يثير موضوع العمليات الاستشهادية جدلاً كبيراً في الساحة الفلسطينية، وانقسمت المواقف من حوله بين مؤيد ومعارض ومنتقد. وكالعادة لم يتخذ النقاش مسارات سليمة، ولم يصل الى نهايات أو توافقات معينة. ويبدو الموقف من هذه العمليات في الساحة الفلسطينية على غاية من التعقيد والصعوبة، أولاً، بحكم سيادة ثقافة سياسية ترتكز على الرموز والعواطف والمطلقات، فإما مع أو ضد، وثانياً، بسبب حجم الارهاب الاسرائىلي الموجه ضد الشعب الفلسطيني، والذي يظهر هذه العمليات وكأنها رد فعل بديهي يستخدمه الطرف الضعيف في مواجهة الطرف القوي، وثالثاً، لأن الخلاف هنا هو أساساً خلاف سياسي وليس مجرد خلاف على الوسائل. ورابعاً، بسبب معاناة الانتفاضة من غياب قيادة تحدد رسالتها السياسية ووسائل عملها. واتسم نقاش موضوع العمليات الاستشهادية بنقاط ضعف، من ضمنها لجوء كل طرف الى إدانة الآخر. فالمعارضون لهذه العمليات دانوها في حين طعن المؤيدون لها في الصدقية الوطنية للفريق الآخر، وهذا بالطبع قطع النقاش ولم يؤسس لوعي سياسي حول الموضوع، وأخلّ بوحدة قوى الانتفاضة وبلبل الشارع الفلسطيني. وبالغ كل طرف في محاولته دحض وجهة نظر الآخر والحط من قيمتها، فالتيار المؤيد يرى بأن هذه العمليات هي السلاح الذي ابتدعه الفلسطينيون لايجاد نوع من توازن الرعب وردع شارون وصولاً الى هزيمة اسرائيل وانتصار الانتفاضة، في حين حاول الفريق الآخر إثارة شكوك حول هذه العمليات ومواقيتها واستهدافاتها، مستفيداً من العشوائية وعدم تبلور استراتيجية سياسية أو عسكرية واضحة للقوى التي تقف وراء هذه العمليات. ومن جهة اخرى، ذهب الطرف المعارض بعيداً في رفضه المقاومة المسلحة، بما فيها تلك التي تجرى ضد الاحتلال العسكري الاستيطاني الاسرائىلي في الأراضي المحتلة، لمصلحة التمسك بالانتفاضة كفعل شعبي / مدني، أما مؤيدو العمليات الاستشهادية، فهم بدورهم، لم يميزوا في النقاش بين الموقف من هذه العمليات وعمليات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وتمّ تصوير النقاش، من قبلهم، وكأنه يستهدف حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، واعتبروا ان العمليات الاستشهادية تشكل 90 في المئة من عمليات المقاومة وان وقفها يعني المطالبة بوقف المقاومة على حد تصريح أحد قياديي هذا التيار، وهذا غير صحيح، لا لجهة الارقام ولا لجهة الفهم السياسي، اضافة الى ان هذا التعميم لا يخدم قضية النقاش. وفي الواقع فإن مناقشة الأمر تحتاج الى وعي سياسي مرتبط بمصالح الشعب الفلسطيني لا بالمصالح الفئوية الضيقة وبتعقيدات قضيته على المستويات العربية والدولية وحتى الاسرائىلية، كما تحتاج الى مزيد من الهدوء وتقبّل الرأي الآخر. وبلغة الارقام شهد العام الاول للانتفاضة مصرع 164 اسرائىلياً، سقط منهم 59 في 12 عملية استشهادية ضمنهم 39 اسرائىلياً قتلوا في عمليتي ملهى الدلافين ومطعم سبارو في القدس، يومي 1/6 و9/8/2001، في حين أدت عمليات المقاومة المسلحة الى مصرع 105 اسرائيليين سقطوا في 8000 عملية في الضفة الغربية وقطاع غزة. أما محصلة 23 شهراً من الانتفاضة / المقاومة حتى 31/8/2002 فأدت الى مصرع 610 من الاسرائىليين، سقط منهم في عشرات العمليات الاستشهادية 250، في حين أدت 14 ألف عملية من عمليات المقاومة المسلحة في الضفة والقطاع الى مصرع حوالى 360 اسرائىلياً. واللافت للانتباه ايضاً انه تمّ مصرع 23 عسكرياً اسرائيلياً، فقط، في العمليات الاستشهادية، في حين أدت عمليات المقاومة المسلحة الى مصرع 160 من أصل 183 عسكرياً قتلوا خلال عمليات المقاومة بمجملها. اما من حيث التوزيع الجغرافي للعمليات وبحسب صحيفة معاريف 31/7، فإنه منذ 29/9/2000 وحتى 30/7/2002 قتل 583 شخصاً: 220 منهم 38 في المئة داخل الخط الاخضر، وبرأي نداف شرغاي هآرتس 15/9 فإنه "خلال العامين الأخيرين قتل 619 شخصاً 133 منهم من سكان المستوطنات، اي 5،21 في المئة، 5،40 في المئة قتلوا نتيجة تفجير انتحاري وشخص واحد فقط قتل من اطلاق نار من قذيفة راجمة على رغم ان الفلسطينيين أطلقوا أكثر من ألف قذيفة كهذه. وهناك 267،14 عملية جرت خلال الاشهر ال23 الاخيرة. غالبيتها الساحقة 96 في المئة في مناطق الضفة والقطاع، عمليات الجبهة الداخلية 4 في المئة فقط. وللعلم نفذت أول عملية استشهادية في 4/3/2001 في نتانيا قتل فيها ثلاثة اسرائىليين، بعد خمسة اشهر على اندلاع الانتفاضة والمقاومة. على ذلك فإن مؤيدي العمليات الاستشهادية أضروا بخط المقاومة، من حيث لم يحتسبوا، اذ أنهم في مبالغتهم بدور هذه العمليات، طمسوا، ولو عن غير قصد، جانباً مهماً وناجحاً من مسيرة الكفاح الفلسطيني، المتمثل بعمليات المقاومة المسلحة في الضفة والقطاع والتي ساهمت برفع كلفة الاحتلال وقوضت أهمية المستوطنات، كما أنها كشفت بجلاء عن الطابع الاستعماري والعنصري لإسرائيل، ومن جهة اخرى فإن التركيز على العمليات الاستشهادية في مناطق 1948 أضر في شكل مباشر بشرعية عمليات المقاومة التي تجرى في الاراضي المحتلة. وهذه المقدمات تقود بالطبع الى نتائج سياسية مضرة، اذ ان عدم التمييز بين مناطق 1967 ومناطق 1948 يفيد اسرائيل من زوايا عدة، فالقوى اليمينية المتطرفة تتمسك بمفهوم "أرض اسرائيل الكاملة"، وهي لذلك لا تعتبر الصراع مع الفلسطينيين مجرد صراع على الارض المحتلة عام 1967، وإنما تعتبره صراعاً على وجود اسرائيل، وهي بذلك تعزز موقفها مرتين، أولاً، بتحشيد المجتمع الاسرائىلي وراءها، وثانياً، باظهار اسرائيل على الصعيد الدولي بصفتها ضحية "إرهاب" الفلسطينيين الذين يريدون القضاء عليها وتفاقم هذا الامر بعد أحداث ايلول / سبتمبر الأميركية! وإضافة الى هذا وذاك فإن العمليات الاستشهادية والرؤية السياسية التي تقف وراءها حمّلت الانتفاضة، بصفتها حال فعل في الحدود الجغرافية والبشرية في الضفة والقطاع، أكثر مما تحتمل، اذ وضعت على كاهلها مهمة حل كل عناصر القضية الفلسطينية، من عودة اللاجئين وليس فقط تطبيق القرار 194 الى ترحيل آخر يهودي عن أرضنا بحسب التصريحات الصادرة عن بعض القياديين. كما أنها أدخلتها في مواجهات غير قادرة على تحمل نتائجها، في ظروف دولية واقليمية غير مواتية، في معركة يفترض انها طويلة ومعقدة ومضنية وينبغي ان تخاض، من قبل الطرف الضعيف، بأعلى أشكال التنظيم والاقتصاد بالقوى ومحاولة خلخلة جبهة العدو وتحييد نقاط قوته. والمعنى انه اذا كانت الانتفاضة حال فعل في الخريطة الجغرافية والبشرية للضفة وقطاع غزة فإن من البديهي تركيز العمل على هاتين المنطقتين والتركيز على هدفها المتمثل بدحر الاحتلال، لتحقيق التماثل بين خريطة الانتفاضة الجغرافية والبشرية وخريطتها السياسية. واذا كانت الساحة الفلسطينية، مثلاً، أدركت متأخرة خصوصية فلسطينيي 1948 والتي تفرض عليهم اشكالاً معينة من الكفاح السياسي، فإن هذه الساحة معنية، ايضاً، بادراك خصوصية فلسطينيي الأراضي المحتلة الذين يكافحون لدحر الاحتلال ويدفعون ثمن الانتفاضة، من دون الاخلال بوحدة الشعب الفلسطيني وهويته ومستتقبله. وفي هذا الاطار يبدو ان الفلسطينيين معنيون بوعي التطورات الذاتية والموضوعية الجديدة المتعلقة بالصراع مع الاسرائىليين، والتي تفرض ادخال تحويلات معينة على مفهوم حق العودة أو مفهوم التحرير بتوسيع وتطوير مضامينهما، في اطار الكفاح لتقويض ايديولوجية الصهيونية ومؤسساتها العدوانية والعنصرية بايجاد حلول تبدأ ربما بدولتين لشعبين مروراً بدولة ثنائية القومية وصولاً الى دولة ديموقراطية علمانية، دولة تتجاوب مع التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المنطقة. ولا شك في ان هذه الرسالة التحررية الديموقراطية والحضارية، للحركة الوطنية الفلسطينية، تفرض اعتماد استراتيجية كفاحية تتناسب معها، بما في ذلك تبني أشكال مقاومة تؤدي الى رفع كلفة الاحتلال واضعاف الفكرة الصهيونية في المجتمع الاسرائىلي، لتحريره من إسار الصهيونية، وتخدم في عملية كشف جوهر اسرائيل العنصري والاستعماري على الصعيد الخارجي. وفي اعتقادي فإنه وحتى ينتظم النقاش حول هذا الموضوع لا بد بداية من الاقرار بحق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال مقترناً بالاقرار بأن هذا الحق لا يمكن ان ينجح من دون استخدامه بطريقة ناجعة وعقلانية وبارتباط مع الهدف السياسي" اذ دفع الشعب الفلسطيني، في ماضيه وحاضره، ثمناً باهظاً للشعارات والانفعالات والتوهمات، من دون ان يحقق شيئاً، والمطلوب وقف هذا المسار لمصلحة مسار آخر. * كاتب فلسطيني.