ابطال عصر السينما الأوائل كانوا مغنين ومطربين، السينما العربية ترعرعت بهم ومعهم ولهم، أم كلثوم وعبدالوهاب ونور الهدى وليلى مراد وأسمهان وفريد الأطرش ولاحقاً، صباح وفهد بلان وسميرة توفيق ووليد توفيق. الفيلم الناجح كان بطله مطرباً. تلك كانت قاعدة، بداية السينما العربية التي هي فن بصري، كانت صوتية!! ربما يعيدنا هذا الى مقولة المفكر العربي محمد جابر الأنصاري: العرب ظاهرة صوتية، وربما يفسر بعضاً من تخلف الذائقة البصرية العربية. كان يتم تفصيل الفيلم على مقاس المطرب وأغانيه، على طريقة قاطع الطريق اليوناني الشهير بروكست، الذي كان يقطع ضحاياه لتتناسب مع التابوت المتوافر. الأمر مختلف مع "بوليوود" والهنود السمر ذوي المخيلة الموسيقية الكبيرة وأفلامهم الاستعراضية، فلكل ملحن آلاف الألحان، وفي مقدرتهم صياغة ألحان لكل فيلم وعلى الواقف، كذلك شاهدنا ولا نزال درامات افلام عربية ملفقة لأفلام عربية محشورة في اغانيها الفضفاضة، او الضيقة حشراً. وسيكون مقبولاً ان تغني اسمهان الورد عندما تؤدي شخصية بائعة ورد وإن بدا وجودها في الحفلة التي تضم النخبة الأرستقراطية غريباً، وسيكون مفهوماً ان يقاد فريد الأطرش الى بستان حمضيات ليغني "فوق غصنك يا ليمونة" وأن يغني عبدالحليم حافظ في شارع ليلي طويل "ضي القناديل". وإن يكون مسك ختام فيلم الغجرية العاشقة اغنية سميرة توفيق الشهيرة "يا عين مولياتي" من دون مناسبة. لكن ان تغني عفاف راضي في فيلمها الوحيد مناجية حصاناً "يهديك يرضيك... الله يخليك" فما انزل الفن بن من سلطان!! الأمر الذي لم يكن كاتب كلمات الأغنية يتخيله عندما كتب ديالوجه الغنائي، مع احترامنا الشديد للحصان العربي وللعلاقة الحميمة التي ربطته بالفارس العربي في الجاهلية، الذي شكل سرجه، أعز مكان في الدنيا. الكومبيوتر حاضنة اختلف الأمر الآن، وقلّت الأفلام المشفوعة ببطولة النجم المغني. السبب الرئيسي هو التلفزيون الذي اغنى المشاهد عن مشاهدة مطربه، فاستغنى المنتجون جزئياً عن تلفيق وفبركة قصة وإن كانوا لا يزالون يستثمرون نجاحات المغني ونجوميته. لكن هذا كما يعتقد سينعدم كلياً مع الفيديو كليب، او على الأقل لفترة، الدراما الآن تفصل للأغنية في افلام الفيديو كليب، قصص حب وثأر ومطارات بوليسية وحرب نجوم وأفلام صور متحركة وفانتازيا... كلفة إنتاج الفيديو كليب الواحد يمكن بها انتاج عدة افلام درامية، مع انها اغنية غير درامية غالباً، وليس الأمر كما كان في الماضي، الفيديو كليب يستعرض امكنة لا تخطر على بال بشر: تايلاند والصين وبلاد الواق الواق وخيام الهنود الحمر وأهرامات فراعنة وطقوساً عجيبة: سحر وشعوذة وكهنة ومحاربون، ويتقمص المغني شخوصاً اسطورية وسينمائية هوليوودية: هرقل وعنترة وبات مان وميكي ماوس... ويطعم ألحانه بالهندي والتركي والبرازيلي والكوبي. فيديو كليب في "سيناريوهات" لم يكتبها السينمائي لويس بونويل ولم يرسمها دالي ولم يكتب مثلها غابرييل غارسيا ماركيز... والسبب الأساسي ان صانعي الأغنية يدركون ضعفها، ويحدسون سلفاً بهشاشتها، فأغنيتهم اغنية مولودة في رحم اصطناعي اسمه الاستوديو ومرضعة في حاضنة اسمها الكومبيوتر، لذلك يتم تشويش المستمع المشاهد بصرياً، انها اغنية تبتعد عن القلب وتتجه الى الخصر، الى استفزاز الليبيدو، فهي تريد رشوة المستمع المشاهد بصرياً، بمشاهد "بورنو" محتشم ومفلتر. اما الروح فعليها السلام. المرسوم الذي رسمه الفيديو كليب: يجب تنويم المشاهد وخداعه بمشاهد غريبة مبهرة حتى لا يكشف رداءة الصوت المؤدى في استوديو يسند الحنجرة الذابلة. وربما لهذا قلّ ان نرى نسمع في الأصل مطرباً غير وسيم وإن وجد فيجب توسيمه بقوة الماكياجات والكريمات المحسنة. سبحان مغير الأحوال والأصوات. ضخاخو الأصوات الوجوه في الواقع الجديدة الى المشهد الغنائي العربي المسمع الغنائي العربي في الأصل يقومون بمحاولة إحلال حاسة محل اخرى، او على الأقل قلب المثل الشائع: أطعم العين تستحي... الأذن.