إنّها النفوسُ النّاشئةُ في الخلاَء. حجارةٌ. في جِبال وأوْديَةٍ. أفغانيةٌ. علَى شاشةِ التلفزة نُبْصِرُها. مُعلّقة. بمسامير خفيّةٍ. في سماءِ الحجارة. تتحرّكُ في الصُّورة التي نجْرُؤ على تخيُّلِهَا. بيْنَ الصُّورة والتّعْلِيق علَى الصُّورة. كُلّما أعدتَ النّظرَ. في الصّورة. من نشرةٍ إخباريةٍ إلى أخرى. ومنْ قناةٍ تلفزيّة إلى أُخْرى. وللصّحافَة المكتُوبة ما تُضيف من روَايَات. أو تبحثُ عن مُلَحٍ ونوادِرَ. ليْسَت مُلحاً ولا نوادرَ. وهي تبدُو لكَ. صالحةً لنُكْتةٍ في بداية الربيع. والطّقْس الدّافئ. في خَلاءٍ. تتوسّطُه تماثيلُ. تكبُر وتسمُقُ. بحجْم ارتفاعِ الحجارة. معَ الجَبل. والرّبيعِ والسّماءِ. تماثيلُ تساقُ. بقامَاتِها المُدوَّخَةِ. الى الجَحِيم. وأنتَ لا تَسْتغربُ مَا تسْمَعُ وترى. ذلك ما حصَلَ في أفْغانستان. بلدٌُ رافَقْنَا أخْبارَهُ علَى مدار زمَنٍ عالميٍّ مشحونٍ بالترقُّبات الكُبْرى. بين معسكرين. تعوّدْنَا على حُروبه التي لها الآن أكثرُ من عقديْن. في سَبِيل تحْريرِ الشّعب الأفغاني من الطُّغيان الشّيوعيّ. كما كانُوا يدّعُون. ناصرْنَاهُ شعْباً وقُلْنا له معكَ نهجمُ على قلاعِ العبودية. بياناتُنا. في مناطقَ عربيّةٍ وإسْلامِيّة. خريطةُ المؤيّدين واسعةً كانت في العالَم. والأميركيُّون كانُوا أصحاب الفَتْوَى. أصحابَ الحلّ والعقْد. الأموالُ. الأسلحةُ. الخِبْرةُ. الإعلامُ. والسّادةُ الأفْغانُ يخلّصون شعْبَهُم بسيْفِ الإسْلام. منْ عُبوديةِ الشيوعيّة. ولِمَ لا نكونُ معَ تحرير الشّعوب؟ لكنّنا لم نكُن. نفْهمُ. ما يلْزَمُ. ممّا. يجبُ. أن نفهَم. هؤلاء الأميركيّونَ الذين يدافعون عن الحرّية البشريةِ ويدافعون عن الاخْتيار العقائديّ ضدّ الموت اختناقاً. بالشّيوعية. كانوا بموْقفهم يخلُقون وحشاً. باسم تحرير الشّعب الأفغاني. في هذه البلادِ التي نجهلُ جغرافيتَها. تماثيلُ كانت معلقةً. في الحجَارة. والحربُ ضدّ الشيوعيين لم يتطلّبِ الانتباهَ إلى هذه التماثيل. هي هناك. حيث يخْتَفي المُغِيرون. على جُنود نظاميّين. أفغانيّين وسوفياتيّين. لتخْليص الشعب الأفغاني. أباً عنْ جَدّ. ويصبحَ البلدُ آمناً. كما كنا نُحبّ. تحتَ سماءٍ قرأنَا عنْها. في قصَصٍ بُطوليّةٍ. أوْ وردَتْ في أعمال أدبية. هي الأقربُ إلى التّصديق من النّقْل المُباشر للأحْداث. في حَرْبٍ. طالَتْ. سيوفٌ وأعلامٌ. تُشْحَذُ جهاراً. دون ان يَعْلم أحدٌ أن الأميركيّين يخلُقون وحشاً في المعسْكرات وفي الكُهُوف. وحشٌ سينقضّ على شعبٍ.مُؤوّلاً انقضاضَهُ بالحق في الغَنيمَةِ. الفَريسَةِ. النّطِيحَةِ. أوْ ما أكَلَ السّبْعُ. كلُّها متوازيةٌ. في الوقُوف تحْت السّماء. في أيّام التدمير المكشُوف للتّماثيل. لا بُدّ ان اختلالاً ما يصيبُنا. كلّما تأملتُ وجدتُ أنّ عدمَ الاخْتِلاَلِ هو اللاّطبيعيُّ في هذَا الزمن. ألهةٌ وأرواحٌ تُساق الى الجَحِيم. بدلاً ممّا قرأنا عن الإنْسان الذي يَنالُ عِقابَهُ على السّيئاتٍ التي قام بها في الحياة الدُّنْيا. أصبَحْنا أمامَ حقيقةٍ تتكرّرُ عن سَوْق الإنسان بنفْسِه لأرواحٍ وآلهةٍ إلى الجَحيم. في أفغانستان. هذه الواقعةُ التي عشْناها. ولربّما تطولُ. إنها ليستْ معابدَ أو مساجدَ. هي تماثيلُ. من حجَر. معلقةٌ في صخورِ جبَالِ بلدٍ كلُّه إيمانٌ. وإسلامٌ لله. يشترك فيه أبناءُ البلد. أفغانستان. ثمّةَ ما لا يُفْهَمُ. كيف يمكن سوْقُ تماثيلَ إلى الجَحيم في بلدٍ مرَّ على إسْلامه قرون؟ ألمْ يكُن السابقونَ على "الطّالبان" مُسلمِين؟ وبأيِّ إرادة. فقْهيَّة. يُقْدِمُ الأحفادُ على معْصِية الأجداد؟ ولمَ لا تنفعُ فتْوىً بعد أنْ لَمْ تنْفَع الثّقاَفَة؟ نسألُ وننظرُ. إلى هذه التماثيل البوذيّة. واقفةً. في حِجَارتها. بارتفاعِ الجَبل. حتى تدْنُو منْ قُبة السّماء. تماثيلُ لهذاَ الإلاهِ الذي هاَلهُ الضَّعْفُ البشريُّ. فأحبَّ التخلُّص منْ نعيمِ الدُّنْيا ليخَلّص جسَدَهُ. ويخلّصَ رُوحَهُ. لم يكنْ إلاّ إنساناً. يعيشُ في قصْرٍ. ثم كان لَهُ أنْ رأى. وتلكَ هي حكمتُه الأولى. رأَى. الضَّعْفَ. بسلْسِلَةِ أشْكاله التي لم يكُن السيدُ الأميرُ في قَصْره يتوقّعُها. عجوزٌ مُقْعدٌ. مريضٌ. ميّتٌ محمولٌ الى الدّفْن. زاهدٌ. وهي كلُّها حثّتْهُ على ركُوب حِصَانِه. ومغادرة القصْرِ. عائداً الى مَادّتِه الإنْسانيّة. ليخْتَبِرَ ما الذي في استطاعتِهِ أن يقاومُ بِهِ هذه الحياةَ الفانيةَ. على الأرضِ. باحثاً عن النُّزول الى أعْمَاقِه. بدون وسائِطَ. هو وحْدَهُ الذي يُجاهِدُ ويتجهَّدُ. تحْتَ شجرةِ تين تينَةِ الذّكَاء. نازلاً الى تلك الشَّعابِ التي لا يعْرِفُها. ولا غيرُه يَعْرفُها. كذلك. إنه اليقِظُ. المُضِيءُ. كما يعْنِي اسمُ بُوذَا في السّنسكريتيّة. ذلك هو اسمُ مؤسّس البوذية. الذي عاشَ من 560 الى 480 قبل ميلاد المسيح. في أقَاصي النّيبّال. بالهنْد. حياة لاستخْلاَص تعاليمَ. هي ما أصبحَ بوذيّةً. عقيدةً لا ديَانَةً. منَ النّيبّال إلى التّيبِتْ في الصّين. إلى اليابان. وعلى اتّساع آسيا. حتى أفغانستان. التي دخلَها الإسلامُ كما دخلَ الهنْد. نفْسَها. التي هي مهدُ البوذيّة. وتلك التماثيلُ المنتشِرَةُ على الأرض الآسيويّة. الحاملةُ لاسْمِ بوذا. هيَ بيْن المَرْجعيّة العقاَئِديّة. لكنها أعمالٌ أنْشأَها الإنسانُ. بقُدْرتِه. على خلقِ الجَمِيل. منَ الطّبيعَةِ التي ينْتسِبُ إليْهَا. هذه التماثيلُ تُساق الى الجَحيم. في بلد لا يخْشى من الرّدّة. بلدٌ مُسْلِمٌ. عن بَكْرةِ أبيه. له الإيمانُ الذي يمْنَعُ كلّ التباسٍ في العقيدة. وله حمايةُ الدولة. تُسَاقُ التماثيل. في مشْهَدِ التّدْمير. أسلحةُ التّدْمير كلُّها منْ أجلِ هدْمِ هذا الجسدِ الذي كان ذاتَ يوم علامةً على أميرٍ تخلّى عنِ الإمَارةِ والقصْر. ليعيشَ حياةَ الزُّهّاد. يُبادل الآخرينَ تحيةَ السّلام. وَيهْدِي أتباعَه إلى السِّلْم. كان لنا أن نَرى كُلَّ يوم. وكلَّ مرّةٍ حَجْم الثُّقَب التي تحْدُثُ في جسَد التّمثال الكَبير. واقفاً في صخْرة الجبلِ. على قدميْن حجَريّتيْنِ. بوجْهٍ هادئٍ. يتخلّلُهُ إشراقُ هدوءٍ ينفُخ في سائر الجسَد. في الأعضاءِ ومَا خلْفَ الأعْضَاءِ. واقفاً. ينظُر الى العابرين. على الوجْه هدوءُ. مَنِ اطمأنّ. تماثيلُ. انفصلتْ عن دلالتها الدّينية لتسْتقلّ بجمَالِيّتِهَا. لتكون حاضرةً في عيْنَيْ كلّ عابرٍ يحبُّ هذا الهُدوءَ. هذه الطمأنينةَ. وهذه العينُ المنفتحةُ على الخالدِ. الذي لا يُوجد إلا فينا. كْلّمَا انتقَلْنَا من مكان الخُضوع لفتنةِ الأشْياء الى التجرُّد من كلّ ما يشوِّشُ على الصّفَاء. في لحظةٍ هي اللحظاتُ كلُّها. لكَ فيها تتجلّى ما عشْتَ وما لَمْ تَعِشْ. أنتَ وسواكَ. ارتقاءً الى النّيرْفَانَا. في نهايةِ الطّريق المتوسّطِ الذي هو الصّفَاءُ. النّيرفَانا حياةٌ بالسَّلْبِ. إنها اللاّوجود. الذي يعْني الامتلاءَ والكمال. في آنٍ. لا نعيمَ الجنّة تعني النّيرفانَا ولا أيَّ حالةٍ من حالات الذّوبان في المُطْلق. السَّلبُ. والوصولُ إلى السَّلْبِ. النيّرفانَا. ولنا تاريخٌ حديثٌ. مثْلما لنا تاريخٌُ قديمٌ من سوْقِ آلهةٍ وأرْواح إلى الجَحِيم. إحراقُ المسْجِد الأقْصى على يدِ الصهيونيّين. إحراقُ مساجدَ في أكثَر من مكانٍ أوروبّي. إحراقُ كنائسَ وبِيَعٍ. وعليْنا ألاّ ننْسى. العراقَ. حربُ التدمير التي استهدفَتِ المآثرَ منْ جميعِ العُهودِ. التي عاشتها حضارةُ الرّافِدَيْن. هي أكبرُ شهادةٍ على ما يمثّله دُعاة الحِفاظِ على التراث الإنساني. الأفغانيون - الطّالبان طلبةُ العِلم؟ اليومَ. فرحُون بجهْلِهِمْ. لا يعْنِيهم الإسلامُ الحضاريُّ. أوِ الإسلامُ الذي يُمكن ان يقدّم فكرةً جديدة عنْ نفسِه في هذا القرنِ وللْقُرونِ المُقْبلة. في آسيا. وفي بُلْدَان تَسْتقْبِلُ الأفكارَ كُلَّ يوم عبرَ وسائلِ الإعلام. أو الطُّرقِ الكُبْرى للتّواصُل. مشاهدُ قيامةٍ حقيقيّةٍ. فيها الإنسانُ نفسُه. باسْم الدّين. أيِّ دينٍ. يحْملُ السِّلاحَ ويمْضِي الى حفلٍ مُقَدّس. شعيرَتُه هدْمُ التماثيل. هدمُ المعابدِ. هدمُ المآثر الحضاريّة. وهيَ جميعُها مِلْكيَةٌ إنسانيةٌ. يحْتاجُ التعاملَ معهَا إلى وعْيٍ جَديد. ويحتاجُ الدفاعُ عنها الى قوانِينَ جديدة. حتّى يكُفّ المُجْرِمُون عن الانتقامِ منْ تماثيلَ. مُجرّدِ تماثيلَ. أو معابدَ. أو مآثرَ. حِفاظاً على ما تبقّى من حياة إنسانيةٍ على الأرْضِ. في زَمنٍ يُهدِّد المَالُ. مثلما يهدّدُ السلاحُ. أو الدوغمائيةُ. ما تبقَّى ممَّا أنتجتْهُ البشريةُ من جَمالٍ في تاريخِها. كُلّما امعنّا النظرَ في التّاريخ البشريِّ. اسْتنتَجْنَا أن أجْمَلَ ما يبْقَى على الأرض هُوَ ما يصْنَعُه الشعراءُ. والفنانونُ. والأُدباء. هؤلاء هم حكمَاء العالم الحقيقيُّون. حُكمَاء بجُنُونِهِمُ الذِي لا تترصّدُ البشريةُ صفَاءَهُ إلاّ بعْد قُرون. أمَّا سِياسيّو المال والحُروب. مخربو العقائِد بدُوغْمائياتِهمْ من كلّ صِنْفٍ. فهُم الوبالُ الأكْبَرُ على الإنسانيّة. في المشاهِد التي تعودُ إليْنا. ونحنُ ننْظُر إلى التّماثِيل. مقصوفةً. بالحريقِ. وفي النفْسِ يَأْسٌ مِنْ هؤلاءِ الذين يتفاخَرُون أمامَنا بجَهْلِهِمْ. ونحن لسْنَا صَامتِين. في وجْه طاغيةٍ بألفْ قِنَاع وقناعٍ. يجْهَر فينا. أنا. منْبَعُ الحَقّ.