تحول الغليان الذي شهدته الموصل أول من أمس إلى عنف بطيء بارد. عشرات القتلى والجرحى يقعون في المدينة من دون ضجيج يذكر، وأطراف الحرب داخل المدينة ما زالوا غُفلاً. الأكيد أن الأميركيين دخلوا وأن الأكراد لم ينسحبوا، وهؤلاء أحد طرفي الحرب، أما الطرف الثاني فمنهم من يقول إنهم عناصر حزب "البعث" و"فدائيي صدام"، ومنهم من يقول إن أهل المدينة قرروا اللجوء إلى السلاح للدفاع عما تبقى من منشآت مدينتهم. ويمكن دمج الاحتمالين، إذ يقول أحد أبناء الموصل إن اتفاقاً على تسليم المدينة للأميركيين تم قبل يومين، وعلى اثر هذا الاتفاق لم يدخل الأميركيون، وإنما دخل مسلحون استباحوا المدينة، فما كان من الذين تخلوا عن سلاحهم إلا أن استعادوه وتولوا بأنفسهم حماية مدينتهم. الجنود الأميركيون المنتشرون بأعداد محدودة، حائرون في السكان، إذ يتجمع حولهم أناس ويشرعون بمحادثتهم، وبعد قليل يطلق الرصاص على الجنود. أما عناصر "البيشمركة" فهم أكثر عرضة للرصاص الغامض. الرجال الواقفون على مداخل المحلات والذين يخفون سلاحهم تارة، وتارة يشهرونه، يراقبون السيارات العابرة في محاولة لكشف سرقات محتملة. تراجع الهتاف المباشر لنصرة النظام، ولكن هتاف المتجمعين على أبواب المساجد حمل معاني عدم الرضا على الوجود الأميركي، كأن يهتفوا مثلاً "لا إله إلا الله… والنصر للمسلمين". كما شرع بعضهم باطلاق النكات حول "الحرية والديموقراطية التي جاء لنا بها الأميركيون"، فشرعوا يقولون إن هذه الحرية لشدة اتساعها شملت حرية السرقة والاعتداء على الأملاك العامة. السكان أمس أظهروا ميلاً أشد إلى تحميل الأميركيين مسؤولية ما حصل. هؤلاء السكان، الذين تجمعوا من النصف الأول من المدينة، وأمام المساجد التي قام أئمتها بلعب دور منظم لما يشبه لجان أحياء، مهمتها حماية المحلات من السرقة. أما النصف الثاني من المدينة، والذي كثف فيه الأميركيون انتشارهم، فشهد حذراً شديداً وقتل فيه عدد من عناصر "البيشمركة" الذي اغتاله مسلحون مجهولون. أصوات انفجارات كبيرة انبعثت من محيط مبنى المحافظة، ولم يعرف إذا كان الأميركيون اطلقوها أم استهدفوا فيها، ورصاصات رفيعة الأصوات تنطلق وسط الأحياء الصامتة، محدثة ازيزاً رفيعاً وقاتلاً. والغريب أن المصابين الكثر من عناصر "البيشمركة" ومن المقاتلين العرب لم يحدثوا خلال اصابتهم جلبة تذكر، فحرص الطرفان على نقل جرحاهم من ساحات القتال التي تتداخل مع مناطق السكن والتجمع، من دون أن يحدثوا ما يحدثه عادة وقوع جرحى وسط تجمعات مدنية. ويبدو أن فرزاً سكانياً بدأت تشهده المدينة. فمن الملاحظ ان الخارجين من المدينة في اتجاه الشرق، أي باتجاه المدن الكردية، معظمهم من العائلات الكردية في المدينة، وهؤلاء كانوا يقولون إن الأميركيين و"البيشمركة" بصدد القضاء على بعض جيوب المقاومة، أما السكان العرب فكانوا يؤكدون أن المدينة لا تقاوم ولكنها تدافع عن نفسها. وأمس أيضاً أظهرت عناصر "البيشمركة" تشدداً أكبر حيال السيارات المتجمعة إلى الموصل، فمنعت غير الصحافيين من سلوك الطرقات المؤدية إلى المدينة، وذلك في محاولة للحد من أعمال السرقة التي استمرت لليوم الثاني وإن بدرجة أخف. وأعاد المواطنون سبب ذلك إلى الاتيان على كل ما تحويه الأماكن التي يمكن أن تُسرق. كما لم ينفِ المواطنون اشتراك أناس من أهل الموصل في عمليات السرقة، لكنهم قالوا: "إنه أياً يكن السارق، فالمسؤولية تقع على الأميركيين الذين أخلينا لهم المدينة ولم يدخلوها مباشرة". العرب قليلون في الناحية الشرقية من المدينة، وهؤلاء الرجال الواقفون عند تلة صغيرة في هذه الناحية، قالوا إنهم من عشيرة الشبك. رفضوا أن نسميهم عرباً، وأكدوا أنهم ليسوا أكراداً. كانوا يقفون منتظرين ما ستؤول إليه الأحداث. إنهم من العشائر التي فرض عليها النظام تغيير قوميتها والتحول إلى العربية. ويقول أحد هؤلاء الرجال ممازحاً: "نحن ننتظر نتيجة الحرب لنقرر أنبقى عرباً أم نعود إلى كرديتنا". لا يبدو أن عناصر "البيشمركة" انسحبت من المدينة، فهي ما زالت ترافق الدوريات الأميركية في تجوالها الخطر في الأحياء. ويعيد المراقبون هنا أسباب عدم الانسحاب على رغم الوعود الأميركية إلى أمرين: أولهما، أن القوات الأمريكية الموجودة في الموصل لا تكفي للسيطرة على المدينة في ظل أجواء العداء للأميركيين، خصوصاً أن الموصل مدينة معروفة بولاء الكثير من أبنائها إلى النظام السابق. أما السبب الثاني فهو رغبة الأميركيين في أن يتقدم انتشارهم في المدينة قوة محلية تستطيع التعامل مع أنواع من حرب العصابات قد تواجههم. ويبدو أن الأميركيين بدأوا بالبحث في جهة موصلية تتولى ضبط الأمن في المدينة. وتتسرب المعلومات عن اتصالات يجريها الأميركيون مع زعماء العشائر العربية بهذا الصدد.