نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام للولايات المتحدة الأمريكية    أمير تبوك يرعى حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    الموافقة على استحداث عدد من البرامج الاكاديمية الجديدة بالجامعة    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة الدائمة للحج والعمرة    أمير منطقة تبوك يدشن مرحلة التشغيل الفعلي لمشروع النقل العام بالحافلات    الخريف يجتمع بقادة شركة إيرباص    رئيس الصين يصل إلى روسيا في زيارة تؤكد دعمه لبوتين    رسمياً... فلسطين تعلن قطاع غزة منطقة «مجاعة»    الشيخ بندر المطيري يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة الخامسة عشرة    القبض على يمني وإثيوبي في عسير لتهريبهما (40) كجم من نبات القات المخدر    وزير الخارجية ونظيره الأمريكي يبحثان هاتفيا التطورات الإقليمية والدولية    جراحة معقدة في "مستشفيات المانع" بالخبر تنقذ يد طفل من عجز دائم    نجاح عملية فصل التوأم الطفيلي المصري "محمد جمعة"    المملكة ترحب ببيان عمان بشأن وقف إطلاق النار في اليمن    الذهب يتراجع مع تخفيف التوترات التجارية "الأميركية الصينية"    جامعة الملك سعود تُنظّم المؤتمر السعودي الدولي للأبحاث الصيدلانية والابتكار "مسير"    جمعية تحفيظ القرآن الكريم بطريب تعقد جمعيتها العمومية العادية    "مركزي القطيف" ينظم ندوة تقييم وعلاج اضطرابات النطق واللغة    جسور ثقافية تربط الرياض ببكين في ندوة مشتركة بجامعة الأميرة نورة    أمير الجوف يواصل زياراته لمراكز محافظة صوير ويزور مركزي طلعة عمار وزلوم ويلتقي الأهالي    رؤية السعوية 2030.. من الطموح الى التحقق    عمادة شؤون الطلبة بجامعة الإمام عبد الرحمن تقيم حفل ختام الأنشطة الطلابية    برعاية نائب أمير مكة.. مُحافظ جدة يفتتح المؤتمر الدولي للابتكار في الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء    تحويل الدراسة الحضورية إلى منصة البلاك بورد بجامعة الطائف    رياح نشطة وأمطار رعدية على عدة مناطق في المملكة اليوم    وزير الشؤون الإسلامية يصل المغرب ومندوب الشؤون الإسلامية المغربي في استقباله    68.41% من الموظفات الجامعيات حصلن على تدريب عملي    رفع الوعي المجتمعي حول الصدفية والتهاب الجلد التأتبي    ولي العهد موجهًا "الجهات المعنية" خلال ترؤسه جلسة مجلس الوزراء: العمل بأعلى درجات الكفاءة والتميز لخدمة ضيوف الرحمن    التعليم عن بعد في متناول الجميع    تسري أحكام اللائحة على جميع الموظفين والعاملين.. إجازة "فحص المخدرات" بما يتناسب مع طبيعة العمل    أمانة جدة تضبط 9.6 أطنان من الغذاء الفاسد    خالد بن سلمان يبحث مع بن بريك مستجدات الأوضاع في اليمن    8.4 مليار تمويل سكني    في ختام الجولة 32 من دوري" يلو".. النجمة للاقتراب من روشن.. والحزم يطارده    هل الموسيقى رؤية بالقلب وسماع بالعين ؟    أزمة منتصف العمر    اغتيال المعلّم بدم بارد    في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. سان جيرمان يأمل بضم آرسنال لضحاياه الإنجليز    كبير آسيا    المرأة السعودية تشارك في خدمة المستفيدين من مبادرة طريق مكة    "صحي مكة" يقيم معرضاً توعويًا لخدمة الحجاج والمعتمرين    «طريق مكة» تجمع رفيقي الدرب بمطار «شاه» الدولي    الرياض تستضيف النسخة الأولى من منتدى حوار المدن العربية الأوروبية    مسيرات "الدعم السريع" تصل بورتسودان وكسلا.. حرب السودان.. تطورات متلاحقة وتصعيد مقلق    ميليشيا الحوثي تدفع البلاد نحو مزيد من التصعيد .. ضربات إسرائيلية متتالية تعطّل مطار صنعاء    قصف عنيف بين الهند وباكستان عند خط المواجهة في كشمير    إصابات الظهر والرقبة تتزايد.. والتحذير من الجلوس الطويل    تتويج فريق الأهلي ببطولة الدوري السعودي للمحترفين الإلكتروني eSPL    فيصل بن مشعل: منجزات جامعة القصيم مصدر فخر واعتزاز    أمير الرياض يستقبل سفير إسبانيا    ..و مشاركتها في معرض تونس للكتاب    «فيفا» يصدر الحزمة الأولى من باقات المونديال    «أخضر الصالات» يعسكر في الدمام    القادسية بطل المملكة للمصارعة الرومانية    بحضور وزير الرياضة .. جدة تحتفي بالأهلي بطل كأس النخبة الآسيوية 2025    رشيد حميد راعي هلا وألفين تحية    وزير الدفاع يلتقي رئيس مجلس الوزراء اليمني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة المراجعة ... زمن التراجع . دور للثقافة حيوي ومتجدد بعد صمت المدافع ... ونهضة ملحوظة في علم الاجتماع 1 من 4
نشر في الحياة يوم 15 - 01 - 2001

يكاد يكون قانوناً شبه متواتر في التاريخ العربي، انه عندما يشتد التراجع في الساحات السياسية والعسكرية، يصبح العمل الثقافي "خط الدفاع الأخير"، بل يتحول الى جبهة مواجهة واثبات وجود في وجه الاختراقات المضادة، الأمر الذي يسمح بالافتراض ان "العروبة" والهوية العربية الواحدة تقف أو تسقط - في نهاية المطاف - باعتبارها ثقافة ومسألة انتماء ثقافي قبل أي اعتبار.
... هكذا كان القرن الرابع للهجرة في منطقة الثقل العربي: عصر انحلال السياسة وازدهار الثقافة في الوقت ذاته. وهكذا كانت العهود الأخيرة من تاريخ الأندلس والمغرب حيث تألق نجم ابن رشد وابن خلدون وابن عربي وابن حزم ولسان الدين بن الخطيب في شتى صنوف الإبداع والمعرفة، بينما كانت القوات الاسبانية تتقدم و"ملوك الطوائف" يتساقطون. وهكذا أثبت عصر النهضة الحديثة عندما وقعت عواصم المنطقة العربية وأطرافها - معاً - في قبضة الاحتلال الأوروبي، فتتالت موجات النهوض الثقافي منذ جيل الطهطاوي وخيرالدين التونسي، الى جيل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي، الى جيل أحمد لطفي السيد وطه حسن وساطع الحصري، وهو النهوض الذي مثّل الزاد الفكري والشعوري للظاهرة الوطنية والقومية في ما بعد.
ولعل مؤرخ التحولات العربية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين - وتحديداً بعد هزيمة 1967 - سيكون في امكانه أن يؤرخ، بالمثل، ان الهزيمة العربية الشاملة والتي تطاولت عقداً بعد آخر منذ ذلك العام، قد أفرزت تدريجاً حركة مراجعة ثقافية جادة - في مواجهة الهزيمة - ما زالت تتوالى فصولاً، وقد تمثل واحدة من أهم حركات اعادة التأسيس الفكري واستئناف البناء الحضاري في حياة العرب.
صحيح ان ظاهرة البكائيات والندب وجلد الذات - المتسمة بلغة العنف وسيكولوجيته - سادت وتسود الكتابات العربية حتى اليوم، بعد أن حلت محل ظاهرة التضخّم الذاتي ونفخ الذات والنرجسية المفرطة في التفاؤل خلال الحقبة التي سبقت الهزيمة معزوفة إذاعة "صوت العرب" الدائمة: أمجاد يا عرب أمجاد!. فضداً لذلك أدت الظروف الموضوعية والذاتية القاسية وتوالي النكبات طوال تلك العقود التالية الى اشاعة المناخ النفسي المؤدي الى مثل تلك البكائيات المتفجعة ولغتها العنيفة، حتى على مستوى الأعمال الفكرية الهادفة والجادة.
وكما لاحظ باحث في ظاهرة "المثقف العربي والعنف" فإن "لغة العنف" في نتاج المثقف العربي غدت سمة جديرة بالتأمل، إذ: "تكشف عناوين كثيرة لمؤلفات عربية حديثة ومعاصرة عن عنف متنوع، بارز وجلي، حيث تشي هذه العناوين بمحتوى تلك المؤلفات". "الهزيمة والايديولوجيا المهزومة" لياسين الحافظ، "دكتاتورية التخلف العربي" لغالي شكري، "اغتيال العقل" لبرهان غليون، "انفجار المشرق العربي" لجورج قرم، "الاغتيال السياسي في الإسلام"، و"من تاريخ التعذيب في الإسلام" لهادي العلوي". وهي عناوين كأنها تقول: "ليس المكتوب هنا خاصاً بالمؤلف بل يخص الجميع الذين يحسون بالانسحاق. "-ابراهيم محمود، في كتاب "الثقافة والمثقف في الوطن العربي"، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 103.
واختلف العرب كثيراً بين متقبّل ومستنكر - بشأن قصيدة نزار قباني، التي ربما كانت آخر قصائده المثيرة والحية وهي قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب؟"... إلا انه أياً كانت ردود الفعل حيالها، فقد كانت القصيدة ذاتها بمثابة رد فعل نفسي شعوري حيال الحال العربية السائدة لدى أكبر شعرائها في آخر سنوات القرن العشرين. "قرن الهزائم العربية" كما وصفه على الصعيد الفكري د. نصر حامد أبو زيد، الذي لم يكن أقل إثارة للجدل من نزار قباني على صعيد الشعر. والحال ان المشهد كله، من الوجهة السيكولوجية، بدا لراصد فكري وكأنه "عصاب جماعي للأنتلجنسيا العربية" ناجم عن حدة "الرضة الحزيرانية" ودخول العرب "عصر الجرح النرجسي" المقيم جراء هول الصدمة التي لم تكن في الحسبان، كما عبر عن ذلك جورج طرابيشي بصراحة بدت هي الأخرى، في مواضع منها جارحة في عصر الجرح والانجراح الحزيراني.
وعلى رغم اتفاقنا المبدئي مع صاحب مدرسة "التحليل النفسي للعصاب الجماعي" بشأن تأثر النتاج الفكري والثقافي لهذه الحقبة بالرضة المهولة وبجرحها النرجسي، فإنه بين طوايا الرضة ونزف الجراح، نستطيع أن نرى في الوقت ذاته - وعلى رغم ذلك - ومضات متتابعة لفعل العقل التحليلي والنقدي في قضايا المستقبل والتراث والواقع، وان أعاقت انطلاقته تلك الآثار النفسية العميقة.
إلا انه سيكون من التسرع، بطبيعة الحال، أن نغامر بإعطاء تقويم نهائي لهذا الفعل العقلي غير المكتمل، وهو في مراحل نموه التي لن تتضح ثمارها إلا في القرن المقبل، غير انه يمكن القول ان حركة مراجعة فكرية وثقافية جادة قد بدأت في الحياة العربية، وان المشهد الثقافي العربي بعد انطلاق هذه المراجعة، لا يمكن أن يعود الى ما كان عليه قبلها.
وكان التنبّه المحوري الدافع لهذه المراجعة في واقع الأمر هو ما أجمع عليه عدد غير قليل من الممثلين الفكريين لروح هذه الحقبة بشأن ظاهرة "التضخم الايديولوجي على حساب تقلص البعد المعرفي"، ذلك التضخم الذي طبع النتاج الفكري العربي في المرحلة الايديولوجية ووصم بنزعته الرغائبية وانجراره الى التمني مختلف مدارس الفكر العربي "ثورية" كانت أم "رجعية" أم "وسطية".
لذا لم يكن من باب المبالغة الكاريكاتورية الخالصة قول كاتب عربي، وهو الباحث الفلسطيني محمد الأسعد" "عندما تبدأ في محاورة أي ايديولوجي عربي، فعليك قبل كل شيء أن تثبت له وجود العالم لأنه غير وارد ضمن معطياته".
إذا كانت هذه العبارة لا تخلو من سخرية لاذعة، فإنها لا تخلو أيضاً من حقيقة واقعة!
لقد ظل التضخم الايديولوجي الرومانسي والطوباوي والمثالي الذاتي يمثل القسم الأعظم من الثقافة العربية والخطاب العربي في مقابل ضمور، بل بؤس معرفي كان المقتل الأساسي لثقافة ما قبل الهزيمة.
غير انه تحت تأثير خيبة الأمل لدى المثقفين العرب بعد هزيمة حزيران يونيو 1967 وكواحد من أهم دروسها، حدث تحول وانعطاف لافت الى الجانب البحثي المعرفي والى الجانب الابداعي المتحرر من الايديولوجيا ونظرية "الالتزام" العقائدي، وذلك نزوعاً الى تأسيس ثقافة من نوع جديد لا تكرر خطيئة الأدلجة التي ضللت أجيالاً عربية كثيرة حيال قضايا السياسة والحياة والوجود والمعرفة، ولم تنتج الا ارتطاماً مفجعاً بالواقع والوقائع.
ولعل عبدالرحمن منيف، الروائي العربي البارز والايديولوجي السابق، لا يمثل حالاً منفردة بين مثقفي جيله عندما قال: "الواقع انني عقب نكسة 1967 اكتشفت مع كل المثقفين العرب زيف الأفكار التي كنا نؤمن بها، وأصبت بإحباط داخلي، فاعتزلت العمل السياسي المباشر، وقررت أن أبحث عن صيغة جديدة للوصول الى الناس تكون أكثر وعياً وقدرة في التأثير ومن ثم أتت روايتي الأولى". صحيفة "الأيام" البحرينية 4/9/1998.
ويلخص د. حسن حنفي التأثير الحاسم ذاته من زاويته الفكرية التحولية بالقول: "أنا في النهاية ابن 1967، وكل المشاريع العربية المعاصرة انما أتت بعد 1967. فهو جرح ما زال في جيلي، لأننا تصورنا اننا نجحنا في حركات التحرر الوطني. ولكن يبدو ان هذا كان نجاحاً موقتاً، وأن الأزمة أعمق من ذلك...". من مقابلة مع أحمد عبدالحكم دياب - "القدس العربي" 6/9/1999م.
وفي توجّه مماثل دعا المفكر السياسي د. غسان سلامة الفكر العربي والفكر الوحدوي بخاصة، الى ان يعبر: "من متاهات اللاهوت القوموي والنحيب المأسوي الى رحابة العلوم الإنسانية..."، مؤكداً وجود "أمثلة كثيرة فعلاً على امكان هذا العبور في القريب من الزمن" - راجع النص في مجلد "الوحدة العربية: تجاربها وتوقعاتها"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1989، ص 493.
وعلى تشكك الفكر العربي في جدوى "الثورات" بعد هزيمة حزيران فإنه يمكن القول ان "ثورة عربية" في العلوم الاجتماعية قد بدأت في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، لعلها الأخطر منذ كتب عبدالرحمن ابن خلدون مقدمته في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.
كان كاتب هذه السطور قد أشار في مطلع الثمانينات الى: "حاجة الثقافة العربية الى نزعة التحليل الاجتماعي" ودعا الى "فكر اجتماعي يرى الأزمة في جذورها" منبهاً الى أنه قد: "حان أوان السفر من نقائض الفرزدق الى مقدمة ابن خلدون" - راجع محمد جابر الأنصاري، "تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها"، ص 89 - 119، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
ولا بد من أن نسجل للتاريخ ان المفكر السوري حافظ الجمالي في كتابه "العرب والمستقبل" الصادر عام 1976 كان في مقدم المفكرين العرب المعاصرين الذين حاولوا التحدث بصراحة في تلك اللحظة التاريخية، وقبل من برزوا في ما بعد، عن بعض الجوانب المعتمة في التاريخ، وفي التراث العربي من دون هالات من الرومانسية القومية.
ولعله مما يستدعي الاستغراب حقاً ان يتأخر الفكر العربي حتى هذا الوقت المتأخر من العصر الحديث في تأسيس قاعدة معرفية لعلم اجتماع عربي جدير بهذه التسمية. وعلى ما قدمه مفكرو "النهضة" العربية من اسهامات، فإن تحسسهم للصلة بين الثقافة وقاعدتها المجتمعية كان شبه معدوم تقريباً. وحيث اهتم مفكر تنويري وتحديثي كلطفي السيد بترجمة أرسطو والتعريف بالليبرالية الحديثة في الغرب، فإن مقارباته الاجتماعية للواقع الاجتماعي المصري والعربي كانت شبه غائبة، وكان قد كتب عام 1913: "وعلى ذرارينا في الأجيال المقبلة أن ينظروا بعد ذلك، في ما إذا كانت المبادئ الاشتراكية هي اللازمة لجمعيتهم وقتئذ"، معبراً بذلك عن ميل جيله ومدرسته الى تأجيل طرح المسألة الاجتماعية وبحوثها الى زمن آخر غير زمن "النهضة" الذي بقي بلا بوصلة اجتماعية ترشد مسيرته فوق تضاريس الواقع العربي. وإذا كان سلامة موسى قد أصدر في العام ذاته كتابه التأسيسي الأول في "الاشتراكية"، فإنه كان صدى للاشتراكية الفابية الأوروبية ولم يكن مقاربة معرفية لخصوصية الواقع المصري.
وواقع الأمر ان الخطاب العربي في عصر النهضة اتجه أساساً الى الإحياء الشعري والأدبي الكلاسيكي كما تمثل في مدرسة أحمد شوقي مستلهماً أدب العصر العباسي، ثم اتجه الى رومانسية قصصية تاريخية لا تحمل من التاريخ إلا عناوينه الكبرى كما تمثلت في "روايات" تاريخ الإسلام لجرجي زيدان، ثم من تلاه من كتاب هذه المدرسة مع تصاعد المد الديني والقومي الجديد في ثلاثينات القرن من دون اقتراب حقيقي من علم التاريخ والعلوم الاجتماعية الأخرى. ثم سادت الثقافة العربية المدرسة الايديولوجية بمختلف اتجاهاتها بعد ذلك" ولم تتحرر دعوتها الى "العدالة الاجتماعية" و"الاشتراكية" من التأثير الايديولوجي الكاسح للفكر اليساري الأوروبي والماركسية الكلاسيكية بخاصة. هكذا تغلب "العام" على "الخاص" في مقاربة الواقع السوسيولوجي العربي في ماضيه وحاضره، وغابت الخصوصية المجتمعية العربية التي لم يكن ممكناً اكتشافها وتشخيصها إلا من خلال نشوء علم اجتماع عربي ينهل من علم الاجتماع الإنساني الحديث ولا يتقوقع في ذاته، لكنه يعطي للقانون "الخاص" في الاجتماع العربي ما يستحقه من قيمة معرفية تعيد التوازن في مقابل كفة القانون "العام" في العلوم الانسانية.
ويبدو ان العقل العربي متمثلاً في أغلب المفكرين والمثقفين العرب كان في حاجة الى صدمة في مستوى هزيمة 1967 ليتنبه الى أهمية القيام بهذه المهمة، حيث حتم الشعور الملح بإعادة النظر في الماضي والحاضر بتأثير الانهيارات المتتابعة التوجه الى "الحفر" المعرفي في جوانب الخصوصية العربية اجتماعاً وثقافة وسياسة وحضارة وتراثاً دينياً في ضوء معطيات العلوم الاجتماعية الحديثة.
لذلك لم يكن مستغرباً ان نجد في دراسة حديثة للمجتمع العربي المعاصر صدرت في الثمانينات من هذا القرن، ومن منظور عالم اجتماع عربي هو د. حليم بركات، الإشارة التالية وكأنها حدث تشهده الثقافة العربية للمرة الأولى في تاريخها: "ومما تجدر ملاحظته في هذه المرحلة ظاهرة الاقبال على العلوم الاجتماعية وانتشار المجلات والأبحاث المتخصصة في مختلف حقولها من اقتصاد وسياسة وعلم اجتماع وعلم نفس وتاريخ اجتماعي...". مع ملاحظة بدء التوجه لتبيّن جوانب الخصوصية في الواقع العربي: "ويبدو ان بعضها تمكن من أن يتجاوز مرحلة تقليد العلوم الاجتماعية الغربية ويعيد تحديد النظريات والفرضيات والمفاهيم بضوء الواقع" - "المجتمع العربي المعاصر"، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 4، ص 437. في بدء هذا التوجّه صدرت "مجلة العلوم الاجتماعية" من جامعة الكويت - مجلة علمية محكمة - منذ مطلع السبعينات 1973 وشهدت الكويت، في الوقت ذاته، انعقاد "ندوة مناقشة أزمة التطور الحضاري العربي" بمشاركة مختلف الاتجاهات والشخصيات الفكرية العربية في أول اعادة نظر فكرية من نوعها في العالم العربي. بينما مثل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الذي أسسه المثقف القومي العربي ورجل الدولة الكويتي المرحوم عبدالعزيز حسين، مثّل بإصداراته ذات النهج المتحرر رافداً تنويرياً في ساحة الثقافة العربية على المستوى القومي دلّ ضمن ما دلّ الى ان النفط في الخليج العربي يمكن توظيفه لهدف حضاري وتقدمي، بما يتطلب مراجعة عربية منصفة لهذا الدور تتجاوز الأدبيات المغلوطة بهذا الشأن....
في وقت مقارب 1975 وفي الجانب الآخر من العالم العربي، وضمن هذا التوجه لتأصيل العلوم الاجتماعية في التفكير العربي: "دعا عالم الاجتماع المغربي عبدالكبير الخطيبي الى ضرورة اعتماد علم اجتماع عربي وصفه بالنقد المزدوج، متحرر من مفاهيم السلفية والمعرفية الغربية المستمدة من علاقات السيطرة والتي تجعل الباحث العربي المتمرس بالمعرفة الغربية يفقد البوصلة فلا يدري من أي مكان يتكلم ومن أين تنبع المشكلات التي تقلقه". كما شدّد على التوجه ذاته الروائي المغربي الطاهر بنجلون بالدعوة الى تحرير الاجتماع في المغرب من سيطرة الإرث الاستعماري. وجاءت دراسة ادوارد سعيد في "الاستشراق" 1979 لتقدم شهادات لأمته على ذلك الإرث المتحيّز في مقاربة الحقيقة العربية والإسلامية.
واستخلص عالم اجتماع عربي آخر 1984 من ذلك ضرورة تأسيس: "منهج اجتماعي تحليلي نقدي" يتخلص من المفاهيم والتعميمات المتوارثة ويدرس: "الواقع العربي من الداخل ومن منظوره وفي سبيله" شريطة ألاّ يتقبل المنظور الغيبي التوفيقي وأن يستوعب التناقضات والأزمات بدل التهرب منها واغفالها بركات: 32.
وفي عام 1984 أصدر المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر كتاباً تأسيسياً في اشكالية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي بمشاركة أكثر من عشرين عالم اجتماع. ثم تلاه عام 1986 صدور كتاب مرجعي بعنوان نحو علم اجتماع عربي: علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت متضمناً المادة الأساسية لبحوث ندوة "نحو علم اجتماع عربي" التي أقامتها الجمعية العربية لعلم الاجتماع في تونس عام 1983، وهو العام ذاته الذي شهد ندوة بالعنوان نفسه في أبو ظبي في الجانب الآخر من الوطن العربي. وفي سياق هذا التأريخ الفكري يجدر التنويه بالمكتبة البحثية التي أضافها "مركز دراسات الوحدة العربية" بإشراف الدكتور خير الدين حسيب الى الثقافة العربية المعاصرة في مختلف مجالات البحث المعرفي والنظر الفكري، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه.
وعلى صعيد أبعد، مطلٍ على الرأي العام الغربي، جاءت أبحاث وكتابات البروفسور الفلسطيني إدوارد سعيد لتؤشر الى بداية ظهور جيل جديد من المثقفين العرب الأكفياء والقادرين على ايصال الحقيقة العربية - ضمن الحقيقة الإنسانية - الى أفق عالمي.
* كاتب بحريني. والنص يدرس جديد الثقافة العربية حتى سنة 2000 ميلادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.