تستعير هاديا سعيد، في هذه الرواية، بنية الرواية البوليسية لتنقلنا الى مناخ المطاردة والحصار والتضييق الذي يعيشه المواطنون العرب داخل اوطانهم أو في المنافي. وتتجلى هذه البنية من خلال عنصرين: أولهما جريمة قتل مُعلن عنها منذ البداية، ومرتكبها مجهول أوْ يكاد، وثانيهما هو توظيف شكل التحقيق القضائي لاستعراض مجموعة من المعلومات عن الشخوص الثلاثة الأساسيين في الرواية: سليم القتيل، وأخوه امين، وريم العنتري زوجة سليم. وإلى جانب ذلك، هناك السيدة توركان المشرفة على المركز النفسي لاستقبال اللاجئين السياسيين من اجل مساعدتهم على الاندماج في مجتمع منفاهم. ويأخذ السرد مسلكيْن أساسيين: أحدهما يتولاّه ويُمسك بخيوطه سارد يحكي بضمير الغائب وينحو اكثر الى توزيع الكلام وتنسيق السرد المعتمد على التنقل بين اجواء مختلفة وعلى ما يُشبه التركيب السينمائي... والمسلك الثاني، هو إفساح المجال امام صوتيْ امين وريم اللذين يبْدوان متعارضين بسبب جثة سليم الزوج والأخ الفاصلة بينهما. وفي ثنايا ذلك، يأتي صوتُ توركان الطبيبة النفسانية ذات الأصل التركي التي تسعى الى تقريب الشقة بين ريم وأمين وتحس تدريجاً، انها قريبة من مشكلات هؤلاء اللاجئين الرازحين تحت وطأة القهر والغربة واللاتفاهم... هذه البنية العامة، تسمح بتنويع ضمائر السرد واستخدام المونولوجات والحوارات وتوفير درجة من الحيوية والتباين في خطاب الرواية في شكل عام. ولأن البنية البوليسية في "بستان احمر" هي مجرّد تعلّة وإطار، فإن الكاتبة تعمد الى عنونة الفصول والفقرات، بجمل متفرعة عن فعل "شق" من قبيل: اشتقَّ الطريق في الفلاة، اشتقَّ في الكلام أو الخصومة، شقّق الأرض بالسكة... الخ. وبعض الفصول تعنونها ب: ذكريات او اعترافات. كأن الكاتبة تنبّهنا الى ان الرواية هي دائماً مجموعة محكيات تتشقّق من بعضها وتتفرّع لتؤول الى فضاء روائي ينهض من خلال الزوايا والمنظورات المختلفة، المتكاملة أو المتعارضة... الفضاءات والشخوص ما يلفت ايضاً في هذه الرواية ويستحق التوقّف عنده قليلاً، هو اعتمادها على ثلاث شخصيات هي: أمين مفتاح، وريم العنتري، وسليم مفتاح، وعلى أربعة فضاءات: بغداد، بيروت، الرباط، ولندن. من خلال هذين العنصرين الشخوص والفضاءات يتشكل القول في الرواية ويكتسب دلالاته وظلاله الملتبِسة بين البنية البوليسية الظاهرة وبين الغوص في اعماق الشخوص القلقة. وفي أرجاء الفضاءات المتباينة، ترتسم ملامح بنية متستّرة تقترب من تيمات وموضوعات تشغل بال المواطن العربي وتُسائل بقوّة فكر المبدعين ومخيلتهم: ما هي صورة الإنسان العربي اليوم، وما هو وضعه الاعتباري؟ عبر ثلاث شخوص أساسيين، كما أشرنا، نُتابع رحلة البحث عن قاتل سليم مفتاح الذي عثر عليه مقتولاً في الغابة القريبة من الرباط. نستمع الى إجابات ريم وأمين ونلاحق التفاصيل، لكننا نحس اننا نبتعد اكثر من معرفة المسؤول عن الجريمة. وسرعان ما تبدو المفارقة صارخةً: فكلّ من امين وريم يبذل جهده ليبرئ نفسه ويعلن استعداده للانتحار بعد ان تعذّر التفاهم بينهما، بينما سليم الغائب الذي سمعنا صوته في مناسبات محدودة قبل قتله، يتكلم بوثوق ويعبّر بحسم في اتجاه مواقف واختيارات ذات طابع براغماتي يستفيد من السلطة ومن الإمكانات التي توفرها لمن يتعاون معها. إن سليم لا يهتم بصوت الضمير أو نقاوة السلوك مثلما يفعل اخوه أمين، لأنه يعي جيداً سطوة الدولة وأجهزتها التي لا تُغالب، ويُدرك ان مجتمعه يعيش مرحلةً تُلغي حرية الفرد وحقوق المواطن ومن ثمّ انتفاء الأخلاق التي تستمدّ جذورها من سريرة الإنسان المحتوية لمثُله العليا... إن مجتمعه هو بالأحرى مجال لتحكّم إرادة أحادية تسحق الأخلاق وتستبدلها بمنطق الخضوع والطاعة لآلة عمياء اسمها "الدولة القومية" الخادمة لمصالح طغمة من المتسلطين. من ثم فإن سليم المساير لأجهزة الدولة، المتعاون معها، الطامع في ان يستفيد منها، يبدو متماسكاً في سلوكه الحاسم، المراوغ، المحتقر لمواقف اخيه امين الرافض للإذلال والاحتقار. من هذا المنظور، يبدو الفارق واضحاً بين مواقف الشخوص الأساسية: فكل من ريم وأمين يحتكمان الى مرجعية اخلاقية لا اعتبار لها ولا وزن في نظر سليم الذي يرى ان واقع الحال هو قطيعة مع الأخلاق التقليدية التي تحمّل الفرد مسؤولية أفعاله، فلم يعد هناك مجال لمحاولة الإصلاح والتقويم والنضال في سبيل استعادة ما هو انساني. إنه يسخر من اخيه ومن المناضلين في المنفى، ولا يتورّع عن تنفيذ كل ما يُطلب منه تأميناً لمصالح وامتيازات مادية. أما ريم وأمين، فإن كلامهما ومواقفهما يظلان مندرجين ضمن قيم اخلاقية تسعى الى ترميم ما تهدّم وتتحمل آلام المنفى لإنقاذ بعض المشاعر والمثل، فتتطلّع ريم الى استعادة ابنتها المحجوزة في بغداد، ويتطلع امين الى إنقاذ الجنين الذي خلّفه سليم في بطن زوجته ليستعيده من خلاله: "كان الذي في رحمها يعيده لي. يعيد تكوينه. أستبق الأيام وأراه نظيفاً، بريئاً، بلا جشع ولا تكالب. أحس ان باستطاعتي ان أربيه على يدي وأعوّض خسارتي بأخ عاق..." ص350. على هذا النحو، تأتي مواقف سليم معارضة تماماً لمواقف امين الذي لا يزال يستفتي ضميره وما اختزنته ذاكرته الطفولية. إن سليم مقتنع بأن مرحلة اخرى بدأت لا مجال فيها لتلك الأخلاق الموروثة، وأن مَن لم يخض لعبتها سيتكسّر وتذروه الرياح. ومن ثم استطاع ان يقنع زوجته ريم بمعاودة العلاقة لأنه كان يستغل تعاونه مع اجهزة الدولة للاغتناء قبل الفرار، لكنه لم ينج من أخطبوط الآلة - الغول التي لا تسمح لأحد بأن يخترق قوانين اللعبة... لكن الشخوص واستحضار الأحداث في "بستان احمر" يكتسبان قوّتهما وإيحاءاتهما من الفضاءات المتنوعة التي ترافق المشاهد واللقاءات والمواجهات. من بغداد الى لندن، مروراً ببيروتوالرباط، تتحرك الشخوص وتلتقي بوجوه أخرى وتستمع الى لهجات ولغات مغايرة. من خلال الاستعادة والاستحضار، نُطلّ على طفولة امين وسليم في بغداد بمسرّاتها ومشاكساتها، ونعيش ايام المنفى والمغامرة في بيروت المحتضنة للثائرين الحالمين، وتطالعنا الرباط الهادئة البعيدة من صخب عواصم المشرق الضاجّة، الصاخبة، ثم نُعرّج على لندن التي وجد فيها العراقيون المعارضون مأوى يستعيدون فيه حقوقهم الإنسانية المداسة... وببعض اللمسات والتفاصيل والتعبيرات المحلية، تتمكن هاديا سعيد من تشخيص تضاريس تُخصص الفضاءات وتمايز بينها. بستان الغربة القاتلة ألا يشتمل ذلك البستان الأحمر الذي يجوبه اشخاص فاقدو البوصلة يتحركون في كل الاتجاهات، خاضعين غالباً لظروف قاهرة، جاهلين الجهة الماسكة بخيوط اللعبة، على ملامح تقرّبه من تلك الرقعة التي درجنا على تسميتها بالعالم العربي المختلف اللهجات، الموحّد في لغة الكتابة المتقارب في العواطف والمتناحر لأتفه الأسباب؟ بستان يعيش موزعاً الى مربعات ومستطيلات ومراع مسيّجة يستدعي التنقّل داخلها تأشيرات وأذونات من الشرطة، وقيمة الإنسان داخل ذلك البستان اشبه بالعدم، فهي موجودة عبر المواثيق والخطب الرسمية وتصريحات النيات، لكنها سرعان ما تتلاشى كلما شاءت ارادة الساهرين على "أمن" البستان. ألا يمكن، من هذه الزاوية، ان نقرأ قصة مجموعة من سكان هذا البستان، على انها تعبير ينطوي على رموز؟ ان المسار الذي يقطعه امين مفتاح من بغداد الى لندن، هو تشخيص لمصير الآلاف من ابناء الوطن العربي الذين رفضوا الاستسلام لمنطق الدولة الوطنية المرتكز على التسلّط والقمع وإلغاء الحريات. مَن لم يُسجن أو يُقتل، يختار طريق المنفى نحو أقطار عربية في اول الأمر، ثم نحو بلدان اجنبية لأن "وحدة" القمع العربية لم تعد تسمح باستقبال المتمردين. هكذا يتكدّس المنفيون، الهاربون من جحيم القهر في اقطار أوروبية تسعى الى ان تحترم ميثاق حقوق الإنسان. لكنهم ماذا يستطيعون ان يفعلوا لتغيير منطق الإقصاء في دولتهم؟ إنهم ينتظرون. يناضلون ويفضحون، لكنهم ينتظرون. وأثناء ذلك تتسع المسافة التي تربطهم بالوطن. امين مفتاح لم يكن يعتنق ايديولوجيا حزبية معينة، بل كان يريد فقط ان يعيش في كرامة وأن يُعبّر في فنه عما يحسه ويتفاعل معه، ومع ذلك، اضطر الى المهاجرة من بغداد الى بيروت الى الرباط الى لندن... وفي كل تجربة يزداد شعوره بالغربة والاغتراب، وقصة اخيه سليم تطارده كاللعنة، والحب متمنّع ومواجهة اسئلة الذاكرة والمشاعر جحيم لا ينتهي. يحس انه عرضيّ لا شيء يحميه أو يبرر وجوده بعد ان طردته الآلة - الغول من وطنه... وريم العنتر تواجه المنفى مع ابنتها بعد ان قتل زوجها في ظروف غامضة. هي الأخرى عانت تسلط زوجها واضطرت الى أن تحتمي بالكذب والمراوغة لتستيعد ابنتها، لكنها تشعر بالغربة والخوف من المستقبل وتفكر في الانتحار بعد ان تعذرت اسباب التفاهم مع امين المعذّب ايضاً بقصة اخيه وباغترابه... اين مصدر الداء؟ هل يعود الى تعارض "طبيعي" بين الأخوين الشقيقين المتناحرين؟ ام ان الأمر يتعداهما لأنهما - هما وآخرون - ضحايا ذلك الوحش الوثني المنبثق من صلب دولة وطنية اقامت شرعيتها على المقاصل والنار والدماء؟ في لندن، الفضاء المغاير الذي يفتح ابوابه لاستقبال الهاربين من ظلم الوطن، تسعى توركان المعالجة النفسانية الى ان تخرج المنفيين من شرنقتهم وعذاباتهم، لكنها تدرك ان المعضلة اعمق من شروخ النفس وتشققاتها: "في كل مرة لا استطيع ان اعانق هؤلاء الضحايا الذين أُقنعهم بأنهم ناجون لا ضحايا، ثم أكتشف في خلوتي اننا كلنا ضحايا، لأن هذا العالم الشاسع الرحب، يضيق قلبه، لأن قلة من الناس لا تريد إلا ان تحكمه أو تحطمه" ص190. في "بستان احمر" تتحرك الشخوص، تتكلم، تتذكّر، تعترف، تتجابه، تسعى الى ان تفهم ما عاشته وما تعيشه، لكنها تظل اشبه ما تكون بدمىً فاقدة للبوصلة والاتجاه... لا أحد بريء. سليم مدان عن حق أو باطل، رحل ومعه اسراره التي لم يبح بها. امين وريم كل واحد منهما يدين الآخر وينتهي الى الارتياب والشك في المستقبل، على نحو ما عبّرت ريم: "... وكلما كان النزف يزداد، كنتُ أرى دماً يسيل، يُغطي ساقي ويذهب الى دمه المسفوح في الغابة. أرى بستاناً أحمر يمتد من رأسي الى ساقي الى الغابة، يُنبت اطرافاً مبتورة أو رؤوساً وعيوناً فزعة وأجنّة لا تكتمل، فأُسرع وأبتعد" ص352. أليس الشرخ، في "بستان احمر"، هو اعمق مما يبدو عليه في ظاهر البنية الروائية البوليسية المشوّقة؟ ان الشرخ الأساس، في نظري، يتعدى الفروق في الطبائع ويتعدى صراع المنافسة الشخصية بين الأخوين أو بين الماسكين بالسلطة والمعارضين لها. إنه أشبه بالطاعون يستشري في مجموع الأوصال ليجعل سكان هذا البستان الأحمر محاصرين كأنهم فئران مأخوذة في الشّرَك تنتظر حتفها بكيفية أو بأخرى، إذ تتعدد الأسباب والموت واحد. * ناقد وروائي مغربي.