التكامل مع الاقتصاد الدولي جزء أصيل من مسيرة المملكة، وتأكد ذلك مع إطلاق رؤية 2030 التي أعادت رسم مكانة المملكة اقتصادياً عبر سلسلة من الإصلاحات والتشريعات لجذب الاستثمارات، وتيسير دخول وخروج المستثمرين، وتحسين سلاسل الإمداد والأهم هو توطين الصناعة. في المؤتمرات والمعارض الدولية نتعرض دوماً لسؤال يتكرّر: هل يخشى الاقتصاد السعودي أن يفقد جزءًا من سيادته حين ينفتح على الشراكات العالمية؟ تجربتي تقول العكس تماماً؛ فكلّما تعمّقنا في التكامل الدولي، ازداد المحتوى المحلي رسوخاً واستدامةً. المزايا التنافسية التي نملكها اليوم لا يخفى على أحدٍ أنّ لدينا ميزات لا تتكرّر كثيراً في منطقةٍ واحدة: وفرةُ الطاقة بأسعار قادرة على جذب الصناعات الثقيلة، وبنية لوجستية تتطوّر بسرعة من موانئ بحرية وجوية وبرية، وسرعة استجابة للمتغيرات، ونمو متسارع، ورغبة أكيدة في طي المراحل يتوجها قرار سياسي شجاع. سوق محليّة نصفه دون سن الثلاثين، شغوفٌ بالتقنية والمنتجات الجديدة، وحزمُ دعمٍ حكومي وتسهيلات تمويلية طويلة الأجل للشركات التي تلتزم بتوطين القيمة. يضاف إلى ذلك موقع جغرافي يربط ثلاث قارات؛ يسهل من خلاله إعادة التصدير إلى أوروبا وآسيا وإفريقيا. هذه الميزات تجعل المملكة شريكًا مغرياً للشركات العالمية، وتمهد الطريق لتحويل التعاون الدولي إلى محرك فعلي للتوطين. لماذا يدعم التكامل التوطين ولا يُقصيه؟ حين تدخل شركة عالمية إلى السوق السعودي فإنها لا تجلب رأس المال فحسب، بل تنقل الخبرة، والمعايير المثالية، وتجارب إدارة سلاسل الإمدادات إلى المصنع المحلي. عند توطين جزء من الإنتاج أو الخدمات، تُنشأ وظائف جديدة، وتُطوَّر تقنيات تلائم البيئة المحلية، ثم تُصدَّر مرة أخرى عبر الشريك الدولي نفسه. بهذه الطريقة يصبح التعاون بوابة لرفع المحتوى المحلي لا حاجزًا أمامه، فالقيمة الحقيقية لا تكمن في الماكينات أو خطوط الإنتاج وحدها، بل في انتقال المعرفة البشرية التي تبقى في المملكة بعد انتهاء عقد الاستثمار، لذا فإنّ الانفتاح المنظم هو أسرع طريق لبناء قاعدة محلية صلبة، كذلك، فإن عقود التصدير المشتركة تعطي المنتج السعودي "ختم ثقة دوليّاً" يصعب الحصول عليه إذا بقينا في سوقنا فحسب. "اكتفاء": نموذج على أرض الواقع أفضل دليل على أن التكامل يغذي التوطين هو برنامج «اكتفاء» في أرامكو. خلال عشر سنوات، قفزت نسبة المحتوى المحلي في مشتريات الشركة من 35% إلى 67% في 2024، مع هدف صريح ببلوغ 70% قبل 2030. البرنامج ضخَّ ما يقدَّر ب240 مليار دولار في الناتج المحلي، وأتاح أكثر من 200 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وأسس 350 منشأة صناعية جديدة داخل المملكة. هذه الأرقام لم تأت بمنع الشركات العالمية، بل بإلزامها بنسب توطين متدرجة ومراقبة شفافة. وإلى جانب ذلك، وُقِّعت في منتدى «اكتفاء 2025» وحده اتفاقيات ومذكرات تفاهم بقيمة 9 مليارات دولار لتعميق سلاسل التوريد السعودية. ومن ثمار هذا التوجه إنشاء مصنع «طويق للسباكة والتشكيل» في رأس الخير - مشروع مشترك بين أرامكو وشركة Doosan الكورية - بطاقة تصميمية تبلغ 60 ألف طن سنوياً لتزويد مجمع الملك سلمان العالمي للصناعات البحرية بمكونات المحركات والهياكل. وفي الورش التدريبية، استعانت أرامكو بتقنيات سلامة ألمانية في مدارس اللحام الخاصة بها، كما تعتمد على مناهج TÜV الألمانية في «المعهد الوطني للتدريب الصناعي» لتأهيل فنيي اللحام السعوديين على أحدث المعايير. الآن ترى في أرامكو ورش لحامٍ إلكترونية يشرف عليها مهندسون سعوديون درّبتهم شركات ألمانية، وخطوط سباكة في رأس الخير أُقيمت أساساً لتخدم مشروعات كورية - سعودية في قطاع السفن. كما امتد أثر التكامل إلى قطاع الطاقة المتجددة في أقصى شمال المملكة. من الدمام إلى تبوك: الطاقة المتجددة تصنع قصتها تم تدشين مصنع «مصدر» في تبوك عام 2021. المنشأ، باستثمارٍ يقارب 700 مليون ريال، يمتلك قدرة تجميع تبلغ 1.2 غيغا واط، ليصبح أكبر مصنعٍ للألواح الشمسية في الشرق الأوسط وبعد أقل من عامين على تشغيله، بدأ المصنع بالفعل تصدير ألواحه إلى أسواق إقليمية مثل تونس والأردن، مع خطة للتوسع إلى أوروبا وأفريقيا وفق تصريحات الشركة. هكذا يتحوّل شمال المملكة إلى محطة رئيسية في سلسلة إمداد الطاقة النظيفة، بينما تبقى المعرفة والقيمة المضافة داخل السوق المحلي.، والسبب أن الشريك الأوروبي وفر خطوطا آلية متقدمة، بينما تولّى الفريق المحلي توظيف المهندسين وتدريبهم على معايير الجودة العالمية. إذا تأملنا قصص «اكتفاء» ومصنع مصدر، نجد خيطًا مشتركاً، كل مشروع ضَمِن نقل المعرفة وخفّض كلفة الوحدة قبل انطلاق التشغيل التجاري. معالجة فجوة المهارات وتأمين جدوى اقتصادية واضحة هو ما مهد الطريق لنجاحهما، وهو بالضبط ما يقودنا إلى التحدي الحقيقي اليوم. التحدي الحقيقي: رأس المال البشري والتكلفة. لا أنكر أنّ فجوة المهارات في مجالات دقيقة مثل الروبوتات، الذكاء الاصطناعي وعلوم المواد ما زالت تقلق كبرى المصانع. الحل الذي أراه فعّالاً هو اشتراط إنشاء أكاديميات تدريب داخلية ترتبط بمناهج الجامعات، مع حوافز ضريبية إضافية للشركات التي تُخرِّج دفعات معتمدة سنويا. على المستوى الوطني، تسير الدولة في الاتجاه نفسه: مبادرة «سماي» التي أطلقتها «سدايا» مع وزارتي التعليم والموارد البشرية تستهدف تدريب مليون سعودي وسعودية على أساسيات الذكاء الاصطناعي عبر برنامج مجاني عن بُعد مع شهادات معتمدة. بالتوازي، اعتمد المركز الوطني للمناهج منهجاً للذكاء الاصطناعي سيدرَّس في جميع مراحل التعليم العام بدءاً من العام الدراسي 2025-2026، ما يضمن تدفق خريجين مهيّئين لسوق العمل الرقمي. أمّا كلفة الإنتاج، فهي تتراجع تدريجياً بفضل وفورات الحجم إذا التزمنا بمبدأ «المشتريات الحكومية مقابل نِسَب التوطين»؛ فكل عقد حكومي كبير يمكن أن يبرر توسعة المصنع ويخفّض سعر الوحدة حتى مع وجود منافسة عالمية. تكامل يصنع الاكتفاء خلاصة تجربتي ختاماً... : الشراكات تُسرّع التوطين حين تكون مشروطة بنقل المعرفة والكوادر. الشراكة الدولية تمنحنا التقنية ورأس المال، بينما يضمن المحتوى المحلي بقاء القيمة في الوطن. ومن تجربتي، أدعو زملائي في القطاع الخاص إلى ثلاث خطوات عملية: 1) تضمين مؤشر توطين واضح في كل عقد استثماري مع تفضيل المحتوى المحلي في العقود الحكومية متى تساوت الجودة والسعر. 2) ربط برامج الدعم الحكومي بتدريب فعلي موثق للكوادر السعودية. وإنشاء مراكز ابتكار مشتركة تجمع الباحث الأجنبي بالمهندس السعودي لإنتاج حلول قابلة للتسويق عالمياً. 3) نشر بيانات التوطين بشفافية لتمكين الشركات والمستثمرين من قياس أثر مبادراتهم وتصحيح مسارها بسرعة. بهذا المزيج من الشفافية والانفتاح، نستطيع أن نحفظ سيادة اقتصادنا، ونمنحه في الوقت نفسه أجنحة تحلق به إلى أسواقٍ جديدة حول العالم.