الذهب يتجه لانخفاض أسبوعي مع قوة الدولار والبلاتين لأعلى مستوى في 11 عام    رياح نشطة وطقس حار على معظم مناطق المملكة    "هيئة الطرق": الباحة أرض الضباب.. رحلة صيفية ساحرة تعانق الغيوم عبر شبكة طرق متطورة    ابتكار روسي جديد يعزز التدريب الرياضي باستخدام الذكاء الاصطناعي    الجبل الأسود في جازان.. قمم تعانق الضباب وتجذب الزوار بأجوائها الرائعة    إنقاذ مريضة تسعينية بتقنية متقدمة في مركز صحة القلب بمدينة الملك سعود الطبية    جراحة تنهي معاناة مريضة من آلام مزمنة في الوجه والبلع استمرت لسنوات ب"سعود الطبية"    تجمع مكة الصحي يفعّل خدمة فحص ما قبل الزواج بمركز صحي العوالي    "الداخلية" تشارك في ملتقى إمارات المناطق والمبادرات التنموية بالمدينة    شخصيات الألعاب الإلكترونية.. تجربة تفاعلية لزوار كأس العالم للرياضات الإلكترونية    رابطةُ العالم الإسلامي تُدين مخطّط نقل سلطة إدارة الحرم الإبراهيمي الشريف    "موسم الرياض" يرعى شراكة بين "لا ليغا" و"ثمانية"    قدم الدانة تتعاقد مع المهاجم النرويجي جوشوا كينغ والحارس اللوكسمبورغي أنتوني موريس.    نادي القادسية يوقع اتفاقية رعاية تقنية مع زوهو لتعزيز الكفاءة وتحسين العمليات    "المزيني"نسعى لتعزيز الحضور الرياضي للطالب الجامعي السعودي عالمياً    الأسبوع الثاني من كأس العالم للرياضات الإلكترونية: لحظات تاريخية وخروج مبكر لحاملي الألقاب    مهند شبير يحول شغفه بالعسل إلى علامة سعودية    اختتام أعمال الإجتماع الأول للجان الفرعية ببرنامج الجبيل مدينة صحية    خارطة لزيادة الاهتمام بالكاريكاتير    معادلة عكسية في زيارة الفعاليات بين الإناث والذكور    بقيادة"جيسوس"..النصر يدشّن أول تدريباته استعداداً للموسم الجديد    نادي الدرعية .. قصة نصف قرن    جامعة الإمام عبد الرحمن تختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي    (إثراء) يعلن عن فوز 4 فرق في المنافسة الوطنية لسباق STEM السعودية    هاتفياً... فيصل بن فرحان ووزير الخارجية الأميركي يبحثان التطورات بسوريا    السعودية: نرفض كافة التدخلات الخارجية في سوريا    إيلانجا لاعب نيوكاسل: إيزاك من أفضل اللاعبين في العالم    برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية يعلن توطين تقنية «فيچ قارد»    فِي المَنَاهِجِ النَّقدِيَّةِ: المَنهَجُ التَّدَاوُلِيُّ    المملكة تعزي العراق قيادة وحكومة وشعبًا في ضحايا «حريق الكوت»    الكشف عن هاتف Nothin Phone 3 وسماعات الرأس Headphone 1 في خطوة جريئة للارتقاء بالتصميم والأداء والصوت    صدور بيان عن السعودية و 10 دول حول تطورات الأحداث في سوريا    تعليم الطائف يختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي لأكثر من 200 طالب وطالبة    إنقاذ مواطن من الغرق أثناء ممارسة السباحة في ينبع    تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بأحد الجناة في المنطقة الشرقية    المدينة المنورة تبرز ريادتها في المنتدى السياسي 2025    أمير القصيم يدشن مبادرة "أيسره مؤنة" للتوعية بتيسير الزواج    أمير منطقة جازان يستقبل وكيل الإمارة والوكلاء المساعدين الجدد    الأولى عالميا.. التخصصي يزرع جهاز دعم بطيني مزدوج بمساعدة الروبوت    "طمية" تنظم إلى الأسطول الإسعافي بفرع الهلال الأحمر بعسير    اطلاق النسخة الثانية من مشروع "رِفْد" للفتيات في مدينة أبها بدعم من المجلس التخصصي وأوقاف تركي بن عبد الله الضحيان    الأمير سعود بن نهار يلتقي المدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الغربي    أمير منطقة تبوك يستقبل معالي نائب وزير البيئة والمياه والزراعة    بهدف الارتقاء بالمنتج الثقافي والمعرفي.. توقيع مبادرة "سعوديبيديا" لتعزيز المحتوى السعودي    بوتين لا ينوي وقف الحرب.. روسيا تواصل استهداف مدن أوكرانيا    أصابع الاتهام تشير للفصائل المسلحة.. تحقيق عراقي في ضرب حقول النفط    وزارة الحج والعمرة تكرم عمر بالبيد    المفتي يستعرض أعمال "الإفتاء" ومشاريع "ترابط"    إطلاق مبادرة لتعزيز التجربة الدينية لزائرات المسجد النبوي    20 قتيلاً.. وتصعيد إنساني خطير في غزة.. مجزرة إسرائيلية في خان يونس    د. باجبير يتلقى التعازي في وفاة ابنة شقيقه    " الأمن العام" يعرف بخطوات إصدار شهادة خلو سوابق    "الأحوال": جدد هويتك قبل انتهائها لتفادي الغرامة    «شلة ثانوي».. مسلسل جديد في الطريق    نيابة عن أمير عسير محافظ طريب يكرم (38) متفوقًا ومتفوقة بالدورة (14) في محافظة طريب    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام قديمة في المنصورة
نشر في الحياة يوم 16 - 10 - 2002

لم أجد عم علي عند تقاطع الشيخ حسنين مع شارع السلخانة، هذه المرة بحثت عنه طويلاً، لكن لا أحد منحني اطمئناناً.
30 عاماً مرت منذ ان غادرت المنصورة، تلك المدينة الراقدة على سرير النيل في دلتا مصر. غادرتها حاملاً شهادة وذكريات لصيقة، وحين عدت اليها، كانت العقود الثلاثة حفرت في جبينها خطوطاً أخرى وملامح غير التي اعتدت.
في الصباحات الباكرة حين كنت أغادر مسكني في الحارة الضيقة التي نسيت اسمها الآن، لكن ملامحها لم تغب بعد، كنت أفضل عدم السير في شارع "الجلاء" الطويل ثم الانحراف منه الى شارع "الثانوية" حيث كلية التربية - في الزمن القديم - انطلاقاً الى شارع "البحر"، حيث يقع مبنى قديم يحمل سمات الفخامة الغاربة، اختارته الجامعة ليكون مقراً لأحد مبانيها.
لم أكن أحب هذا الشارع المغبر صيفاً، الموحل إذا مرت سحابة في فصل الشتاء فأهدت قطرات تحيتها للأرض، وكنت أفضل عليه، الانحراف يساراً الى شارع "السلخانة" ومنه الى "العباسي" الممتد أيضاً، ليأخذني بعد هذه المسافة الطويلة الى طريق الكورنيش الذي يسميه أهالي المنصورة شارع البحر، وفي طريقي كان عم علي يقف أمام عربته الخشب، يبيعنا سندويتشات الفول المدمس، نلتقي عنده كل صباح ونتخذه مكاناً للتجمع، يبتسم حين يرانا قادمين، ويمنحنا - حين نمد له اليد بقروشنا الفقيرة - ابتسامة ودعاء بأن ينجح الله لنا "المقاصد"، بعدها يكون الانطلاب معاً الى الطريق نفسه، وكل منا يحمل لفافته يقضم منها، فتتساقط بقايا "حبات الفول المهروسة" على الأرض، ومعها بعض قطرات الزيت الداكنة على ملابسنا.
سنوات من العمر الصغير، قضيتها بكامل لحظاتها في تلك المدينة، كانت أيامها بسيطة هادئة لدرجة مدهشة، حارات كثيرة وأزقة ومنعطفات، لكنها بملامح القرى، وبشر من كل الأماكن وبكل الأشكال، خليط من الملابس واللهجات تتلاطم في شوارع المنصورة، ونسوة ربطن رؤوسهن بأقطمة سود وافترشن جانبي الطرق الرئيسية يبعن جبناً ولبناً وسمناً من النوع "المعتبر"، ويلففن في نهاية اليوم نقودهن في قطعة صغيرة من القماش ويطوينها بأيديهن والأسنان ثم يخبئنها وينطلقن الى قراهن ليعدن ثانية الى المكان نفسه عند بزوغ شمس اليوم الجديد.
اقترب من مكان "مدرسة فريدة حسان" حيث طالبات الثانوية كن يخرجن عند الظهيرة فيقتفي الصبية المراهقون أثرهن، كنت أسمع في هذا المكان، طلاباً يرددون مقاطع من كلمات لمحمد فوزي يغازل بها ليلى مراد، وأخرى لعبدالحليم يروي بها ما جرى له من "أبو عيون جريئة" ويناديه "قوللي حاجة... أي حاجة"، ويسائله "أسمر يا اسمراني مين قساك عليّ؟"، حتى سعاد حسني و"الواد التقيل" كان لها أيضاً نصيب في مزاد الأغاني الذي يُعقد يومياً في تقاطع فريدة حسان مع شارع الشيخ حسنين، كان كل يغني على ليلاه ويغني لها، وكان غناء هذا الزمان الجميل يستميل الهوى وينساب كالنسائم بين العشاق الصغار الحالمين.
أذهب الى نهاية منطقتها التجارية في شارع "السكة الجديدة" علني أعثر على التمثال القديم المنتصب وسط ميدان المحطة لسيدة الغناء العربي، فأجد الدنيا غير الدنيا، والبشر غير البشر، كأن الملامح تبدلت، وكأن أم كلثوم التي ولدت في طماي الزهايرة القريبة، ليست هي التي كنا نستمع الى أغانيها على الكورنيش بينما نتجه الى "جزيرة الورد"، لم تعد هي أم كلثوم، وكأن عبق الذين أنجبتهم تلك المدينة، من علي محمود طه الى رياض السنباطي، ومحمود مختار فأحمد لطفي السيد وفاتن حمامة والشعراوي وكامل الشناوي ومحمد حسين هيكل صاحب رواية زينب ونجيب سرور وعلي مبارك، كأن عبقهم قد تغير، لكنه مع ذلك، لا يزال يمنح هذه المدينة ألقاً.
اتجه نحو دار ابن لقمان، لأشم تلك الرائحة التي كان عطرها يجذبني بين فترة وأخرى، أروح لأرى المكان الذي قضى فيه لويس التاسع عشر ثلاثة أسابيع أسيراً مهزوماً، أمضي الى حديقة شجرة الدر لأتذكر تلك السيدة التي أخفت نبأ وفاة زوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب كي لا يفت من عضد جنوده في قتالهم ضد الغزاة، وقادت معركة زوجها، وانتصرت، وأتخيلها بعد انتصارها الفذ قتيلة في معركة نسائية، ب"قبقاب".
أستعيد تلك الأيام التي كنت أتوجه فيها صبيحة أحد أيام الأسبوع التي لا أتذكر اسمه الآن الى الحديقة التي تحمل اسمها لأرى الفرقة الموسيقية للشرطة بملابسها المميزة تنفخ في آلاتها النحاسية فيعلو صوتها الزاعق على ضجيج السيارات العابرة.
هنا كنا نتمشى في عصاريها ونمارس لعبة الضحك على ذقون رجال العسس، كانوا وقتها يكلفونهم بمراقبتنا، نحن الطلاب الصغار الحالمين.
وفي شارع السكة الجديدة الذي قطعناه آلاف المرات جيئة ورواحاً، كان أحدهم دائماً يتعقب خطانا، راصداً المكتبات التي وقفنا عندها، والجرائد التي تناولتها ايادينا، فيما كانت جيوبنا خاوية من نقود ضئيلة تروي بها عطشنا لشراء الصحيفة، كنا نكتب شعراً وقصصاً، ونلقي نكاتاً ونخترع حكايات، ونسهر الليالي لنرسم صحيفة من ورقة واحدة مستطيلة مقواة ونصحو، باكراً لنعلقها فوق حائط الجامعة، قبل ان يأتي الموظفون الاداريون، ينزعونها، فنعيد الكرة من جديد بعد أيام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.