تدور رواية هالة البدري "امرأة... ما" صدرت ضمن سلسلة روايات الهلال ايار/ مايو، 2001 في عالم يؤثر فيه المستوى النفسي والاجتماعي للشخصيات في السرد نفسه. ولأن هذه الشخصيات تعيش نوعاً من الانفصال بين واقعها العلني وأفكارها الدفينة فإن هذه الصفة، التي تبدو أساسية في الرواية، تُلقي بظلالها على مكونات الرواية كلها وأولها، طبعاً، السرد الذي عليه ان يعتني بإبراز التناقض بين الواقع والرغبات غير المتحققة. تنطلق الرواية من حياة "ناهد" باحثة الآثار وزواجها المتأزّم مع "مصطفى" وتحليل هذه الأزمة من خلال علاقتها الناشئة لتوها مع "عمر" الروائي والصحافي الموجود بدوره في حياة زوجية مأزومة مع "ماغي" وإن كانت مختلفة عن ازمة ناهد. الزواج ذريعة تستخدمها المؤلفة لتكشف دوافع ابطالها وأحاسيسهم وترددهم بين اكثر من احتمال، في البداية يبدو للقارئ ان هناك هجاء روائياً لمؤسسة الزواج يراد تمريره في ثنايا الحكاية. الزواج بصفته حقلاً لانكشاف خيبة الذوات الحالمة بقصص حب تدوم الى الأبد. وبصفته، تالياً، سبباً للرتابة التي يمكنها ان تؤدي الى نشوء حيوات خيانات أخرى، عابرة أو مفصلية، على هامشه. ولكن المؤلفة تُفصح، بعد هذا الإيحاء السريع الذي يتراءى في الصفحات الأولى، عن مقدرة في الغوص في عوالم ومناخات اعمق، وأكثر تأثيراً، معتمدة على حشد هائل من التفاصيل التي تؤرخ لحياة تكاد تكون حقيقية، ويكاد القارئ يظنّها سيرة ذاتية فتتت ووزعت على اكثر من شخصية، والأرجح ان القارئ يستطيع ان يلمس براعة هالة البدري في إنشاء السرد على إيحاءات الجسد ورغباته وربط ذلك بالتصور المشتهى لحياة متخيلة على أنقاض حياة واقعية اكثر حضوراً. تعتني الرواية بعلاقة ناهد وعمر وتُضاء اجزاء كبيرة من حياة ماغي ومصطفى من خلال ذلك. المؤلفة تحاول ان ترسم عالماً روائياً متكاملاً لشخصياتها، ولكن، هناك انحياز سردي حاسم لعلاقة ناهد وعمر، وتظهيرها على سطح الرواية هو مهمة السرد الأولى وإن كان ذلك لا يحدث على حساب سرد ازمة زواجهما وتفاصيلها. والرواية مكتظة بكتابة شعورية وحسية تُستخدم فيها، مونولوجات عائدة الى تيار الوعي وتبادل مستمر ودائم بين الحوار والوصف، وانتقال سريع ومتوتر الإيقاع بين حركة ضمائر المتكلمين. والأرجح ان هالة البدري صاحبة "منتهى" و"ليس الآن" تكشف في روايتها الثالثة هذه عن دراية واسعة في السيطرة على الحركة العامة للرواية بل على أدق تفاصيل هذه الحركة الى درجة ان هناك صفحات تقترب فيها من سرد يمكن ان ندعوه ب"السرد العيادي" لكثرة ما فيه من توغل عميق وجريء في اعماق الذات واحشائها الخفية تلك التي تقود حياتنا حتى حين ننكر ذلك. إضافة الى أن الرواية تكشف في نهايتها عن ان كل ما كان يجري كان يكتب كرواية في الوقت نفسه من جانب عمر. وبدا ذلك حلاً سردياً مفاجئاً. تنتهي الرواية ويبقى كل واحد في مكانه. ناهد مع مصطفى وعمر مع ماغي، كان هناك تردد يشوب رغبات ناهد وربما في شكل غير ظاهر، رغبات ماغي ومصطفى اللذين يعيشان حياة أخرى ايضاً في هذه الرواية أو في روايات اخرى يكونان فيها، بدورهما، بطلين مأزومين في علاقتهما الزوجية. تنتهي الرواية إذاً ويبقى كل واحد أسير حياته الزوجية وأزمته الشبيهة بقدر لا راد لسطوته. والرواية، بهذا المعنى، تبدو مجالاً خصباً لإضاءة الخيبة والتعود والإحباط وانعدام تقبّل حرية الآخر كشرط للحفاظ عليه وإهمال رغبات الشريك ومشاعره وطموحاته. كل تلك الصفات التي يمكنها ان تكون عناوين رئيسة لرواية "الزواج" والتي على رغم كل هذه الضربات التي تُكال لها على مدار صفحات الرواية إلا أنها تنجو، ليس بسبب التردد الذي كان يشوب تصرفات ناهد تأخرها وحيرتها في طلب الطلاق والانفصال عن مصطفى ولا بسبب الانتظار، الذي يليق بأبطال الروايات فقط، الذي كان يُبديه عمر حيال حيرة ناهد وترددها، بل كانت هناك خيارات شخصية وثنائية اخرى تعزّز هذا التردد وتزيد من قوة الحيرة. لقد احب عمر أماً وكان عليه، وعليها أيضاً، ان يدفع ثمن لقائه المتأخر بها: كنا في حاجة الى الصمت، الى هذا الفهم العميق لرحلتنا التي استغرقت كل هذه السنوات. ارتشفناها على مهل من دون ان يقوم اي منا بحركة واحدة تعوق حياة الآخر أو تدفعه دفعاً لتصرف متعجّل. ربما نكون قد استهلكنا جزءاً لا يستهان به من اعمارنا، وقد أكون ضد الفكرة كلها، لكنني ما كنت أستطيع انتزاعها من عالمها بهذه السهولة، لقد أحببتُ اماً وكان علي ان أدفع ثمن لقائنا المتأخر. وينبغي ألا ننسى ان الشخصيات تعيش في العقد الرابع من العمر وما يعنيه ذلك من احتمالات مختلفة وشديدة الوطأة يمكن ان تلقي بثقلها النفسي والجنسي والعاطفي على تصرفات وأفكار ورغبات من يظنون انهم تصرفوا بحياتهم بطريقة غير موفقة وينظرون الى علاقاتهم العاطفية والزوجية التي تربطهم بآخرين بصفتها خطأ طال امده ويجب إصلاحه أو البحث عن بديل منه. وبالنسبة الى "ناهد" نجد انها، وعلى مدى سنوات علاقتها ب"عمر" خارج زواجها، كانت تربي ابنة عليها ان تهتم بزفافها في نهاية الرواية وابناً سيدخل الجامعة. وكذلك الأمر، مع قليل من الاختلاف، بالنسبة الى عمر، وإن لم يكن هو الطرف الأكثر تأزماً في علاقته الزوجية. ثمة ايضاً التاريخ المشترك الذي عاشاه، هي مع مصطفى زوجها وهو مع ماغي زوجته. قد يُفهم للحظة ان هالة البدري تسوق كل هذه الحقائق في سياقات سردية مختلفة ومتباعدة في جسم الرواية كي تقنع القارئ وتجعل السرد متماسكاً أيضاً بأن المآلات والمصائر التي يصل إليها الجميع هي الحل الأنسب لهم. لا يمكن اختزال الرواية، طبعاً، الى هذا المستوى البسيط ولكن الخاتمة التي تضع لها المؤلفة عنوان "الصدق" قد تعني ان الجميع قد عادوا الى صوابهم وهو ليس الحل الصحيح بالتأكيد وتذكروا الظروف الصعبة والمعقدة التي تحيط بهم، فآثروا ان يحجموا عن ايصال الأزمة الى ذروتها العلنية مع انها وصلت الى هذه الذروة اكثر من مرة كما حين نُقلت ناهد الى المستشفى اثر ممارسة جنسية شعرت فيها بعدم التواصل الذي كان يتراكم تجاه زوجها وأوصلها ذلك الى انهيار عصبي. كأن ناهد وعمر أرادا، بعد ان عاشا موزعين بين زواج رتيب وفاشل ومأزوم وبين علاقة حرة وحيوية وواعدة بالكثير ربما تتحول بدورها الى زواج رتيب، لم لا؟! ان يعودا الى الواقع. هكذا يصبح صحيحاً ما جاء في تعريف الرواية بأنها تكشف ازدواجية الإنسان بين العلني الاجتماعي والسري الذاتي، والعجز عن التوحيد بينهما، ليصبح الانقسام على الذات هو قانون الوجود الذي يفرضه المجتمع على أفراده في سعيهم الدائب لجعل الحياة ذات معنى، بشرط وحيد: الإبقاء على سرية السري والمحافظة الشكلية على العلني الاجتماعي. وهنا يجب الفصل بين الرواية ككتابة وبين الرواية كصورة ما عن الواقع، لأن هالة البدري تعي هذا الفصل بوضوح. وحين تنحاز الكتابة الى جهة الواقع فلكي تدينه وتنتقده وتفضح السلوك الذي يفرضه لا لكي تشارك في ثقل توضّعاته وقوانينه التي تصنع مصائر البشر اكثر من أي شيء آخر.