أرتيتا يعتقد أن عصر "الستة الكبار" في الدوري الإنجليزي انتهى    أنشيلوتي: برشلونة بطل الدوري الإسباني قدم كرة قدم جميلة    توطين الصناعة خارطة طريق اقتصادي واعد    هلال جدة يتوج بلقب الغربية في دوري الحواري    "المنافذ الجمركية" تسجّل 1165 حالة ضبط خلال أسبوع    وزير الصحة يكرم تجمع الرياض الصحي الأول نظير إنجازاته في الابتكار والجاهزية    رقم سلبي لياسين بونو مع الهلال    استمرار ارتفاع درجات الحرارة ونشاط الرياح المثيرة للأتربة على عدة مناطق في المملكة    استشهاد 13 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة    أكثر من 6000 حاجاً يتلقون الخدمات الصحية بمدينة الحجاج بمركز الشقيق خلال يومين    القاسم يقدم ورشة بعنوان "بين فصول الثقافة والصحافة"    جمعية نماء تنفذ برنامجًا شبابيًا توعويًا في بيت الثقافة بجازان    إطلاق النسخة التجريبية لأكبر مشروع للذكاء الاصطناعي في المسجد النبوي    اتفاقية تعاون بين قدرة للصناعات الدفاعية وفيلر الدفاعية لتعزيز الصناعات العسكرية بالمملكة    الفريدي يحصل على الماجستير في الإعلام الرقمي    المملكة تحتل المركز الثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة في جوائز "آيسف الكبرى"    محافظ الزلفي يدشن ملتقى الباب للتمكين التقني    تشلسي يفوز على مانشستر يونايتد في الجولة ال (37) من الدوري الإنجليزي    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين على منح وسام الملك عبدالعزيز    النفط يتجه لثاني أسبوع من المكاسب    النصر يتعادل إيجابياً مع التعاون في دوري روشن للمحترفين    النصر يتعادل أمام التعاون ويفقد فرصة اللعب في دوري أبطال أسيا للنخبة    الRH هل يعيق الإنجاب؟    الرياض عاصمة القرار    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة يحصد 23 جائزة في مسابقة آيسف 2025    سلام نجد وقمة تاريخيّة    سيرة الطموح وإقدام العزيمة    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 53,119 شهيدًا    سمو الأمير سلطان بن سلمان يدشن "برنامج الشراكات العلمية العالمية مع أعلى 100 جامعة " مع جامعة كاوست    إمام وخطيب المسجد النبوي: تقرّبوا إلى الله بالفرائض والنوافل.. ولا وسائط بين العبد وربه    الدوسري في خطبة الجمعة: الدعاء مفتاح الفرج والحج لا يتم إلا بالتصريح والالتزام    جمعية تعظيم لعمارة المساجد بمكة تشارك في معرض "نسك هدايا الحاج"    أمانة القصيم تطرح فرصة استثمارية لإنشاء وتشغيل وصيانة لوحات إعلانية على المركبات بمدينة بريدة    نائب رئيس جمعية الكشافة يشارك في احتفالية اليوبيل الذهبي للشراكة مع الكشافة الأمريكية في أورلاندو    أمانة القصيم تقيم حملة صحية لفحص النظر لمنسوبيها    أمين الطائف" يطلق مبادرةً الطائف ترحب بضيوف الرحمن    زمزم الصحية تشارك في فرضية الطوارئ والكوارث    46٪ لا يعلمون بإصابتهم.. ضغط الدم المرتفع يهدد حياة الملايين    مبادرة طريق مكة والتقدير الدولي        "الصحة" تُصدر الحقيبة الصحية التوعوية ب 8 لغات لموسم حج 1446ه    ضبط مصري نقل 4 مقيمين لا يحملون تصريح حج ومحاولة إيصالهم إلى مكة    الرياض تعيد تشكيل مستقبل العالم    لجنة التراخيص : 13 نادياً في روشن يحصلون على الرخصة المحلية والآسيوية    مُحافظ الطائف يستقبل مدير فرع هيئة التراث بالمحافظة    نائب أمير الرياض يطّلع على برامج وخطط جائزة حريملاء    أمير منطقة تبوك يرعى حفل تخريج الدفعة ال 19 من طلاب وطالبات جامعة تبوك    تحذيرات فلسطينية من كارثة مائية وصحية.. «أونروا» تتهم الاحتلال باستخدام الغذاء كسلاح في غزة    جناح سعودي يستعرض تطور قطاع الأفلام في" كان"    أكد أن كثيرين يتابعون الفرص بالمنطقة… ترامب لقادة الخليج: دول التعاون مزدهرة.. ومحل إعجاب العالم    أسرتا إسماعيل وكتوعة تستقبلان المعزين في يوسف    رؤيةٌ واثقةُ الخطوةِ    الحدود الشمالية.. تنوع جغرافي وفرص سياحية واعدة    عظيم الشرق الذي لا ينام    الهيئة الملكية لمحافظة العلا وصندوق النمر العربي يعلنان عن اتفاقية تعاون مع مؤسسة سميثسونيان لحماية النمر العربي    نائب أمير منطقة تبوك يشهد حفل تخريج متدربي ومتدربات التقني بالمنطقة    مُحافظ الطائف يشهد استعداد صحة الطائف لاستقبال موسم الحج    ولي العهد والرئيس الأمريكي والرئيس السوري يعقدون لقاءً حول مستقبل الأوضاع في سوريا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمة تبحث عن شاعر وشعراء الأمة لا يحصون . بدر شاكر السياب والعراق : مفارقات التغير والحضور والغياب
نشر في الحياة يوم 29 - 08 - 2001

صعب ان يُذكر الشاعر بدر شاكر السياب ولا يحضر العراق. ويكاد يكون من المستحيل ان يذكر العراق اليوم ولا تتداعى مأساته الرّهيبة التي تسحقه منذ اكثر من عقد، ومعها محنة العرب وبلوى العالم الإنسانية.
لا يعود ارتباط الشّاعر بالعراق الى جنسيته بقدر ما يعود الى ما شغله هذا البلد في شعره من مدى لا تقتصر اهميته على الجانب الكمّي، المتمثّل في ذلك الفضاء الدلالي الواسع الذي يشيده استحضار العراق بصيغ متعددة، بل يتعداه الى الرؤية الخاصة التي تمهر تعبيره عنه. فالغالب على هذا التعبير تداخل البعد الذاتي - الفردي بالبعد الاجتماعي - الوطني، تداخل يصل في احيان كثيرة الى وضع من التماهي او التماثل.
لعل في هذا التماثل اكثر من سواه يكمن التداخل المذكور، حيث لا يشكّل التصريح بحقيقة طرفيه شرطاً ضرورياً لمعرفته وإدراك دوره ومغزاه.
قد يكون في تعقّب مدارات الجوع والحرمان - على توفّر الخيرات - والاضطهاد الشرس - في أبشع صور الاستغلال - والنقمة المتحفّزة - على تطلّع الى التغيير - ما يبرز انجدال الشخصيّ والاجتماعي في شعر السياب.
في هذا الإطار يتوصل الشاعر الى ان يقيم من مفارقات الأوضاع التي يعانيها الأسس التي يبني عليها تعبيره الشعري، ويصوغ منها جماليته الخاصة.
"مطر...
مطر...
مطر...
وفي العراق جوع!
...
مطر...
مطر...
مطر...
...
وكلّ عام - حين يعشب الثرى - نجوع!
ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع".
فالمطابقة ترسو هنا على المفارقة بين الشرط والنتيجة، بين ما يتوفّر وما يتحقق.
في هذه الفجوة بالذات، في هذه المفارقة تحديداً، تكمن النظرة النافذة والرؤية الخاصة المومئة الى أصول الخلل في الوضع القائم، ليلتحم العنصر الأسلوبي بالعنصر الدلالي ويحدثا بذلك اثراً جمالياً مميزاً.
بيد ان السيّاب يطرق في شعره مدارات لا تقل اهمية عن مدار الجوع والحرمان، وإن بقي هذا الأخير الموضوع الأثير لديه من دون ان تقتصر دلالاته على البعد المادي والحسي. فهناك القمع والاضطهاد والنفي والعذاب، وأولاً وأخيراً الموت الذي يترصّده او القتل الذي يعصف بكادحي العراق وفقرائه. وهناك المطر الذي يختصر لا دمع الجياع والمضطهدين وحسب، ولا دمهم المسفوك على ارض العراق ورمل الخليج فقط، بل ايضاً بذور التغيير والإصلاح المنشودين على جلجلة المجابهة والكفاح.
يستدعي شعر السيّاب عراق اليوم فيضحى قوله فيه أشد مفارقة بقدر ما يظهر فيه من موافقة. فلا يبعد هذا القول من ان يصح في عراق لا يكف منذ سنين، وأكثر مما مضى، عن الجوع والأنين.
مع ذلك، فإن عراق اليوم ليس عراق الأمس. فلم تعد الثروة والرفاهية مرتبطين بالطبيعة المطر أو الربيع إذ أضحت متعلّقة بالصناعة، بالنفط واستخراجه وتسويقه، ولم يعد الجوع وليد علاقات ما قبل رأسمالية إقطاعيّة قديمة وواضحة، بل نتيجة علاقات رأسمالية - امبريالية أو معولمة حديثة ومموّهة.
ضمن هذا الإطار تبدو الإحالة على الأساطير، ومنها الأخذ بأسطورة التجدد والانبعاث، مرتبطة بالفكرويّة ما قبل الرأسمالية بالية وقاصرة عن الإحاطة بالمعطيات الجديدة والطارئة، وعن اداء الموقف الملائم للأوضاع المواجهة.
قد يكون لسيّاب اليوم ان يقول - كما قال سيّاب الأمس: مطر وعشب ونخيل وكروم... وجوع! بل: مطر وجوع ودمع ودم...!-: نفط وجوع! بل: نفط وجوع ودم ودمار...! ليقيم في الفجوة - المفارقة بين المفردات الجديدة الدلالات المحدثة والأبعاد المستجدة التي تتضمنها.
مأساة اليوم ان رهان الأمس المترائي لدى السيّاب على تغيير ايجابي كأمر حتميّ، لا يجد مستنداً واقعياً في المعطى القائم حالياً. وبين المفارقات التي تسم الأوضاع الراهنة، لا تبدو تلك القائمة بين ثراء البلاد وجوع اهلها هي الأكثر اثارة، بقدر ما تبدو كذلك تلك البارزة في "التعاون" بين الضحية والجلاد كما يتمثل بشكل خاص في ذلك الاتفاق الذي ابرم بين قيادة المعارضة للسلطة الحاكمة في العراق والسلطات - والاستخبارات - الأميركية التي دعمها عسكرياً ومالياً وسياسياً وهو "تعاون" يعرف لدى الأكراد مستوى من الرقيّ اعظم اهمية وحدّاً من المفارقة اشد فظاعة. ...
وحظي الوضع العربي بمكانة خاصة في شعر السيّاب. وقصائده "العربية"، تلك التي واكبت حركة التحرر الوطني العربية في مواقعها الأكثر احتداماً في الخمسينات بشكل خاص، في فلسطين وفي المغرب العربي تحديداً، تحفل بنبرة لا تقلّ مأسوية عن تلك التي تتردد في قصائده العراقية.
من المصادفات اللافتة ان تكون هذه المواقع هي نفسها التي تعرف اليوم النزاعات الأكثر دموية والأشد شراسة، على اختلاف في المعطيات والآفاق، ومن دون ان تحتكر وحدها هذه النزاعات، طارحة مفارقات ورهانات لا تقل عن سابقاتها المتعلقة بالعراق حدة وإثارة.
ليس للناظر إلا ان يرى الى فلسطين التي لحظ السيّاب إخراج الغزاة الفاتحين من اليهود العرب من ديارهم، بل من آدميتهم نازحين ولاجئين الى الجوع والهلاك "قافلة الضياع"... ليعاين تفاقم وضع هؤلاء على رغم النضالات والتضحيات، ويلحظ ما سبق بيانه بصدد العراق من تعاون الضحية والجلاد. تعاون لا ينهض فقط بين "سلطة فلسطينية" وسلطة صهيونية، بل يتم كذلك برعاية وتنسيق من قبل سلطة - استخبارات - اميركية. والمفارقة ان الظاهرة هنا تصبح اشد وأقوى حين تقدم هذه الرعاية مطلباً لا تكفّ السلطة الفلسطينية عن استدعائه والإلحاح عليه، بل عن استجدائه والإصرار على نيله. فهنا - في فلسطين - كما هناك - في العراق - تقف الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني في مواجهة الشعب العربي في سعيه الى التحرر والانعتاق والتطور، وتمعن في إخضاعه وإذلاله وتدميره، إلا ان قياداته الوطنية تلجأ في المقابل الى هذه القوى المعادية طرفاً حليفاً أو داعماً في الصراع المحتدم وما يتعلق به من قضايا مصيرية ونضالية، في مفارقة قد تشكل الى حد كبير تفسيراً للطابع العام الذي يتخذه هذا الصراع ومآله.
في قصائد السيّاب العربية يتراءى البعد الإسلامي عنصراً بارزاً من عناصر تكوين الأمة العربية وعاملاً اساسياً من عوامل نهضتها واستنهاض قواها واشتداد تصديها لما تتعرض له من هجمات. ويبلغ الالتباس اليوم في البلدان العربية ان أضحى هذا البعد عنصراً رئيساً من عناصر تقويض هذه النهضة وتفتيت المجتمع وتدمير مؤسساته، في الوقت الذي يتصدر فيه الصراع ضد الكيان الصهيوني، محققاً إنجازات راقية في هذا الميدان - في لبنان وفلسطين - لا تحطّم اسطورة الجيش - الصهيوني - الذي لا يقهر وحسب، بل تفضح هزالة الجيوش النظامية العربية وميوعة التنظيمات المسلحة الفلسطينية والقومية واليسارية ايضاً، في واحدة من المفارقات الفاجعة التي تسم البعد المذكور.
ليس للمتابع إلا ان يستعيد قصائد السياب في هذا المجال، خصوصاً "في المغرب العربيّ" في ضوء ما يجري في الجزائر منذ نحو عشر سنوات تقريباً من مجازر وفظائع من قبل تنظيمات اسلامية مسلحة - ناهيك بما يجري في افغانستان تحت رايات "الطالبان" المتطرفة من ارتداد حضاري مخيف، وفرض لنظام حكم تعسفي استبدادي رهيب، والموقعان لا يعدمان، على هذا المستوى من النشاط الإسلامي، اكثر من وجه تماثل وتفاعل وتواصل - لمعرفة اي درك بلغته الأوضاع العربية وأي خطر تمثله الحركات الإسلامية مع تراجع المد القومي وخفوت الصوت العلماني، وفي ضوء ما تحقق ويتابع في لبنان وفلسطين من قبل مقاومة اسلامية تلحق بالكيان الصهيوني ضربات موجعة إن لم تبلغ حدّ هزيمته فهي على الأقل تعبّر عن رفض اصيل لوجود هذا الكيان العنصري ولضمان استمراريته الشاذة، لمعرفة الدور التاريخي المؤثر الذي تؤديه الحركة الإسلامية في مواجهة المخاطر التي تتعرض له الأمة العربية، مع ما في هذه المعرفة وتلك من استحضار لمفارقة من اهم المفارقات الراهنة الداعية الى التفكّر والاستنباط.
بيد ان شعر السياب لم يتوقف عند هذا المدى العربي في تناوله قضايا الجوع والقهر والظلم... إنما امتد الى المدى العالمي الإنساني. كانت قصائده في هذا المجال حافلة بتأكيد تضامن الشعوب المضطهدة - وخصوصاً في آسيا - في وجه الطغاة من الرأسماليين المهووسين بالربح والنهب والفاقدين لأي قيم أو مشاعر انسانية.
كانت تتراءى خلال هذه القصائد نظرته الأممية في الفترة الشيوعية، ومرحلة الالتزام عموماً، منخرطاً خصوصاً في تأييده للسلام وتغنيه به، في ما اعتبر حرباً باردة بين القطبين الأميركي والسوفياتي، الى جانب هذا الأخير.
لا ينضح هذا الشعر بالفكروية المباشرة او القريبة الأخذ، حتى يكاد ان يكون انشاء خطابياً أو تلويحاً بشعارات تقدمية، وإنما أيضاً بسطحية في المعالجة ونثرية في التعبير لافتتين.
كان عداؤه للظلم وتطلبه للعدل عامَّين وحاسمين، وفيهما يتجلى البعد الإنساني الشامل في شعره، على أن حضور هذا البعد لا يقتصر على قصائده العالمية، وإنما هو قائم كذلك في تلك العربية والعراقية. وخلافاً لما عرفته هذه الأخيرة من امتزاج البعد أو العامل الذاتي - الفردي بذاك الجماعي - العام، وبلوغها مراتب شعرية راقية في الأداء التعبيري، فقد غاب إجمالاً البعد الفردي المذكور عن القصائد العالمية، ولم يعرف الأداء التعبيري فيها الشأو الرفيع الذي بلغته تلك العربية والعراقية. كأن هناك في شعره علاقة بين الأمرين مقررة أو حاكمة وعلاقة تبدو الأوضاع الراهنة في العراق والبلدان العربية توفر شروطها الضرورية. ففي هذه المنطقة تتجسد اليوم اكثر من اي مكان آخر سياسة الظلم والاستغلال في أرقى مستوياتها.
ليست مسألة العولمة اقتصادياً وسياسياً هي المطروحة وحدها، بل ايضاً ذلك الحضور الساحق لأكثر مظاهرها بشاعة، بدءاً من الحصار حتى الغارات مروراً بالاستنزاف والإبادة والتدمير، ليس في ما يخصّ العراق وحده وإنما ايضاً في السودان وليبيا، عدا عما هو مستمر الى جانب ذلك من احتلال وإرهاب من قبل الصهاينة في فلسطين وسورية ولبنان.
في الوقت الذي تعرف البلدان العربية اوضاعاً مزرية أو قاسية من التخلف والإرهاب والاستتباع والاحتلال من الخارج والاقتتال في الداخل، تبدو الأمة العربية اليوم، في ما يعتبر من مظاهر بؤسها وتردّيها، مفتقرة الى شاعر يعبّر عن قضاياها الحيوية والمصيرية.
أمة تبحث عن شاعر ولا تجده، وشعراء الأمة لا يحصون، بين مستغرق أو راتع في مغاور الخصوصيات من جهة ومحلق أو معلق في فضاءات العولمة من جهة ثانية، يهيمون من بيادر القرى الى منابر المدن، ولا يتوقفون عندها احداثاً او قضايا، وإذا توقفوا عند الوطن فنادراً ما أحسنوا إتيانه. مفارقة اخرى من مفارقات هذا العصر وشعره وشعرائه...
لقد حاول السياب - وغيره كثيرون - النهوض بهذه المهمة القومية، فدانى هدفه في بعض قصائده - من مرحلة الالتزام - من دون ان يبلغه ويحقق غاياته في شعره.
كان من دون شك شاعراً موهوباً، إنما ليست الموهبة وحدها، على رغم ضرورتها، كافية لذلك، وكان شاعراً ملتزماً - حزبياً في فترة، وخارج الأطر الحزبية في فترة اخرى - وليس الالتزام على أهميته كافياً بذاته من اجل ذلك، خصوصاً أنه لم يكن ثابتاً، وقد عرف النكوص والارتداد، وكان شاعراً حداثياً ريادياً، والحداثة شرط النهوض بالدور المفترض لطليعة شعرية للمرحلة، وهي قبل اي شيء آخر ثقافة، معرفة ورؤية وموقف. ولعل السياب بقي، على رياديته، مقصّراً في هذا المجال، حيث بدت ثقافته محدودة أفقياً وعمودياً، فلم تبلغ اتساعاً يتعدى المتداول القريب، ولم تدرك عمقاً يبدي عن تملك لاتجاهات، او تيارات عالمية معاصرة، ناهيك بتجاوزها في خصوصية التجربة والتعبير.
إذا كانت هذه الشروط الثلاثة المشار إليها اعلاه هي التي حكمت نتاجه الشعري الحداثي، فإن ما انتهت إليه من جعل هذا النتاج، في رياديّته بالذات، متفاوتاً وغير مكتمل، لم يأت نتيجة فعلها كعناصر مستقلة، بقدر ما جاء نتيجة قيامها مجتمعة في شخصيته ككل، كبنية متماسكة واحدة.
لا يستبعد المدقق في نتاج السياب ومواقفه الخلوص الى اعتبار الضعف والهشاشة سمتين بارزتين في شخصيته. فمعظم شعره يضج بالشكوى والأنين، ومعظم "أبطال" قصائده ضحايا، وجلهم لا تظهر ايجابية انجازاتهم إلا بعد الموت، أو هي مؤجلة الى حين البعث المفترض. المتكلم مفجوع وعاجز غالباً، ولا يجد التماسك والقدرة إلا بقدر ما يلتحم بالجماعة التي وحدها تعطي الأنا المتهالكة والمتبددة الصلابة والثبات، رؤية وموقفاً وأداء.
ربما بسبب تلك القطيعة التي عرفتها الذات مع الجماعة في المرحلة الأخيرة من حياته في الستينات تبدت شخصية السياب في نكوصها وارتدادها على حد كبير من التهافت والضياع، في واحدة من ابرز المفارقات التي عرفتها سيرته الشخصية.
مع ذلك لا يفوت الناظر في شعره ان يلحظ اهم المقومات او المكونات المميزة في شعريته، أو الأوجه أو العناصر الغالبة في تكوين جماليته التي جعلته في ريادة الشعر العربي الحديث عند منتصف القرن الغابر وبعده.
لعل اهم هذه العناصر تتمثل في الإيقاع الشعري الرفيع المستوى الذي يعمر قصائده ويجسّد بقوة حضوره الطاغية عبقرية الشاعر أو موهبته الفذة. فقصائد السياب ذات وقع موسيقي بارز يجد مرتكزاته في الأوزان - الخليلية أو التفعيلية - التي بقي وفياً لها وملتزماً أصولها، وفي حرصه على القافية، وإيلائها الاهتمام الكبير لأداء دورها في الوحدات الإيقاعية التي تجيء فيها، وفي التشكل العام للقصيدة.
إلا أن إيقاع القصيدة عند السيّاب يقوم ايضاً على ذلك الائتلاف الصوتي او التجانس الصواتي للحروف فيها، حيث يأتي انسياب الكلام او تدفقه مثيراً لمتعة سماعية قائمة بذاتها. بيد ان السياب لم يكن يكتفي بذلك، إذ كان يسعى لأن يأتي هذا الإيقاع متكافئاً، أو متفقاً أو متجاوباً مع المعطى الدلالي الذي يؤدّيه الكلام في سياق النصّ الجامع ووحدته.
في هذا المسعى بالذات يختزل أبرز أوجه الشعرية التي مهرت قصائده، كما يمكن التحقّق من ذلك في الرجوع الى "أنشودة المطر" و"النهر الموت" و"مدينة بلا مطر" و"تموز جيكور"... وتجلّت عبقرية الشاعر هنا في مهارة فائقة في استعمال التفاعيل بشكل ينضح حيوية ونضارة على غنى وتنوّع كبيرين. وهي مهارة اتاحت له الانغماس في مشروع تجديد بنية القصيدة العربية، وكرّسته رائداً بارزاً فيه.
وقد ظهرت باكراً في شعره من خلال استعماله المتقن للصيغ التقليدية من أوزان خليليّة أو موشّحات، وبرزت من ثم متألقة في استخدامه المرهف للتفعيلة في ذرى إبداعاته الناضجة. ويبدو الشاعر حريصاً على تأكيدها من خلال انصرافه الى نظم قصائد مطوّلات تضمنت بعضها المئات من الأبيات كما هو الحال في "فجر السلام" و"حفار القبور" و"المومس العمياء" و"الأسلحة والأطفال"... ومن خلال انهماكه في التجديد الإيقاعي باعتماده الصيغ المختلفة لشعر التفعيلة متجاوزاً بجدارة ما كانت نازك الملائكة تسعى الى التضييق فيه وحجره، بلجوئه الى التفاعيل المزدوجة "بور سعيد"... وجمعه في النص الواحد اكثر من تفعيلة "جيكور والمدينة" و"رؤيا في عام 1956"... بل جمعه الوزن الخليلي مع الوزن التفعيلي "من رؤيا فوكاي" و"إقبال والليل" و"ليلى"......
تشكّل هذه التجربة الرائدة معلماً رئيساً من معالم مسيرة التجديد والتحديث التي عرفها الشعر العربي، وتنير الكثير من مواضع الغموض والالتباس اللذين احاطا بجملة من القضايا والمسائل التي واجهها هذا الشعر وما تزال اصداؤها تتردد حتى اليوم، كما هو الحال بصورة خاصة بالنسبة الى "قصيدة النثر" وما يتعلق بها من دكنة وتشويش.
والعنصر التكويني الثاني في شعرية السياب قائم في اسلوبه التعبيري، في بناء القصيدة على الرمز والاستناد فيها الى الأسطورة من ناحية، ومن اللجوء الى الصور المجازية او التعابير البيانية المستجدة والطريفة الملائمة من ناحية ثانية، ليكون له في الجانب الأول عالم ايحائي عام يفتح القصيدة على آفاق فكرية وخيالية واسعة، ويضمن اتساقها ووحدتها في ان، وليوفر في الجانب الثاني مكتنزات العالم الرمزي المطروح، لتفصح في إحالاتها المتعددة عن وجهة الإيحاء المقصود، عن خصوصية التجربة وفرادة الرؤية. وفي ذلك الاتساق او التماسك بين البناء الرمزي والحشد البياني كانت أسلوبية تعبيرية جديدة، عرفت مع السيّاب حالات من الابتداع راقية وأحياناً استثنائية، تعلن عن حضورها.
قد يعود ذلك في مثل هذه الحالات الى أمرين رئيسين. الأول جرأة الشاعر في تكوين صوره وتأليف مشاهده، حيث يتخطى الممنوع عرفاً أو المرفوض حكماً، فلا يتورع عن اختراق المحظور وتجاوز المحدود حتى المفاجأة والصدم. الثاني اقتحام الذات اوضاعاً وشروطاً لا تحول معطياتها وتقبّل حضورها، إن كان الأمر على المستوى التاريخي - الوقائعي او على المستوى المنطقي - الواقعي، فتمثل الأنا في حالات غريبة مدهشة ومثيرة تصدم في لا توقّعها وتفاجئ بلا منطقيتها. يتبدّى ذلك في تناول الرموز والأساطير خصوصاً، وفي التعرّض للدينيّ والمقدّس على الأخص، فإذا التحم الأمران بلغ اسلوب التعبير لديه حداً من الجمالية والابتداع رفيعاً.
ان مجيء هذا الأسلوب متكافئاً مع العنصر الإيقاعي يوفّر للقصيدة اهم الشروط لتحظى بمستوى راق من الجمالية الفنية والإبداعية الشعرية، كما هو الحال في "رسالة في مقبرة" و"المسيح بعد الصلب" و"مدينة السندباد"...
من حسن حظ الشاعر، والشعر وقرّائه، ان تعابيره المشار إليها هنا، حيث يأتي كلامه على المسيح مثلاً في "المسيح بعد الصلب" على هذا النحو:
"بعدما انزلوني، سمعت الرِّياح
في نواح طويل تسفّ النخيلْ
والخطى وهي تنأى. إذن فالجراحْ
والصليب الذي سمّروني عليه طوال الأصيلْ
لم تمتني...".
لم تفتح الباب لتكفيره وإباحة دمه وتحريم كتبه كما حصل لسلمان رشدي أو لمقاضاته من قبل اصوليين اسلاميين بناء على قانون الحسبة مطالبين بإقامة الحد عليه وبفصله عن زوجته كما عرف ذلك نصر حامد ابو زيد وزوجته أو للحكم عليه من قبل سلفيّين إسلاميين يصدرون الفتاوى بشأنه مطالبين برأسه ....
يمكن اعتبار العنصر التكويني الثالث في شعرية السيّاب تلك السردية التي يستند إليها، والتي تجعل البنية التي تقوم عليها قصائده، وخصوصاً بينها تلك الرفيعة الإبداعية، بنية تحوّلية. يظهر الأمر هنا وكأنّ شعرية النص غير منفكّة عن هذه البنية فيه، هذا إن لم تكن العلاقة بين الطرفين طرديّة، تقوى الأولى بمقدار حضور الثانية.
المقصود بالبنية التحوّلية هنا تلك البنية التي تشير الى تحول او تغيير طارئ في سياق النص، حيث ينتهي هذا الأخير الى وضع أو موقف مختلف عن ذاك الذي وسم منطلقاته او مقدّماته. وإذا صحّ القول بغلبة تملّي الحالات على النص الشعري، في مقابل غلبة تقصّي التطورات على النص القصصيّ، فإن هذا الطابع التحويلي الذي يسم بنية القصيدة عند السيّاب يحيلها - في بعد من ابعادها التكوينية - على النمط النصي الأخير القصصي ويدفع بالشاعر الى اعتماد السرد كمقوّم بارز من مقومات التعبير والأداء لديه، ويدفع بالباحث الى أن يأخذ في الاعتبار الوضعية الخاصة لتكوين النصر الشعري عند السيّاب، خصوصاً ما يتعلق منها بتداول الضمائر وترتيب الوقائع، في مسعاه لتحديد الشعرية المميزة لهذا النص.
في الإمكان الرجوع في هذا الصدد الى مطوّلات السيّاب حيث يتجلى فيها اكثر من سواها هذه البنية التحولية والدور البالغ الأهمية للعنصر السردي فيها.
يجوز اخيراً اعتبار الرؤية النقدية التي تنضح بها قصائد السياب، والتي تشكل إدانة الاستلاب السلعي او فضح الاغتراب الإنساني الذي تفرضه العلاقات الرأسمالية الطارئة على الأفراد والجماعات الوجه الأبرز فيها، العنصر التكوينيّ الرابع في شعريه السياب.
تنتمي هذه الرؤية الى العنصر الدلالي في النص وتمهره بنيةً وتعابير بموقف يتّسم بالنضوج والعمق والجذريّة في تطلعه الى التغيير، يسهم في إيقاظ وعي المستمع أو القارئ فيضفي على النص قيمة فكرية وجمالية من جهة اولى، ويؤدي دوراً، إن لم يكن ثورياً فعلى الأقل اصلاحياً ونهضوياً من جهة ثانية، وينسجم مع الاتجاه التجديدي العام الذي يطبع العناصر المكوّنة الأخرى لبنية هذا النص من جهة ثالثة.
* كاتب لبناني، والنص مقاطع من مقدمة لكتاب جديد له يصدر قريباً عن دار الآداب في بيروت في عنوان "بدر شاكر السيّاب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.