ينظر الكثير من الناس الى أيام السلطان عبدالحميد انها كانت أيام بطش وخنق للحريات والى ما هناك من صفات أطلقها "الاتحاد والترقي" ضده بعد خلعه، بإيعاز من الصهيونية. قال السلطان: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع، إنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي، لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم. فإذا مزّقت امبراطوريتي فربما يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق في جثثنا أولاً، وأنا لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة". هذا ما قاله عبدالحميد رداً على المشروع الصهيوني الذي تقدّم به هرتزل لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. تولى عبدالحميد العرش عام 1876 وقام بمشاريع عدة في السلطنة، فأنشأ سكك الحديد عابرة الأناضول والدول العربية ومنها خط الحجاز. وكان أكثر السلاطين تقرباً للعرب، فعيّن الكثير منهم في مراكز رفيعة مثل شيخ السلطان أبو الهدى الصيادي العربي من ضواحي حلب، وكان يحلم بالجامعة الاسلامية في ظل الخلافة. في سنة 1897 عرض عليه هرتزل انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، عارضاً عليه تسديد ديون السلطنة كلها وبتقديم مبالغ طائلة الى خزينة السلطان، ورفض عبدالحميد العرض وأصدر أمراً بمنع بيع أراض من فلسطين الى اليهود. بدأ عندها غيظ الصهيونية والدول الأوروبية، وما لبثت ان حرضت الدول العربية والاقليات وغيرهم الى الثورة والانفصال، وذلك عبر الارساليات والدعوات التبشرية وغيرها من الجمعيات المطالبة بالاستقلال عن الخلافة وكان أبرزها "الاتحاد والترقي". وفي 31 آذار مارس 1909، حاصرت حامية من الجيش بقيادة محمود شوكت قصر يلدز وبدأت طلقات المدافع تهوي على جنباته، فأرسل عبدالحميد، جواد بك لنصح المتمردين بالتعقل ثم أرسل أدهم باشا بعد فشل الأول، وأقدم المتمردون على قتل علي قبول بك أمام السلطان. ورفض السلطان حمل السلاح لفك الحصار وقال: "من أجل فرد يجب ألا تراق الدماء ويقتل الأخ أخاه، إجمعوا السلاح من الحرس الخصوصي ولا تطلقوا النار. لا أقبل أن يخدش أحد ولا أن تسيل قطرة دم من أنف أي جندي، اتركوا المتمردين وليفعلوا ما يشاؤون". أرسل بعدها المتمردون وفداً ضم إيمانويل قراصو الاسباني وأسعد طوباني الألباني وآرام أفندي الأرمني وعارف حكمت تركي. وقال أسعد طوباني للسلطان: "لقد عزلتك الأمة". ثم أخرج عارف حكمت فتوى من شيخ الاسلام وقال: "اذا اعتاد زيد أن يمنع بعض هذه الكتب ويمزّق بعضها ويحرق بعضها وان...". هنا قاطعه السلطان وصاح: حسبنا للّه... أي كتب أحرقت... حسبي الله ونعم الوكيل. وأكمل عارف حكمت الفتوى من دون اكتراث: "وأن يبذر ويسرف في بيت المال، ويتصرّف فيه بغير مسوغ شرعي وأن يقتل الرعية ويحبسهم وينفيهم ويغربهم بغير سبب شرعي، وسائر أنواع المظالم، ثم ادّعى انه تاب وعاهد الله انه يصلح حاله، ثم حنث وأصر على المقاتلة وتمكن منعة المسلمين من ازالة زيد المذكور، ووردت اخبار متوالية من جوانب المسلمين انهم يعتبرونه مخلوعاً، وأصبح بقاؤه محقق الضرر، وزواله محتمل الصلاح فهل يجب أحد الأمرين، خلعه أو تكليفه بالتنازل عن الإمامة والسلطنة، على حسب ما يختاره أهل الحل والعقد، وأولو الأمر من هذين الوجهين؟ الجواب: يجب. كتبه الفقير السيد/ محمد ضياء الدين عفى عنه". المهم ان السلطان وافق على الخلع وطلب تمضية بقية حياته في قصر جراغان... ولكنهم نقلوه الى سلانيك وسجنوه في قصر علاتيني ومارسوا عليه الواناً عدة من العذاب النفسي. كان السلطان من تلامذة الشيخ أبو الشامات، وحين نقلوه الى سلانيك وعبر احد الحراس تم التراسل بين السلطان والشيخ. وأورد السلطان رسالة مهمة تورد سبب خلعه وجاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد رسول ربّ العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين الى يوم الدين. أرفع عريضتي هذه الى شيخ الطريقة العلية الشاذلية، الى مفيض الروح والحياة، الى شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات، وأقبّل يديه المباركتين راجياً دعواته الصالحة. بعد تقديم احترامي أعرض انني تلقيت كتابكم المؤرخ في 22 آذار مارس من السنة الحالية وحمدت المولى وشكرته انكم بصحة وسلامة دائمتين. سيدي انني بتوفيق الله تعالى مداوم على قراءة الأوراد الشاذلية ليلاً ونهاراً. وأعرض انني ما زلت محتاجاً لدعواتكم القلبية بصورة دائمة. بعد هذه المقدمة أعرض لرشادتكم والى امثالكم اصحاب السماحة والعقول السليمة المسألة المهمة الآتية كاملة في ذمة التاريخ: انني لم أتخلّ عن الخلافة الاسلامية لسبب ما، سوى انني، بسبب المضايقة من ؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم جون تورك وتهديدهم، اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة. ان هؤلاء الاتحاديين قد أصروا وأصروا عليّ بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين وعلى رغم اصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيراً وعدوا بتقديم مئة وخمسين مليون ليرة انكليزية ذهباً، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: انكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً، فضلاً عن 150 مئة وخمسين مليون ليرة انكليزية ذهباً فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملّة الاسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلم أسوّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين. لهذا لن أقبل لتكليفكم بوجه قطعي أيضاً. وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي وأبلغوني انهم سيبعدوني الى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير. وهذا وحمدت المولى وأحمده انني لم أقبل بأن ألطّخ الدولة العثمانية والعالم الاسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة: فلسطين... وقد كان بعد ذلك ما كان. ولذا فإني أكرر الحمد والثناء على الله المتعال. وأعتقد ان ما عرضته كاف في هذا الموضوع المهم، وبه أختم رسالتي هذه. ألثم يديكم المباركتين، وأرجو واسترحم ان تتفضلوا بقبول احترامي بسلامي الى جميع الأخوان والأصدقاء. يا أستاذي المعظّم لقد طلت عليكم التحية، ولكن دفعني لهذه الاطالة ان تحيط سماحتكم علماً، وتحيط جماعتكم بذلك علماً أيضاً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. خادم المسلمين - عبدالحميد بن عبدالمجيد". بيروت - عادل نورالدين