انطوت الألفية الثانية بنهاية قرن من الزمن بدأه العرب بالسؤال عن كيفية التقدم وتحقيق النهضة العربية. وكان معظم رواد النهضة راهنوا على شروط أساسية لتحقيقها كالانفصال عن حكم السلطنة العثمانية والاستقلال وفصل الدين عن الدولة... وخرج الاستعمار، التركي وحلّ مكانه الاستعمار الأوروبي الغربي الذي جاء ليمارس بدوره أيضاً فصلاً جديداً في عملية نهب الفوائض وضرب امكانات التنمية والتقدم. واستمر ذلك الى خمسينات وستينات القرن العشرين، حين حققت الدول العربية استقلالها السياسي وانطلقت لإنجاز مشروعها الاقتصادي الرامي الى تحقيق التنمية والتقدم. وهنا انقسمت تيارات التحديث الى قوميين عرب وماركسيين وليبراليين الى اتجاهين، اشتراكي ورأسمالي، استطاعا أن يدفعا بمشروع التيار الاسلامي الى الوراء. وساعدهم في ذلك عوامل كاتساع نطاق النظام الاشتراكي دولياً، واتساع نطاق المد القومي عربياً، الى عوامل اخرى لا مجال لتناولها. وقد تجلت انجازات التحديث فعلاً في مشاريع تنموية مهمة اتجهت الى الدول العربية لتنفيذها بعد الاسقتلال. وكانت التناقضات، بل الصراعات السياسية والفكرية تدور حول أسلوب التنمية الأنجع، وحجم كل من القطاعين العام والخاص ودوره، وأولوية قطاع من القطاعات الاقتصادية، والموقف من الاستثمار الأجنبي والاقتراض، والتناقضات الناتجة من طبيعة التوجه الاقليمي والدولي في علاقات العرب الخارجية وعلاقات العرب البينية ومشاريع التكامل العربي. واستمر ذلك الى منتصف السبعينات إذ بدأت تنكشف نقاط ضعف تلك الطروحات، وتستنفد مضمونها. ما أعاد التيار الاسلامي الى مقدمة المسرح السياسي ليقدم مشروعه البديل. فاحتدم الصراع مرة أخرى من دون حسم. وهكذا انهينا القرن العشرين ودخلنا القرن الحادي والعشرين بلا تقدم ولا تنمية، بلا اشتراكية ولا رأسمالية، بلا قطاع عام ولا قطاع خاص، وحتى بلا شعور بهويتنا. ولعل هذا ما تؤكده طبيعة التساؤل المطروح الذي يقول: كيف يمكن أن نبقى عرباً على الأقل؟ ولكن لماذا استطاعت الدول المتقدمة، وحتى بعض الدول الأقل تقدماً أن تحسم أمرها وتحدد خياراتها على ضوء مناقشتها لمشكلات ولقضايا كبرى، ولا نزال نغرق في لجج تفاصيلها ومتاهاتها ونعطيها أبعاداً إضافية؟ لماذا تكثر لدينا الأقوال وتقل الأفعال؟ هل لأننا أمة عطشى للكلام؟ وهل أن أسباب مشكلاتنا تكمن في طبيعة لغتنا العربية التي تحمل ألفاظها أكثر من دلالة أو معنى أو اسقاط رمزي يُبقي الباب مفتوحاً لمزيد من التفسير والتأويل؟ أم ان المشكلة تكمن في طبيعة النسق المهيمن ومكنوناته، أم في طبيعة الذات المتشعرنة على حدّ تعبير الدكتور عبدالله الغذامي؟ يبدو ان خصوصية المنطقة العربية لا تنحصر في حدود طبيعة البنى القائمة ولا في سياق التطور التاريخي للدولة وللمجتمع وعلاقتهما، ولا في طبيعة الاستراتيجيات المطلوبة للتعامل مع التطورات والمعطيات المستجدة، إنما تمتد لتطاول أساسيات التفكير وطبيعة النقاش المتعلق بالمسائل والقضايا المطروحة والتي يتعيّن على العرب التعامل معها. وقد أسست تلك الخصوصية لإبقاء الكثير من المسائل خلافياً ومفتوحاً يحتاج لنقاش مستفيض علّه يساعد في الوصول الى أحكام نهائية في ما يتعلق بظواهر مختلفة كالعولمة وتداعياتها المختلفة أو بعض المشكلات الأخرى كمسألة اصلاح القطاع العام على سبيل المثال لا الحصر. ان طبيعة المستجدات وخطورتها والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها وسبل التعامل معها والموقف منها، قبولاً أو رفضاً، يستلزم تجاوز هذا الشكل التقليدي المبتذل، فالموقف من العولمة أو الشراكة الأوروبية المتوسطية او من الدولة القطرية أو من الاندماج، أو من نقائض هذه الأمور يجب أن يكون معللاً ومبنياً على قاعدة السبب والنتيجة لأنه "اذا عُرف السبب بطل العجب". وتشخيص أسباب المرض هو نصف العلاج. فمن غير المبرر علمياً أن أدعي صلاحية الليبرالية لبلد ما زال في المراحل الأولى من بناء اقتصاده، لمجرد أنها موضة العصر أو لأن الاشتراكية هُزمت، ولا أن أدعي الاشتراكية، بصورها التي عرفناها من خلال تجارب عربية وأجنبية لمجرد أن النظام الرأسمالي محكوم بهاجس الربح، أو أتجاهل في الوقت ذاته النتائج السلبية بل الكارثية الناجمة عن تنصيب الدولة لذاتها عبر مؤسسات القطاع الحكومي وباسم الاشتراكية مقام الفرد/ المواطن وتحديد طبيعة حياته وأهدافه، وكيف يأكل ويشرب، وأين يقيم وماذا يتعلم. أما مقولة ان العولمة هي استخدام مكثّف للقوة وللعنف يرمي الى تكريس الهيمنة فإنها مقولة تفتقر الى المنطق الذي يؤكد ضرورة قراءة سياق التطور الاجتماعي قراءة تاريخية، والوقوف على طبيعة الأسس والمرتكزات الأساسية للعلاقات ما بين الجماعات في مرحلة أولى، ثم العلاقات ما بين الدول في مرحلة لاحقة. والسؤال المطروح هو: كيف يمكن القول بضرورة رفض العولمة أو كبحها لأنها تؤدي الى اختراق المنطقة اقتصادياً، في الوقت الذي تعتبر الاقتصادات العربية ولفترة طويلة سبقت الحديث عن العولمة، من أكثر الاقتصادات انكشافاً تجارياً استيراد " تصدير وانكشافاً مالياً من خلال ارتفاع نسبة مديونية عدد كبير من الدول العربية أو من خلال ارتفاع دائنيه بعضها الآخر جراء ارتفاع حجم استثماراتها الخارجية التي تشير بعض الاحصاءات الى تجاوزها 800 بليون دولار؟ أما على المستوى السياسي والثقافي فالحديث يطول ويتشعب. وعلى مستوى آخر متى كان منطق القوة ومحاولات فرض الهيمنة وفتح الأسواق بالقوة العسكرية والحروب غريباً عن التاريخ؟ وكيف يمكن تفسير مسلسلات الحروب الطويلة وأعمال القتل والتدمير وحروب الإبادات الجماعية عبر التاريخ؟ وفي هذا الاطار نعتقد أن ما يجب أن نبحث عنه هو الأسباب التي جعلت امكانات اختراقنا سهلة، ومحاولات بل فرص فرض الهيمنة علينا كثيرة وممكنة. ومن المفترض منطقياً، قبل ان نحدد الخيارات ونبحث في البدائل، ان نعود الى تقويم تجاربنا وأطروحاتنا السابقة، ونحدد مكامن النجاح والفشل فيها، ونبحث من الأسباب التي جعلتنا نتخوف من العولمة أو الاندماج. ويصور بعضهم الدولة القطرية لعنة حلت بالأمة، ففرقت شملها وعصفت باجتماعها، وهي تركة الاستعمار ووريثته الشرعية ووكيلة اعماله ومخططاته والوصي الأمين على مصالحه، وهي حلقة من حلقات النظام الامبريالي العالمي تُجذِّر التخلف وتقتل الامكانات والشروط الموضوعية التي تساعد على مواجهة العولمة. انه موقف يحتاج الى تدقيق وتحليل علمي معمق وقراءة نقدية وتاريخية للمنطقة العربية في حاضرها وماضيها والجدليات الحاكمة فيها. وذلك لينصف الدولة القطرية قليلاً، ويخفف من درجة التعسف في استعمال الحق في تحميلها أكثر مما تحتمل، مع إيماننا العميق بهويتنا العربية، وانتمائنا القومي العربي، وحقنا في أن نعيش أمة موحدة شأنها شأن بقية الأمم. فالدولة القطرية ليست دائماً تجزيئية إلا في منطقة بلاد الشام. وليست السبب الأوحد للتخلف الذي يرجع لأسباب وعوامل مركبة تتجاوز دور الدولة القطرية. فهي، على العكس، حققت انجازات مهمة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. واذا كان ثمة قصور في حصادها وفي أدائها فهذا لا يرجع الى أسباب تتعلق بطبيعتها، بقدر ما يرجع الى طبيعة معارضيها والمشككين في شروط وجودها وشرعيتها ووسائلهم في التعاطي معها. والسؤال المطروح هو: لماذا لا ننطلق من الواقع الذي تتجسد فيه الدولة القطرية كياناً قائماً بذاته، سواء بحكم مصالح محلية قبلية، طبقية... أم بحكم مصالح القوى الدولية، ويستمد شرعيته وقوته من ميثاق الأممالمتحدة والمنظمات الدولية ومبادئ القانون الدولي؟ ثم لماذا لا ننظر الى الدولة القطرية كمرحلة تاريخية موضوعية في سياق تطور أمة، ونبتعد من الرومانسية الحالمة والطبيعة الانفعالية والعاطفية؟ ألا يكفي، في هذا الاطار، الوقوف على طبيعة الآثار والنتائج الكارثية التي ترتبت على محاولات ضم دولة عربية بالقوة كالكويت مثلاً؟ وعلى مستوى آخر، ألا يشكل الأسلوب القائم على التشكيك بشرعية الدولة القطرية وشروط وجودها عاملاً يضرب امكانات أو محاولات التقارب العربي - العربي - الذي نحن أحوج ما نكون اليه - نظراً لما يترتب عليه من نتائج وتراكمات نفسية تكرس عوامل غياب الثقة المتبادلة والشعور بالاطمئنان في ما يتعلق بالمشاريع العربية المطروحة، ويدفع بالهواجس الأمنية لتصبح هواجس حقيقية تتحكم في طبيعة العلاقات العربية - العربية، وتحتل المرتبة الأولى في اهتمامات الأنظمة العربية؟ مدين علي - باحث اقتصادي سورية