أول مدينة أخلاها الجيش العراقي في شمال العراق كانت شيخان قبل ثلاثة أيام. والمدينة الصغيرة على الطريق بين دهوك والموصل، يسكنها حوالى 72 ألف شخص غالبيتهم من الأكراد اليزيديين، وبعض العرب والآشوريين. وبين من كان يقيم في المدينة عشائر عربية استقدمها النظام العراقي وأسكنها في قرى محيطة كان أخلاها من سكانها الأكراد. لكن هذه العشائر غادرت ما أن شعرت باقتراب الانسحابات. سبقت الانسحاب العراقي معارك بالطيران، وأخرى شاركت فيها وحدات من "البيشمركة" المقاتلين الأكراد. وما ان انسحب الجيش حتى تقدم الأكراد وسيطروا على المدينة من دون أن يترافق ذلك مع أعمال عنف. لكن شيخان الخارجة لتوها من سيطرة النظام ما زالت تعيش وفق ما أملاه من أنماط سلوك ومخاطبة وعمارة. المدينة بعثية بامتياز، مباني الحزب على مدخلها، تشكل الحلقة التي تتسلسل دوائر الأحياء والأزقة من بعدها وفقاً لها. "البعث" في المدينة ليس حزباً وإنما أسلوب عيش، وهو الحقيقة التي لا يعرف السكان غيرها. فعندما تسأل عن مصير البعثيين بعد انسحاب الجيش، يجيب الجميع أن الرفاق جميعهم هنا، ولم يغادر إلا من تبللت يداه بالدماء. أستاذ المدرسة الكردي أجابنا أنه هو نفسه ينتمي إلى "البعث"، وأضاف: "كيف يمكنني أن أكون مدرساً من دون أن أكون بعثياً". وحين سألنا رجلاً يقف في ساحة البلدة عن عدد الضحايا الذين خلفتهم الغارة الأميركية على الساحة، قال: "قتل منا رفيق وعائلته. مسكين كان يحاول إخراجهم من البلدة، لكن الطائرة كانت أسرع". ويبدو أن الكلمة ليست سوى طريقة في المخاطبة لا يجيد أبناء البلدة غيرها. أما بالنسبة إلى عناصر "الحزب الديموقراطي" الآتين حديثاً إلى شيخان فهي لا تستفزهم، ولا يبدو أنهم يتوقفون عندها. المدينة زاخرة بمبانٍ للنظام احتلها بعد انسحاب الجيش عناصر "البيشمركة"، مبنى الحزب ومبنى الشرطة ومبنى الاستخبارات وثكنة الجيش ومركز "فدائيي صدام". المتجول في الشارع الرئيسي للمدينة يرى خراباً هائلاً أحدثه القصف الأميركي، فالقطع الاسمنتية المدمرة منتشرة في الشارع، وثمة أجزاء كاملة من الأحياء سوّيت بالتراب، وعلى الجهة الجنوبية من البلدة ترك الجيش مدافع ومضادات للطائرات ما زالت منتصبة في مساحة سهلية. السكان الأكراد الذين رُحِّل عدد كبير منهم، بدؤوا بالعودة، لكن أي احتكاك بينهم وبين المقيمين لم يحصل. صحيح أن البعثيين ما زالوا هنا، لكن المتورطين منهم بأعمال اضطهادية غادروا. هذا ما يؤكده الجميع، لكنك تشعر بأن المدينة وسكانها متواطئون في مواجهة الأوضاع الجديدة. فالعائلة العربية الآتية من الجنوب قبل نحو 30 سنة يزورها كل ساعة عدد من الجيران الأكراد ليطمئنوا إلى عدم تعرض أفرادها لسوء. وعناصر "البيشمركة" يقولون إن بعثيي شيخان مساكين، ومسؤول "الحزب الديموقراطي الكردستاني" في البلدة يتولى توزيع الصحافيين للتأكد من أن السكان العرب في حمى الحزب. نساء كثيرات غادر أزواجهن المدينة، ولكنهن لم يفصحن على رغم شكواهن من الأوضاع. ويبدو أن هناك جهوداً لرأب صدع ما لم يفصح عنه أهل شيخان للصحافة. الأرجح أن رجالاً كثيرين هربوا إلى الموصل، وثمة مفاوضات لإعادتهم. حذر شديد أبداه السكان ازاء أي سؤال وجه إليهم. تحامل خجول على النظام، واخفاء للوجوه في مواجهة الكاميرات، وحيرة حيال تحول سريع من العلاقة مع الموصل القريبة إلى الانفتاح على دهوك القريبة أيضاً. لم يُزل أحد شعارات "البعث" الكثيفة على الجدران، وربما لم يشعر أحد بأن هذا الأمر ضروري. فالسكان بعثيون، لكنهم ضحايا أيضاً، وبعثيتهم ليست أكثر من طقس أملته عليهم السنوات الثلاثون التي عاشوها في ظل النظام. أما الآتون إلى المدينة بعد تهجيرهم منها فيدركون، كما يبدو، أن من هجرهم نزح فور انسحاب الجيش، ولهذا لم يدخلوها كفاتحين.