السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    احذر أن ينكسر قلبك    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    حراك شامل    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    هتان السيف.. تكتب التاريخ في الفنون القتالية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    مستقبل الحقبة الخضراء    تركي بن طلال يرعى حفل تخريج 11 ألف طالب وطالبة من جامعة الملك خالد    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    فوائد صحية للفلفل الأسود    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    أثقل الناس    تحولات التعليم.. ما الذي يتطلب الأمر فعله ؟    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    رئاسة السعودية للقمة العربية 32.. قرارات حاسمة لحل قضايا الأمة ودعم السلام    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    صفُّ الواهمين    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    سقيا الحاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ريمون إده ... "جمهورية الضمير" . اجتماع مع الموفد الاميركي دين براون يجعل رئاسة الجمهورية سراباً 3 من 4
نشر في الحياة يوم 15 - 03 - 2002

عندما خسر ريمون اده انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية في 8 أيار مايو 1976 انهارت فرصة ثمينة بالنسبة اليه والى كمال جنبلاط لبناء دولة كانا تفاهما على قواعد ارسائها في المرحلة الجديدة من السلام الداخلي، معظم بنودها من البرنامج المرحلي للأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية الذي اعده الزعيم الدرزي، وخصوصاً اقتراحات الاصلاح الدستوري وتعزيز الديموقراطية والتمثيل الشعبي.
وكان اده اجتمع مطوّلاً بالمبعوث الأميركي دين براون الذي نسبت اليه فكرة ترحيل المسيحيين من لبنان، فلم يوافق على الشروط الأميركية لتسلّمه منصب رئاسة الجمهورية.
الخسارة كانت مزدوجة: ضاعت على "العميد" ريمون اده الانتخابات الرئاسية ضد السوريين، ودخل كمال جنبلاط في أزمة خطيرة مع حافظ الأسد بعد فشل بضعة لقاءات طويلة لهما في دمشق خرج منها باعلان الخلاف الكبير مع سورية على مواجهة مرحلة ما بعد "حرب السنتين". خلافهما مع السوريين كان على مفهومي آلية بناء الاستقرار الداخلي والسيادة الوطنية.
بعد اقل من شهر، في الاول من حزيران يونيو 1976، تكشّف مغزى دعم الاميركيين والسوريين لانتخاب الياس سركيس، بدخول ألوف من جنود الجيش السوري النظامي وآلياته الاراضي اللبنانية وانتشارها، في خطوة اولى، في البقاع تمهيداً للتمدد في جبل لبنان وصولاً الى بيروت. عبّر هذا الدخول ايضاً عن الدوافع التي حملت ريمون اده وكمال جنبلاط وصائب سلام على مقاومة الوجه العسكري في المبادرة السورية الذي يؤول - وهذا ما ارتقبه الثلاثة معاً - الى تسليم زمام الأمن في لبنان الى الجيش السوري، فيجعل مسؤوليته قراراً سورياً أولاً. إلاّ انه يصير توطئة لهدف آخر اكثر خطورة، هو جعل قرار السلطة الدستورية اللبنانية مسؤولية سورية ايضاً. لذا مضوا في رفض انتخاب حاكم مصرف لبنان الياس سركيس، وقرنوا هذا الرفض بمحاولة منع اكتمال النصاب القانوني الضروري لافتتاح جلسة الانتخاب.
خسر اده انتخابات رئاسة الجمهورية قبل أن يخوضها. شاع ذلك على اثر اجتماع بدين براون موفد الرئىس الاميركي جيرالد فورد الى لبنان لكثرة ما تبادلا من شروط انهت السجال بقرار الاميركيين تأييد انتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية بعدما وافق على ما رفضه ريمون اده. وخلّفت المقابلة مع دين براون أثراً بارزاً لدى "العميد" اده في إقامته دليلاً جديداً على رفضه الوصول الى رئاسة الجمهورية بشروط تفرضها عليه دولة اجنبية، وتطرق لاحقاً في مئات الاحاديث الى رفضه العرض الذي طرحه عليه الديبلوماسي الاميركي المخضرم، كما قدم برهاناً اضافياً عن تمسكه بالمبادئ التي لا يتخلى عنها من اجل منصب رسمي حتى لو كان رئاسة الجمهورية. وأدت مصادفة لافتة الى وفاة دين براون، في الثمانين من عمره، بعد سنة على غياب ريمون اده، في الشهر نفسه، في 2 أيار 2001.
لقاء دين براون
كان دين براون - السفير السابق لبلاده لدى الاردن خلال احداث "أيلول الأسود" عام 1970 والخبير المتمرس في وزارة الخارجية، المطلع عميقاً على ازمات الشرق الاوسط وصاحب الباع الطويل في المفاوضة - وصل الى لبنان في 31 آذار مارس 1976 موفداً فوق العادة من حكومته، للحلول موقتاً محل السفير في بيروت جورج ماك ماكمرتري غودلي المريض منذ مدة. على الأثر عقد اجتماعات بعضها اكثر من مرة، وخصوصاً مع سليمان فرنجيه وكميل شمعون وبيار الجميّل وكمال جنبلاط. الا ان اجتماعاته شملت ايضاً صائب سلام ورشيد كرامي والبطريرك مار انطونيوس بطرس خريش والإمام موسى الصدر والمفتي حسن خالد وعبدالله اليافي وغسان تويني وفؤاد بطرس وجوزف سكاف وريمون اده وشارل مالك والآباتي شربل قسيس وجامعة الروح القدس في الكسليك.
لكن صورته في أذهان اللبنانيين اقترنت بمهمة بشعة بدت كجزء من ادارة الحرب اللبنانية، هي نفسها التي سبق ان اضطلع بها لتنظيم عملية إجلاء الفيتناميين من فيتنام وإعادة توطينهم في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى. ففاتح ريمون إده في الاقتراح الذي كان طرحه على سليمان فرنجيه وكميل شمعون وبيار الجميل عندما اجتمع بهم، ومفاده استعداد الحكومة الاميركية للمساهمة في ترحيل المسيحيين اللبنانيين من بلادهم في بواخر تنقلهم الى القارة الاميركية!
يومذاك دوّن ريمون اده هذا الاقتراح بقلم أحمر في مفكرة صغيرة يكتب فيها غالباً، بالفرنسية، الملاحظات المهمة التي تكون عُرضت عليه بغية حفظها للتاريخ. الا انه لم يشر في ملاحظاته عن اقتراح دين براون الى تفاصيل اضافية او الى آليته.
وحتى وفاته كان يحتفظ في جناحه في الفندق بكل المفكرات المماثلة منذ عام 1976.
اجتمع ريمون اده ودين براون في الصنائع، من غير ان يدلي اي منهما الى الصحافيين لدى ارفضاض الاجتماع بتصريح عن فحواه. على الأثر اتصل بجوزف فريحة وإميل سلهب وطلب منهما موافاته الى المنزل، ومنه ذهب الثلاثة الى مسبح كورال بيتش في محلة الاوزاعي، عند المدخل الجنوبي لبيروت، لتناول الغداء. في هذا المكان، الذي كان خالياً من الرواد نظراً الى تصاعد الحوادث الأمنية، اخبرهما - وهم يتمشون - بحواره مع دين براون.
استمر الاجتماع، السبت 3 نيسان ابريل في غرفة مكتبه، من العاشرة صباحاً الى الأولى بعد الظهر، وحرص ريمون إده على تسجيل وقائعه على شريطين ممغنطين على آلتي تسجيل احدهما للزائر الأميركي والآخر احتفظ هو به في مجموعة محفوظاته وأرشيفه في الفندق.
فور دخول دين براون المنزل خاطب "العميد" قائلاً: "السيد الرئيس".
فردّ عليه بإنكليزية غير متمكنة: "رئيس ماذا؟ هل تريد ان تجري امتحاناً؟".
ثم قال لدين براون ان في متناوله تسجيلين لمحادثاته معه.
سأله ضيفه عن السبب، فأجاب: "كان في إمكاني تسجيل وقائع هذا الحوار من دون معرفتك، لكن كوننا سنتكلم في السياسة بصراحة ووجهاً لوجه، ولن يكون معنا من يدوّن المحضر، سأسجّل. لذلك ستحصل على نسخة من هذا التسجيل، وأحتفظ أنا بالنسخة الثانية، إلا اذا قررت ألا نتحدث في السياسة، وعندها لا تسجيل".
وافق.
استهل ريمون اده الحديث بشرح الوضع المحلي والتأثيرات الإقليمية فيه، وأدوار سورية والمنظمات الفلسطينية وإسرائيل في الأحداث اللبنانية على انها المتسببة بها، وخصوصاً الأطماع الإسرائيلية في الحدود والمياه والسيادة الوطنية، وكذلك تدخل سورية والفلسطينيين في الشؤون اللبنانية. وأسهب في الكلام على الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي تحديد الخطر الإسرائيلي على الكيان اللبناني المستقل وعلى دور المسيحيين اللبنانيين بغية اسقاط التجربة اللبنانية في العيش المشترك بينهم وبين المسلمين. وأثار معه ايضاً مسألة دعم الأميركيين للدولة العبرية ومساعدتهم لها في تسليحها، وتغاضيهم عن الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان، ليشير الى خطة وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر في تقسيم لبنان وتوطين الفلسطينيين في جزء منه. ثم حض الأميركيين على دعم استقلال هذا البلد وسيادته ومنع تفتيته.
في حصيلة العرض الذي قدمه ريمون اده، وافقه دين براون الرأي وشرح له مهمته الاستطلاعية في بيروت، وهي جمع الآراء والمواقف التي تعني الأفرقاء المحليين حيال الحلول المقترحة للأزمة. ثم طرح بضعة اسئلة عن المشكلة اللبنانية المتفاقمة. وقال له بعد ذلك - في محاولة لتوجيه أحاديثهما الى محور آخر مهم - إن الولايات المتحدة الأميركية "حريصة على لبنان وسيادته واستقلاله".
علّق ريمون إده: "ما أعرفه أن العكس قد يكون هو الصحيح بشهادة وزير الخارجية هنري كيسنجر الذي وضع خيوط المؤامرة على لبنان، وتولاها السفير الأميركي السابق جورج ماك ماكمرتري غودلي".
فقال زائره الأميركي: "إن لبنان مقبل على انتخابات رئاسة الجمهورية، والشعب اللبناني يريدك رئيساً للجمهورية ويحبّك وأنت صاحب شعبية هي الكبرى. كما نعتقد أنك المرشّح الأوفر حظاً للفوز بالرئاسة لأن الغالبية الإسلامية تؤيدك، وكذلك نصف المسيحيين على الأقل إلى جانبك".
قاطعه بعبارة مازحة: "ولكن يا عزيزي، بأي صفة تسمح لنفسك بالتدخّل في الانتخابات الرئاسية اللبنانية؟".
أجاب: "أنا مكلّف تقديم تقرير إلى رئيسي في هذا الموضوع. إن الولايات المتحدة مهتمة اهتماماً حيوياً بهذا الأمر".
الزائر الأميركي ينبطح على الأرض
في هذه الأثناء سقطت قذيفة في جوار حديقة البيت، خلّعت النوافذ وحطّمت زجاج الصالون. فانبطح دين براون على الأرض هلعاً، فيما ظلّ ريمون إده في مقعده مبتسماً.
كان ردّ فعل الزائر الأميركي: "أهنئك. لديك برودة أعصاب تفوق تلك التي للبريطانيين".
فأجابه: "ليس الأمر برودة أعصاب، وإنما مراس في ما اعتدته".
ثم التقط الحديث مجدّداً: "نحن نعرف أنك رجل نزيه ولك ماض مشرّف، وحكومتي تقدّر مواقفك ودورك، وسنكون على استعداد لتأييد وصولك إلى رئاسة الجمهورية. لكننا نرغب في معرفة إمكاناتك وخياراتك لإيقاف الحرب والعنف في لبنان وإعادة فرض القانون في هذا البلد".
ردّ عليه بما يعتقده إجابة بديهية واضحة وغير ملتبسة: "كنت وزيراً للداخلية عام 1958 وكانت في البلد حرب أهلية ونجحتُ في فرض الأمن وتطبيق القانون وإيقاف تلك الحرب التي كانت صغيرة وانتهت. لقد أقمت علاقات جيدة مع رجال الشرطة والدرك في أثناء وجودي على رأس هذه الوزارة. وأقمت أيضاً علاقات جيدة مع الجيش".
وشرح له الإجراءات التي توسّلها لإعادة بناء الاستقرار في حينه.
سأله: "لكن الوضع الآن تغيّر تماماً. ولا تستطيع أن تقوم عام 1976 بما قمت به عام 1958". وأضاف: "إذا انتخبتَ اليوم رئيساً، فعلى مَن تعتمد لفرض الأمن في لبنان؟".
كان هذا التساؤل في صلب موقف رسمي أميركي يطلب الاستقرار في لبنان، لكنه يحاصره بما يتجاوز الشكوك الى الجزم بيقين عجز لبنان عن الاضطلاع، من طريق جيشه الوطني، بأعباء فرض الأمن والاستقرار. وهو ما أدلى به هنري كيسنجر اكثر من مرة، وأعاد تأكيده في تصريح رسمي في 2 نيسان 1976، خلال جولة دين براون على القيادات اللبنانية، بقوله ان "المشكلة الأساسية لا تزال قائمة، وهي تتمثل في الانقسام بين الطوائف الاسلامية والمسيحية، والانقسام بين العناصر الراديكالية والمحافظة داخل كل طائفة، ودور القوى الخارجية في دعم الفئات المختلفة، اضافة الى الانحلال التام للجيش اللبناني مما يعدم وجود اي قوة محلية قادرة على تنفيذ قرارات الحكومة ...".
أجاب ريمون إده دين براون عن سؤاله: "أعتمد في فرض الأمن على قوى الدرك والأمن الداخلي".
دين براون: "لا يكفي، لأن الوضع الأمني لا يسمح لهذه القوى في ضوء امكاناتها وعديدها وتسليحها بفرض القانون".
ريمون إده: "أستخدم الجيش اللبناني إذا اقتضى الأمر".
دين براون: "أيضاً لا يكفي، خصوصاً ان الجيش الوطني يواجه انقسامات ومشتّت وغير موحّد لتولي هذه المهمة وتطبيق القانون".
ريمون إده: "إذا كان متعذّراً عليّ فرض الأمن بقوى الدرك والجيش، الجأ الى فكرة مشابهة لما حصل عام 1958 عندما أنزل الأميركيون جنوداً من مشاة البحرية على الشاطئ اللبناني، وأوقفتم الثورة. ونستطيع اليوم تكرار المحاولة".
دين براون: "ليس وارداً إمكان الاستعانة مجدداً بالجيش الأميركي في لبنان. نحن لن نتدخل".
ريمون إده: "إذا كان الأمر كذلك، فإن دولتي صغيرة ومتى كان جيشي غير قادر على اعادة النظام وأميركا لا تساعدني كما فعلت عام 1958، فلن يكون أمامي سوى الذهاب الى الأمم المتحدة والاستعانة بقوات دولية".
دين براون: "لن ترسل الأمم المتحدة قواتها الى لبنان أبداً".
ريمون إده: "ما أفهمه أنك تستطيع ان تجزم لي قاطعاً بأن حكومتك لن ترسل أبداً الجيش الأميركي الى لبنان، لكن ان تجزم لي قاطعاً أيضاً بأن الأمم المتحدة لن ترسل قواتها الى لبنان، فهذا ما لا أفهمه. على مَ تعتمد في اصدار حكمك في هذا الموقف؟".
دين براون: "على "الفيتو" حق النقض الذي تملكه الولايات المتحدة في مجلس الأمن".
عندها ضحك ريمون إده، مدركاً الى حيث يريد زائره الأميركي توجيه الحوار. إذ بعد استنفاد الحوار كل إمكاناته وحدود المناورة التي يقابل واحدهما الآخر بها، أوشكا على الوصول الى الخيار الأخير الذي يقفل الحوار على خاتمته. صارت كل الاوراق على الطاولة تماماً.
دين براون: "لماذا لا توجّه نداء الى الجيش السوري لمؤازرتك؟".
ريمون اده: "أي خيار إلا هذا. إذا كنتَ تعتقد في أي لحظة أنني يمكن ان ألجأ الى الجيش السوري...".
دين براون: "تماماً. هذا ما أريد ان أسألك عنه. وقد يكون هو الحلّ".
ريمون اده: "في هذه الحال لا يمكنك الاعتماد عليّ".
دين براون: "سينتشر الجيش السوري في لبنان ضمن قوة عربية، وهو سيكون في إمرتك الفعلية كرئيس للجمهورية".
ريمون اده: "عن أي إمرة فعلية تتحدّث؟ منذ أكثر من 40 عاماً وسورية ترفض إقامة تمثيل ديبلوماسي مع لبنان، ولا حتى تبادل سفراء بين الدولتين على غرار العلاقات الديبلوماسية بين لبنان والدول الأخرى. ثم كيف يمكنني أن أقررّ؟ وأي قوة أمنية لبنانية امتلكها لأفرض إمرتي التي تتكلّم عليها. الجيش السوري سيكون وحده القوة الفعلية متى انتشر على الأراضي اللبنانية".
واضاف: "ليس هناك أي خلاف مع سورية على العلاقات بين البلدين، وإنما طريقة تعاملها مع لبنان. إذا وصلت الى رئاسة الجمهورية فسأمنع أي مؤامرة تستهدف سورية انطلاقاً من لبنان. أنا أعرف أين تُطبخ المؤامرات. ومعي لن تكون ثمة مؤامرات ضدّ سورية ونظام الحكم فيها. لكنني أريد من سورية معاملة لبنان من موقع الندّ للندّ".
سأله الموفد الأميركي مجدداً عن الاقتراح نفسه، فأجاب: "لا تتوقّع مني أبداً خطوة كهذه باستخدام الجيش السوري لفرض الأمن في لبنان. في وسعي اللجوء الى جيش أي دولة في العالم لمساعدتي على تطبيق القانون واعادة الاستقرار، شرط ألا يكون جيش دولة هي على حدود بلادي. أقبل بالفرنسيين، بأي قوات أجنبية مع ضمانات دولية، شرط ألا تكون لها حدود مع بلادي".
ثم قال: "انت لا تجهل ان لسورية مطامع في أجزاء من لبنان وتحديداً سهل البقاع وعكار وطرابلس. وربما اذا حصلت سورية على هذه المكاسب فإنها تتنازل عن مطالبتها بمرتفعات الجولان التي ترفض اسرائيل إعادتها إليها. وأتوقّع ان يصبح جيشها في حال تدخله لفرض الأمن جيش احتلال".
دين براون: "نحن نضمن عدم حصول ذلك".
ريمون اده: "ان سورية تطمح الى وضع اليد على لبنان من أجل إحياء حلم سورية الكبرى. وهي تريد أولاً السيطرة على مرفأ بيروت، وهو أكبر مرفأ في الشرق الأوسط. أنت تعرف أنني لا استطيع ان أكون موظفاً عند احد، وإنما أن أحكم بحسب ضميري ولا أسمح لأحد باتخاذ أي قرار نيابة عني".
كرّر دين براون ثلاث مرات السؤال نفسه على الزعيم الجبيلي في شأن الانتخابات الرئاسية، فردّ عليه، في محاولة لانهاء حوار لمس فيه تطلّباً أميركياً لاتخاذه موقفاً ايجابياً من وجود الجيش السوري في لبنان ومن دوره مستقبلاً في تحقيق الاستقرار الداخلي، قائلا: "إذا كنتم، أنتم الأميركيون، قد قررتم ذلك وتعتبرونه شرطاً ضرورياً، فإنني استطيع تزويدك لائحة باسماء نحو 50 شخصية مارونية تقبل ما تريدون. لست أنا بالتأكيد من يطلب الاستعانة بالجيش السوري لفرض الأمن في لبنان. الياس سركيس يوافق عليه، فاذهب إليه. أنا أرفض وضع لبنان تحت الانتداب السوري".
كانت الساعة قاربت الأولى بعد الظهر. عرض عليه تلبية دعوته الى الغداء فاعتذر بدافع أنه مدعو الى الغداء في مكان آخر.
قال "العميد": اعتقد ان الياس سركيس ينتظرك. لكنني أؤكد لك سلفاً انك لن تجد نفسك في حاجة الى بذل جهد اضافي لاقناعه بطلب الاستعانة بالجيش السوري. فهو سيوافق فوراً على هذا الاقتراح".
بعد الاجتماع، على درج البيت في الصنائع، تصافح الرجلان طويلاً وتبادلا حواراً قصيراً بصوت مخفوض أمام الصحافيين وعدسات المصورين لم يصل الى آذانهم. في هذا الحوار القصير عاود دين براون طرح السؤال، فكرّر ريمون اده الجواب نفسه.
سأله الزائر الاميركي أخيراً: "هل أعود إليك في السادسة مساء لمتابعة مناقشة هذا الموضوع، والحصول على جواب ايجابي منك".
أجابه: "أهلاً وسهلاً بك. تستطيع العودة مساء اذا شئت لمشاركتي في كأس من الويسكي".
ثم غادر دين براون المكان.
الا ان ريمون اده اكتفى بكلمة واحدة قالها بصوت عال لبعض القريبين منه ذلك اليوم، في صالون البيت، عندما سألوه عن حصيلة الاجتماع، هي: "رفضت".
زار دين براون في اليوم نفسه مدة ساعة الياس سركيس الذي لم يكن قد ترشح بعد للانتخابات الرئاسية. الا انه سمع منه الموقف الذي يريده، وهو أن ليس في مقدور الرئيس الجديد فرض الاستقرار والنظام من غير الاستعانة بالجيش السوري.
في وقت لاحق لمقابلته الموفد الاميركي، استدعى ريمون إده شقيقه بيار وألبير منصور وقرأ عليهما مسودة بيان يعلن فيه عدم ترشيحه لانتخابات الرئاسة للأسباب التي استخلصها من حديثه مع دين براون. فاستمهلاه في اصداره ونشره وترقّب الجهود المبذولة.
تلقى كمال جنبلاط قرار صديقه بانقباض، اذ ادرك خسارته الرهان على "العميد" الذي التقى وإياه على بناء آلية تسوية محتملة تنهي الحرب اللبنانية، وتقضي بنشر قوة سلام دولية أو عربية دولية على الأراضي اللبنانية، ليس فيها سوريون.
بعد يومين، قصد مقرّ حزب الكتلة الوطنية في الرميل ليترأس الاجتماع الدوري للجنة التنفيذية. فاجأ الحاضرين داخلاً حاملاً كاميرا، ليخاطبهم كالآتي: "الآن ارتحت. وأستطيع ان أتصرّف كسائح. سأسافر قريباً لأرتاح بعض الوقت".
وقال: "كان يكفي ان أقول نعم وأوافق، لأصير رئيساً. هل تريدونني أن أقولها؟". سكت بعضهم وعلّق آخرون: "نقول نعم، ثم نعيد النظر في موقفنا".
أجاب: "آسف ان يكون ثمة من يعتقد بينكم ان اللعب مع الدول الكبرى ممكن كما اللعب مع المخاتير. عندما نتعهد لديها لا يعود في امكاننا التنصّل من هذا التعهد ولا اصطياد هذه الدول. فهي عندها لا تغفر لنا".
قالوا له إنه، ربما، أخطأ في رفض العرض.
فختم الحوار في هذا الموضوع: "لو قبلت بوجود الجيش السوري في لبنان لصرت من الآن رئيساً للجمهورية".
على ان غسان تويني، في تلميح الى ما لمسه من خيار واضح جزم له به دين براون عن مرشّحه لرئاسة الجمهورية، وهو الياس سركيس، قبل ان يجتمع بريمون إده، يسرد الرواية الآتية: "كنت لا أزال وزيراً عندما جاء المبعوث الأميركي دين براون وبعض مهمته تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية. اجتمعت معه ثم صرنا نجتمع باستمرار الى الغداء في مواعيد منتظمة. وفي احد اجتماعاتنا الأولى، قلت له انه قد يكون من المناسب ان يلتقي صديقي ريمون إده الذي ينصّ برنامجه للرئاسة على الدعوة الى مشروع مارشال للبنان، كالمشروع الذي انتهى الى تعمير اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وإنقاذها من الشيوعية. وريمون قلت له يريد البحث في الموضوع معه، الا انه يسأل قبل ذلك هل لدى السفير براون كتاب عن الموضوع يقرأه. ضحك براون طويلاً، وكنا نشرب كأساً في مواجهة البحر على الكورنيش. ثم اجاب حرفياً: "قلْ لريمون إنني في شوق الى التعرّف اليه. وسأزوره وأهدي اليه كتاباً ما يهمه ولا ريب. ولكن ليس عندي الا نسخة واحدة من كتاب عن مشروع مارشال احتفظ بها لأهديها الى السيد الياس سركيس". فهمت الرسالة طبعاً، وفَهم ريمون ولو لم يرضخ هو ...".
في 9 أيار، بعد 24 ساعة من انتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية، أنهى دين براون مهمته الخاصة في بيروت وعاد الى بلاده.
* غداً: الطائف وما بعده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.