انشغل الناس بها... وكان لا بد من أن ينشغلوا. فالتصريحات غريبة ومفاجئة. طبيبة معروفة... أديبة لها 35 كتاباً في المكتبات العربية وترجم منها الكثير، فكيف لها ان تخرج بمثل ما خرجت به على القرّاء. انها نوال السعداوي، وما قالته وأثار الجميع في مصر وخارجها خاص بأمور إسلامية عقائدية أساسية. وهي كعادتها فجّرت قنبلة مدوية على صفحات احدى الجرائد الاسبوعية. والنتيجة السريعة والمرتجلة والخاطئة التي خرج بها الكثيرون، ان نوال السعداوي ارتدت عن الاسلام. وقيل انها هاجمت علماء الدين وقالت عنهم "إنهم ناس ظلاميون اصحاب ذقون صفراء لا يعلمون شيئاً"، ونُشر أيضاً، ان الدكتورة نوال السعداوي أكدت ضرورة أن يلغى نص "للذكر مثل حظ الانثيين" تطبيقاً وعملاً لأنه - على حد ما نُشر - ظلم رهيب للمرأة. ولما قامت الدنيا قالت الدكتورة "لم يحدث أن تفوهت بهذا". لكن الصحيفة قالت ان لديها الحوار مسجلاً. وبين التصريحين تدخل أحد المحامين ورفع دعوى حسبة يطلب التفرقة بين الدكتورة نوال السعداوي وزوجها الدكتور شريف حتاتة. ولما سألنا الدكتور شريف قال "سأبقى مع زوجتي حتى آخر نفس". في البداية سألت الدكتورة نوال عن الحقيقة، وهل صحيح ما قيل على لسانها من خوضها تفاصيل الدين الاسلامي؟ وهل التحرر معناه تخطي الدين وتحريف قواعده وأصوله؟ الدكتورة نوال ظلت صامتة ثم انفجرت قائلة: "أنا لست فتاة صغيرة ولا يمكن أحداً أن يضحك عليّ. أنا طبيبة ومفكرة ولي ما يزيد على 35 كتاباً معظمها يدرّس في كليات وأكاديميات علمية ابتداء من الولاياتالمتحدة الأميركية وانتهاء بأفريقيا وبعض جامعات آسيا. والغريب أن يصدر أو ينسب إليّ كلام لا يمكن أن تقوله من هي في مثل مركزي وسني وخبرتي وثقافتي". وتضيف: "الموضوع بدأ في صحيفة اسبوعية ونحن أدرى الناس بمثل هذه الصحف التي تبحث عن الاثارة في أي شكل، أي عما يثير من جنس وفضائح، سواء بالتحريف أو بنسب آراء أو أقوال الى رموز وشخصيات كبيرة بغية إحداث بلبلة والمتاجرة بالمثقفين وأعضاء قافلة التنوير، ومثل هذه الأمور أصبحت شائعة. وهذا ما حدث معي تماماً. قلبوا كلامي رأساً على عقب وذكروا فقرات منه ولم يذكروا فقرات أخرى حتى يصبح للكلام معنى آخر. وأحب أن أؤكد لمن لا يعرفني جيداً ان ما قيل في هذا الشكل لا يمكن أن يخرج من الدكتورة نوال السعداوي. ومن يعرفني جيداً يعلم هذا". ما زالت الدكتورة نوال على درجة الانفعال نفسها التي بدأ بها الحديث. وها هي تقول: "لا أعرف جيداً أن هناك تياراً كامناً من الجهل والهمجية والرعونة متستر تحت ستار الدين خصوصاً الدين الاسلامي. هذا التيار متحفز دائماً لنصب ما يشبه الكمائن للتنويريين. فرج فودة رحمه الله دليل ساطع. ونصر حامد أبو زيد دليل آخر، وهناك أدلة كثيرة، والنهاية - للعلم - لن تكون في مصلحة هذا التيار. فنحن متحفظون تماماً ولن نترك الساحة ولا المعركة مهما كانت أساليب هؤلاء ولو أن اساليبهم لم تعد تتعدى شكلاً من أشكال الضرب تحت الحزام، ليس لسبب إلا لأنهم فقدوا حجة العقل والمنطق. والنتيجة نوع من الهوس يحدثونه وبلبلة قد تنطلي على بعض الناس. لكن هناك فئة واعية مهمتها إماطة اللثام عن "جماعات المتاجرة" باسم الدين. والحمد لله انني من هذه الفئة مهما كانت النتائج". سألت الدكتورة سعداوي: هل هذا يعني انك تنكرين ما قيل على لسانك؟ تجيب: "أولاً أنا أتكلم في الأساس على العبادات الاسلامية التي نكن لها احتراماً وتقديراً ككل المسلمين في كل أنحاء الأرض. ولم أتفوه بما يخوض في هذه العبادات أو يخدشها، لذلك أنا نفسي أستغرب ما قيل. هذا جانب. وفي الجانب الآخر قالوا مثلاً أو كما نشر على لساني، انني أطالب بتعدد الأزواج بالنسبة الى النساء أسوة بنظرية تعدد الزوجات بالنسبة الى الرجال. وهذا كلام غريب، وكما قلت لك من يعرف تاريخي جيداً لا يمكن أن يصدق انني قلت هذا الكلام. لأنني مما يزيد على 30 عاماً وأنا أطالب باتباع الضوابط الاسلامية الصحيحة في مسألة تعدد الزوجات، لأن الله عندما شرّع هذه المسألة لم يتركها هكذا، انما حدد محددات معينة وقال "لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". فهو سبحانه وتعالى اشترط العدل في التعدد، ثم نفى الاستطاعة والقدرة على العدل بأي طريقة مؤكداً ان الرجال في حقيقة الأمر لن يستطيعوا العدل. وطبقاً لهذا فإن التعدد يسقط بسقوط شرط العدل الذي قال سبحانه وتعالى انه شرط أساسي من شروط التعدد. كما انني تحدثت عن اسلام المظهر بمعنى انني وضعت فارقاً - وهذا منطقي جداً - بين المؤمن من داخله لأنه مؤمن فعلاً، وبين المتشدد بالدين صاحب "المناظر" والمظاهر والذي لا يعلم عن الدين سوى اللحية وذبيبة الصلاة. كذلك هناك فارق بين السيدة المحجبة والسيدة المحتشمة. وقلت - وهذا صحيح أيضاً - ان الحجاب ليس معناه الحشمة ولا العفة، ونحن نعلم "بلاوي" تنشرها الصحف كل يوم وأحياناً كثيرة تكون بطلاتها محجبات. وقد تكون المحجبة مضطرة لارتداء الحجاب لأن نظرة مجتمعنا "الذكوري" تفرض عليها هذا. ولكن، أحياناً كثيرة، لا يكون هذا الحجاب مانعاً لها من فعل الموبقات، إذ لا يمكن أن نحكم على سيدة بعفتها أو عدم عفتها انطلاقاً من حجابها أو من عدمه. أما الكلام المنسوب إليّ على رجال الدين، فلا أعلم ماذا نقصد برجال الدين؟ أو بمعنى آخر أنا لا أرى أن الدين حكر على أحد، ولا يمكن أن نصف فلاناً على انه رجل دين وآخر على انه ليس رجل دين. الدين فوق أي معاملة، إلا انه اجتهاد وعلم بالأصول والقواعد. الدين ليس عمامة و"جبّة وقفطاناً" فقط. وهذا لا يعني ان كلامي ينطبق على الكل. فهناك علماء أجلاّء واثقون من علمهم ومعتدلون. أنا أتكلم تحديداً على التيار السلفي والتيارات المتشدقة بالدين للوصول الى السلطة أو الجاه أو السلطان. ولعل الأقوال التي قيلت على لساني ليست لي. فهذه ليست لغتي. وهذا ليس اسلوباً من اساليب تفكيري. انها أقوال محرّفة وتلفيق يجب ألاّ ينسب إليّ". قلت لها: هناك صحافيون تضامنوا في رفع دعوى حسبة ضدك وطلبوا التفرقة بينك وبين زوجك الدكتور شريف حتاتة، فما رأيك وما تعليقك؟ أجابت: "أحب أن أقول وبصراحة انني لن أكون كبش فداء للمتطرفين. وسأظل أقاوم حتى آخر نفس. لن يستطيعوا ان يثنوني عن آرائي الصحيحة وهي غير تلك المحرفة. كما قلت لك أنا سيدة عملت بجد واجتهاد مدة تزيد على الأربعين عاماً في خدمة قضايا بلادها وخدمة الثقافة والتنوير. أنا أحلم بمدينة فاضلة وأحلم بالقضاء على الجهل والتخلف. وفي سبيل تحقيق هذا سوف أقف في وجه العاصفة مهما كانت النتائج". أما الدكتور شريف حتاتة زوج الدكتورة نوال فيتكلّم بهدوء قائلاً: "لن يستطيعوا التفرقة بيني وبين امرأة جمع بيني وبينها أكثر من أمر. الدكتورة نوال أعطتني الحب والصداقة والأمل والرغبة في الحياة، إضافة الى أنني أعرفها جيداً أكثر من أي شخص آخر، وأعرف توجهاتها جيداً، وأعرف انها لن تصبح - كما قالت - كبش فداء للمتاجرين المتسترين خلف عباءة الدين". سألت الدكتور شريف: ولكن هناك دعوى حسبة ودعوى تفرقة بينك وبين الدكتورة نوال فعلاً. قال: "مهما كانت النتائج، الدكتورة نوال وأنا لن نصبح الدكتور نصر أبو زيد وابتهال يونس آخرين. ثم اننا لن نترك بلدنا مهما تأزم الأمر وسنظل نقاوم. وإذا خارت قوى الدكتورة نوال - التي لن تخور وأنا أعرف هذا - فإنني سأدعمها وأقويها وأشد من أزرها كما شدت من أزري طوال 35 عاماً". ويضيف شريف: "للأسف، ما زال التيار المتطرف يتحكم فينا، أقصد بالتيار المتطرف بعض الجماعات السلفية وبعض القيادات التقليدية للاخوان المسلمين. هناك من اتخذ الدين حكراً له، وهو ما يتنافى تماماً مع صحيح الدين. وما قيل ان الدكتورة نوال قالته ليس صحيحاً. أنا أعلم هذا جيداً وسأدافع عما أعتقد به حتى النهاية". لم يتوقف الموضوع على ما أثارته الدكتورة نوال السعداوي من ردود فعل، بل تحول الأمر الى قضية مطروحة أمام القضاء. فالمحامي نبيه الوحش قام بتقديم بلاغ الى النائب العام ماهر عبدالواحد ضدها يتهمها فيه بإهانة الدين الاسلامي وازدرائه، اضافة الى اهانتها الشعب المصري كله ورموزه وشيوخ الاسلام وعلماءه. هل صحيح ان نوال السعداوي أصبحت "كافرة" ويحق لولي الأمر أو من ينوب عنه بالتفرقة بينها وبين زوجها؟ وهل ما قالته الدكتورة نوال يعتبر انكاراً للدين، ثم ما هو الحكم، خصوصاً أن الدكتورة نوال تؤكد انها لم تقل ما نشر على لسانها في احدى الصحف. الدكتور عبدالمنعم البري، عميد معهد الدراسات الاسلامية في الأزهر الشريف ونائب رئيس جبهة علماء الأزهر السابق والأستاذ في كلية أصول الدين يقول عن حال السعداوي: "أولاً نحن أمام أمرين. إما أن يكون ما قالته الدكتورة نوال صحيحاً، وبذا يصبح ثابتاً عليها هذا القول، وتترتب عليه آثاره. وإما أن يكون ما قالته منسوباً إليها وهو محض افتراء، وبذا تصبح نوال السعداوي بريئة منه ولا تترتب عليها الآثار التي يمكن أن تترتب على قول كهذا". ويكمل عبدالمنعم البري: "قرأت ما نُشر على لسان الدكتورة، والحقيقة انني تعجبت من مثل هذا الكلام. لكنّي قرأت أيضاً ان الدكتورة نوال أقرت في ما بعد انها وقعت ضحية مؤامرة، وان كلامها حُرِّف وقيل على لسانها ما لم تكن تقصده وما لم تقله أصلاً. وبذا نصبح في شك تام بما حدث. ولا يصحّ لنا الخوض في الكلام أو ترتيب الأحكام إلا بعد التأكد التام مما قيل فعلاً على لسانها". أما الحال الثانية التي تكلم عليها عبدالمنعم البري، وهي أن تكون نوال السعداوي قالت فعلاً ما نشر على لسانها، فهل تجعل من كلامها خروجاً عن الدين؟ وهل يمكن فعلاً إلحاق تهمة الكفر والردة بها؟ ويقول: "إذا كان هذا كذلك، فالحكم قائم باتهامها بالخروج عن دائرة الاسلام. وعلى هذا الحكم تترتب آثار كثيرة. ولكن لا يمكن أن تترتب عليه آثار إلا بعد خطوات حددتها العقيدة الاسلامية وحددها أيضاً الفقه الاسلامي. وأولى هذه الخطوات ان ينتفي شرط الجهل، بمعنى أنه يمكن أن تكون الدكتورة نوال قالت ما قالته وهي تجهل قواعد كثيرة وأحكاماً من العقيدة الاسلامية. لذلك يجب علينا استتابتها أولاً قبل الحكم بردتها. والاستتابة تعني مناقشتها في ما نُسب اليها من أقوال وعرض الاحكام الصحيحة عليها وإفهامها القواعد الصحيحة، فإذا أنكرت واستمرت في ما قالت يصبح انكارها انكاراً على علم، ما يعني اننا تأكدنا من علمها وانها على رغم هذا العلم تنكر كل ما يتعلق بالدين الاسلامي من قواعد وأصول. والحكم عليها في حال الانكار عن علم، مختلف تماماً عن الحكم عليها في حال الانكار عن جهل. ولو أنكرت بعد العلم تكون فعلاً خرجت عن ملة الإسلام شكلاً وموضوعاً، وتترتب عليها الآثار المترتبة في حدود أحكام الردة".