي منطقة الائتلاف التي تديرها القوات البريطانية. وبعد أيام قليلة من تحدثي مع الحكيم سافرت إلى البصرة مع سائق ومترجم اسمه سلام وكان الجو غائماً رطباً. وحين غادرنا بغداد علقنا في زحمة مرورية لمدة ساعة بالقرب من وحدة سيطرة أميركية تعج بأميركيين مدنيين مسلحين ربما من وكالة المخابرات المركزية الأميركية أو القوات الخاصة. وكان الرجال والأطفال العراقيون يمشون من سيارة إلى سيارة ويبيعون الموز بعلامة تشيكيتا. فاشترينا بعض الموز، وحين أكلت واحدة أخذ سلام قشر الموزة ورماه من السيارة. وقال: «لا تهتم يا سيد جون هذا هو العراق الجديد». نظرت من النافذة ورأيت قشور الموز في كل مكان.
سرنا بالسيارة نحو الجنوب لست ساعات، وعندما اقتربنا من البصرة بعد الظهر رأينا شاحنة كبيرة تشتعل فيها النيران على الجانب الآخر من الطريق حيث كانت ألسنة اللهب تلتهم جسم الشاحنة بالكامل. كان رجال يتراكضون حول الشاحنة ويبدون مهتاجين. وقد مرّ رتل من الجنود البريطانيين في تلك اللحظة ولم يتوقفوا كما لم نتوقف نحن.
لقرون عدة كان الزوار يمتدحون سحر البصرة وجمالها. فقد كتب الرحالة العربي ابن بطوطة في القرن الرابع عشر عن البيئة الحضرية للمدينة وعن ساحاتها الأنيقة وبساتينها المثمرة، إلا أن ذلك كان قبل وقت طويل، غير أن البصرة استطاعت أن تستبقي سحرها حتى القرن العشرين. ففي أوائل الثلاثينات وصفت (فريا ستارك) المدينة على أنها واحة رومانسية ترعرعت «تحت أشجار النخيل وانسابت ناعمة ومخملية كالقطيفة الخضراء». وبعد عشرين سنة أخرى كانت كتيبات الدليل لا تزال تشير إلى البصرة على أنها بندقية الشرق. إلا أنها لم تعد كذلك. فالبصرة اليوم هي عبارة عن حي فقير كبير أجرد ليس فيه أشجار وفيه مساحات واسعة تملؤها الأزبال، والمظهر الأكثر بروزاً في مركز المدينة هو حفرة تفيض منها مياه المجاري. ويشير السكان المحليون بامتعاض إلى أن الكثير من بساتين النخيل الأسطورية في البصرة قد قطعت أثناء الحرب العراقية الإيرانية. فقد قصفت المدينة مراراً خلال الصراع الذي دام منذ العام 1980 حتى عام 1988، كما قصفت البصرة في حرب الخليج الأولى ثم مزقت إرباً في الانتفاضة الشيعية التي أعقبت ذلك. وفي السنوات الاثنتي عشرة التالية ضعفت هذه المدينة (مع بقية العراق) تحت وطأة حصار الأمم المتحدة. فقد هوجمت لمرات عدة من الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية، كما عوقبت أكثر من طريق سياسة الإهمال المقصود من قبل نظام صدام. وخلال الحرب الأخيرة قصفت المدينة مرة أخرى، وكان هناك بعض القتال بين القوات البريطانية وقوات صدام. وحين اختفى المدافعون البعثيون نهبت البصرة من قبل الغوغاء.
لقد كانت المدينة هادئة نوعاً ما إلى وقت متأخر حين نزل عشرات الألوف من الشيعة إلى الشوارع احتجاجاً على خطط التحالف في شأن الانتخابات. ومع ذلك فقد كانت هناك هجمات قليلة نسبياً ضد القوات البريطانية التي أصبحت مسؤولة هناك. فالبريطانيون ظاهرون إلا أنهم حافظوا على وجود أكثر استرخاء من نظرائهم الأميركيين في شمال المدينة، وعادة ما كانوا يسافرون في أرتال صغيرة من عربتين أو ثلاث وحتى من دون خوذ أو سترات واقية. على أية حال هناك عنف كبير تحت السطح وأغلبه كان إجرامياً. وفي ليلتي الأولى في المدينة سمعت إطلاق نار فخرجت إلى الشرفة الصغيرة من غرفة الفندق الذي نزلت فيه لأرى ما يحدث. لقد كانت المدينة مظللة بالسواد لأن تجهيز الكهرباء كان أسوأ مما هو عليه في بغداد، لكن بوسعي أن أرى بعض الطلقات التنويرية تخرق عباب السماء وأسمع دوي معركة بالأسلحة يجري على بعد ثلاثة أبنية إلى يساري. ثم كان هناك إطلاق نار في الاتجاه الآخر وأصبح مسير السيارات مرئياً. كان السائقون يطلقون أبواق سياراتهم والرجال يلوحون بالأسلحة ويطلقون النار عشوائياً من النوافذ المفتوحة للسيارات، فأدركت أن ذلك كان حفلة عرس.
إن قوات التحالف ليست الفئة الوحيدة التي لها أجندة. بل هناك حزب الدعوة، وهو حزب شيعي تم تأسيسه في أواخر الخمسينات، وكذلك أتباع مقتدى الصدر الزعيم الشيعي الشاب الذي يحمل أفكاراً أكثر تطرفاً من الحكيم. ثم هناك الحزب الشيوعي العراقي المحظور سابقاً، ناهيك عن حزب «ثأر الله»، وهي جماعة إسلامية أقامت مكاتب لها في البصرة مؤخرا. (ويشك في أن هذا الحزب ينفذ عمليات قتل انتقامي ضد البعثيين وقد هوجمت مكاتبهم بعد فترة قليلة من مغادرتي). وقال الحسيني: «إن الجميع لديهم آراؤهم التي تختلف عن آراء حزبنا وهي لا تتفق معنا».
«المجلس » في الجنوب
المجلس الأعلى للثورة الإسلامية يقدم تنوعاً من الخدمات الاجتماعية للشيعة في جنوب العراق. فرشيد أبو أحمد وهو رجل خجول ملتح في أواسط الثلاثينات جلس في غرفة على سجادة وأخذ يطقطق بمسبحة صلاة ملونة يبدو غير مدرك لدوره حتى ذكرته بأن عبد العزيز الحكيم كان قد خول لنا اللقاء، ثم أوضح أنه المشرف على نشاطات بدر في المنطقة. وقال إن هذه النشاطات تنطوي على «كل جانب من الحياة بما في ذلك توفير الأمن كرجال شرطة إضافيين على رغم أنه تم تجريدنا من السلاح». (في أيار (مايو) أخبر بول بريمر المسؤول الإداري الأميركي لسلطة التحالف الموقتة الميليشيات بضرورة نزع السلاح، ويبدو أن هناك اتّفاقاً ضمنيّاً على تجاوز حقيقة أنهم قاموا بذلك).
سألت رشيد عن مقترح الحكيم إلى قوات التحالف بأن يأخذ مقاتلو بدر وحلفاؤهم من البيشمركة مسؤولية حملة قوة الطوارئ من الأميركيين. قال: «أعتقد أن بوسعنا القيام بذلك. بإمكاننا ضمان الأمن في العراق ولن تسمع طلقة واحدة. بعض الأحزاب السياسية الأخرى سيتعاون معنا، ومعاً سيكون بمقدورنا التخلص من البعثيين خلال يوم واحد، إذ يمكننا القيام بذلك بسهولة، ويمكننا أن نعمل الآن ضدهم، لكن قوات التحالف لا تسمح لنا بالقيام بذلك».
لقد رتب لي رشيد أبو أحمد زيارة مركز بدر في الفاو، وهي مدينة صيد تبعد 75 كيلومتراً جنوب شرقي البصرة قرب مصب شط العرب. لقد أخذني إلى هناك رجل طويل محبوب يدعو نفسه الشيخ سمير. وكان الشيخ غامضاً مثل جميع رجال بدر الذين التقيتهم وكل ما حصلت منه عن حياته - في نسخة مترجمة من قبل سلام - هي أنه كان مدرّس رياضيات وقد أجبر على الهرب إلى إيران عقب انتفاضة الشيعة المجهضة عام 1991 في الجنوب.
إن شبه جزيرة الفاو كانت مسرحاً لأعنف المعارك الدموية في الحرب العراقية - الإيرانية حيث مات الآلاف من العراقيين والإيرانيين. وقد كان حوالى ثلث شبه جزيرة الفاو محتلاً من قبل الجنود الإيرانيين حتى استطاع صدام الذي استخدم معلومات الأقمار الاصطناعية التي قدمتها له الولايات المتحدة والغاز السام إخراجهم منها. وقدنا السيارة عبر المناطق المدمرة والممزقة بالأشكال غير الطبيعية من حفر كبيرة وثقوب بالأرض حفرت كمصائد للدبابات ومواضع المدفعية والخنادق الدفاعية التي تمتد إلى أميال. لم يكن هناك لا ناس ولا حيوانات ولا حتى شجر.
والفاو مدينة من الإسمنت والطين يقطنها ما يقرب من ثلاثين ألف شخص وتحيط بها الصحراء من جانب وشط العرب من جانب آخر. في مكتب بدر وهو مجمع بناء اصفر اللون على حافة المدينة استقبلت بحرارة من قبل رئيس مركز بدر شريف أبو حسن الذي دعاني إلى مكتبه. وبينما كان رجال شريف يعدون الغداء أخذني إلى الميناء، وهو مرفأ صغير طيني مملوء بالقوارب المسطحة. وكان الهواء مشبعاً برائحة البحر غير النتنة ورائحة الأسماك المجففة. إن الجانب العراقي من شط العرب مملوء برافعات التحميل التي تشبه مجموعة عضلات. بينما سحبت زوارق الصيد إلى ضفة القناة أو استقرت في مسافن بدائية. وقد بنيت مثل السفن العربية القديمة (الدحوس) مع ساريات مائلة وقيدومات مدببة. وقد زينت جميع الزوارق بالرايات الخضراء والسوداء الشيعية.
منظمة بدر ما كانت لتجد بيئة ملائمة كبيرة في المجتمع العراقي لو لم تقرر الولايات المتحدة حل الجيش العراقي في أواخر الربيع الماضي، ما جعل مئات الألوف من الجنود بلا عمل، وهذا قد دفع بهم إلى الشوارع وهم غاضبون. وترك ذلك مهمة الحفاظ على النظام بيد قوات التحالف التي لم تكن ناجحة في ذلك في شكل ملحوظ. وقد حذر آيات الله في حوزة النجف وفي وقت مبكر من مخاطر تشجيع الميليشيات على تسنم المسؤوليات التي كانت في السابق من اختصاص الجيش، إلا أن التحذير يبدو موجهاً إلى قوات مقتدى الصدر المتطرفة وليس إلى منظمة بدر التابعة للحكيم. (ويعتقد في شكل واسع أن أتباع الصدر هم الذين اغتالوا عبد المجيد الخوئي في النجف في نيسان (ابريل) 2003، والخوئي هو رجل دين أيد غزو قوات التحالف).
* غداً حلقة خامسة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.