معروف أن الحركة المسرحية في البحرين، والتي بدأت في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين مع الرائدين إبراهيم العريض وعبدالرحمن المعاودة، استمرت وتطورت وقدمت تجارب قوية ذات حضور عربي مميز وفاعل. وقد تواصلت هذه الحركة بينما تراجعت حركة المسرح العربي، وعاد المسرح في البحرين، منذ السبعينات، ليشكل رافداً أساسياً في ما يقدم عربياً من تجارب وتجريب، إذ يعد على رغم قلة الأضواء المسلطة عليه - من بين المسارح العربية الناشطة ومن أكثرها جدية على صعيد القضايا والهموم التي يرتبط بها ويعالجها. لعل كتاب "5 تجارب مسرحية من البحرين" المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالتعاون مع إدارة الثقافة والفنون في البحرين أن يكون دليلاً، بين أدلة أخرى، إلى حيوية وفاعلية الحركة المسرحية في البحرين على صعيد تأليف النص المسرحي، وهو الجانب الذي تعانيه الحركة العربية عموماً. ففي هذا الكتاب نصوص ذات مستوى راقٍ يمكن، بعد تجاوز ثغرات قليلة، تقديمها على صعيد عربي، لما تحمله من قيم وعناصر تتجاوز السائد والمستهلَك في المسرح العربي. بين التجارب الخمس، نصان مسرحيان لكاتبين معروفين عربياً: الشاعر علي الشرقاوي، والقصاص والروائي أمين صالح، ونص لمخرج معروف هو خليفة العريفي، ونصان لكاتبين ليسا على قدر من الشهرة هما خلف أحمد خلف وعيسى الحمر. وعلى رغم أن نص الشاعر الشرقاوي "البرهامة" هو الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة التأليف المسرحي التي أجرتها إدارة الثقافة والفنون في وزارة شؤون مجلس الوزراء والإعلام بدولة البحرين عام 1998، إلا أن هذا لا يعني أنه الأفضل لخشبة المسرح، ففي اعتقادنا أن النص المسرحي ينبغي أن يمتلك لغة وأدوات درامية تختلف عن لغة النص الأدبي وأدواته. وميزة نص الشرقاوي هي في أدبيته، أولاً وأساساً، وفي اقترابه من صيغة التلفزة أيضاً، على رغم عناصر المسرح الأخرى المتوافرة فيه... أما لغة المسرح وأدواته فنجدها أكثر ما نجدها في نص العريفي "صور عارية"، وعلى نحو أقل في نص خلف "هواجس العمر"، وأخيراً في نص "حيدر" لأمين صالح و "الوعول" لعيسى الحمر، مع أن هذا التقويم ليس نهائياً، ولا يقوم على تقويم للعناصر كلها في كل نص، ولكنها نظرة عامة إلى هذه النصوص. ثم إن النص المسرحي لا يكتمل بالقراءة شأن النص الأدبي، بل بالتجسيد الحركي على الخشبة، هذا التجسيد الذي يمنح النص أبعاده وأعماقه الحقيقية. نصوص وقضايا من بين النصوص الخمسة، ينفرد نص الشرقاوي "البَرهامة" بمعالجة قضية محلية ذات جوانب إنسانية متعددة: عاطفية، طبقية، طقوسية عقائدية الخ. فانطلاقاً من "البَرهامة" المكان، وفي محاولة لتفسير أسطورية الاسم، يعالج الشرقاوي العلاقة بين المغني "البر" وبين "الهامة" ابنة الحربة أمير الصيد، فيتناول، في صورة تقليدية، شؤون هذه العلاقة منذ بدايتها: حين أنقذ البرُّ الهامةَ من كارثة سقوط عمود الخيمة التي تشهد حفل زفافها على الليث ابن أمير المراعي غنام، وذلك عندما تهب عاصفة تعصف بالحفل، فيهرب المحتفلون بمن فيهم الليث، تاركين الهامة لمصيرها، فلولا تدخل البر، وسقوط العمود على ساقه وكسرها، لغدت الهامة "طعاماً للديدان". الأمر الذي جعل علاقتها بالليث الذي ظهر على غير ما يتوقع من اسمه، وهذا وجه للسخرية! علاقة مستحيلة، على رغم إصرار أهلها وأهله على إتمام "صفقة" الزواج القائم على أساس مصلحة الطرفين في التحالف، للهيمنة على الجزيرة وأهلها من فلاحين وصيادين، فتقوم العلاقة بين الهامة والبر الذي يحلم بالثأر لمقتل والده الذي قتله الحربة والد الهامة. ويحدث التصعيد الدرامي الأول عندما تخبر الهامةُ الليثَ بأنها لن تتزوجه، والتصعيد الثاني في اللقاء مع البر، وقرارهما الهروب، ثم الصراع بين الليث وأتباعه من جهة، والبر وصديقه مرجان من جهة ثانية. ينتهي الصراع بجثث البر ومرجان والليث على الأرض يبدون قتلى، بينما تأتي الهامة وترى البر فتظنه ميتاً فتقتل نفسها، وحين يصحو البر يجد الهامة ميتة فيقتل نفسه وذلك كله ضمن حبكة تبدو على درجة من الإقناع المنطقي، لكنها تفتقد الحرارة. هذا المحور العاطفي من القصة، يتلازم مع محور الصراع الطبقي في مجتمع إقطاعي لا يزال يعيش علاقات العبيد والأسياد، ويخضع للقيم التي تفرضها، وتظهر ملامح ذلك منذ البداية. فمرجان الطبال يتحدث إلى البر عن طبقتين، والبر يسعى للثأر من قتلة والده على خلفية طبقية. ويستخدم المؤلف أدوات المسرح على نحو يبدو متقشفاً، فعدا الحوارات المباشرة، والدور الهامشي للعرافة، والدور المعقول للجوقة والنشيد في بداية النص وخاتمته، تبدو لغة النص، الذي أراده الشرقاوي شعرياً، لغة بسيطة تخلو في الغالب من عناصر الشعر، ويغلب عليها النظم الذي يعتمد الوزن أساساً. ينجح النص في الربط بين البر والهامة، ليفسر اسم القرية المعروفة في البحرين باسم البرهامة، والمشهورة بشجرتها ذات القدسية التي تجعلها محجة للناس، يعلقون عليها نذورهم ويطلبون منها حاجاتهم. وليس الاسم فقط هو ما يمنح النص سمته المحلية، بل ثمة عناصر تنتمي إلى البيئة والزمان والعلاقات، هي مما يمنح الخصوصية. وإذا كان النص ينطوي على مأساة كما تشير مقدمة د. محمد الخزاعي، فما من ضرورة بتذكير القارئ بنهاية مسرحية شكسبير "روميو وجولييت"، لأن هذا يحيلنا إلى مقارنات لا جدوى منها. في النصوص الأربعة الأخرى ابتعاد عن المحلية التي وجدناها لدى الشرقاوي، وانصراف إلى موضوعات وقضايا ذات طابع إنساني عام، بعضها خارج الزمان والمكان دائماً مثل نص العريفي "صور عارية"، وبعضها خارج المكان فقط. والمكان الذي تخرج عليه مسرحية العريفي هو المكان المحلي - البحراني، فمكانها الذي تجري فيه له ملامح مكان عربي "سوق عربي قديم يتوزع في زواياه باعة الجواري والعبيد والأقمشة والشحاذون والعساكر ولاعبو الأراجوز والسحر..". والمكان في نص "هواجس العمر" يتوزع بين بيت ومكتب ومقعد في طائرة في العصر الراهن إذاً، وفي "حيدر" أمين صالح مشفى حديث، وفي "الوعول" المكان سيارة على طرف هاوية. يعالج العريفي قضايا الصراع في الدولة / السلطة على مستويات عدة، ضمن معالجة علاقة أصحاب الحكم في القصر في ما بينهم، ثم علاقة القصر بالناس، وأخيراً علاقة الناس في ما بينهم وعلى اختلاف توجهاتهم ومواقفهم من الحياة ومن السلطة قبولاً ومعارضة. ويستخدم المؤلف الكثير من أدوات المسرح وعناصره، ويضع بين يدي المخرج ما يلزم من توجيهات في خصوص الديكور والموسيقى والإضاءة والمؤثرات، تاركاً له إضافات هامشية. وتؤدي فرقة الممثلين دور المسرح داخل المسرح، في موازاة المهرجين الذين يؤدون دور الحاكم الفعلي داخل القصر. ويلجأ إلى توظيف خيال الظل الذي يترجم سخرية الفن من السلطة ومما يجري في القصر. فالممثل يخاطب الجمهور بمقولة أساسية في النص تظهر وظيفة المسرح، يقول الممثل "انتبهوا جيداً، نحن نعرف أنكم تأتون إلينا فقط لتضحكوا. الحياة ليست ضحكاً كلها فشاهدوا وافهموا.. افهموا". وبمقدار ما يستغل المؤلف المواقف التراجيدية، يلجأ إلى الكوميديا الهادفة في نقد سلطة القصر حيناً، وفي السخرية من انتهازية التجار حيناً آخر. كما لا يتورع عن نقد ظاهرة استغلال الدين في ترهيب الرافضين، خصوصاً استغلاله من قبل غير المؤمنين أصلاً، كما جرى في المواجهة بين "بائع 2" والتاجر الذي يهدد البائع أن يشكوه إلى القاضي لأنه لا يؤمن "بالمعجزات الإلهية" وليست المعجزات هذه سوى إشاعة شاعت عن عاصفة ستجتاح المدينة. الغاية الأساسية من نص العريفي، هي أن تبدل الوجوه في السلطة لا يعني بالضرورة تبدل السياسات للأفضل، بل قد يعني المزيد من الظلم والقهر والإفقار للناس، وهذا يتضح في البيان الذي يلقيه المنادي في نهاية النص، وكان قد ألقى مثله في بدايتها، لكنه أضاف "قررنا هذا العام أن نرفع الضرائب والمكوس، وأسعار السلع من الخبز إلى العرق سوس"، وتتأكد حدة السخرية عبر قلب المطلوب في جملة النهاية "هذا بيان واضح وظاهر، فعلى الغائب أن يعلم الحاضر". الذات والآخر في النصوص الثلاثة الباقية، تبرز قضية صراع الذات مع الآخر في صور عدة مختلفة. في "هواجس العمر" يعالج خلف صراع الإنسان مع ذاته - ذواته - الأخرى، في محاكمة تجمع الرجل الستيني مع الشاب العشريني الذي كان عليه قبل بلوغ الستين، وهي محاكمة في اتجاهين: محاكمة من قبل الشاب للكهل على ما ضيّع من فرص العيش والمتعة، ومحاكمة من الكهل للشاب على ما يقوم به من طيش تجاه نساء رفض الكهل - في شبابه - أن يحاول إقامة علاقة معهن. وتنتهي المحاكمة نهاية مفتوحة، فالنص لا يقدم حلاً أو موقفاً حاسماً أخلاقياً من أي من الطرفين. فالشاب يسعى لإقناع الكهل بأن امرأة الطائرة كانت راغبة فيه، بل مندفعة إلى علاقة معه، وهو - الكهل - من ضيع الفرصة. لكن الكهل يرى أن الشاب استعمل وسائل غير مشروعة لإقامة العلاقة. وكذلك الأمر مع ليلى التي كانت زميلة الكهل في العمل، يستغل الشاب غياب الموظف الملازم لهما في الغرفة ويصارح ليلى بحبه فتستجيب، ويستنكر الكهل هذا الأسلوب أيضاً. وبوصفها نصاً مسرحياً، تقترب المحاكمة من صيغة المونودراما، وتحفل بعنصر التشويق، وتغوص في ثنايا النفس البشرية، وقد أحسن المؤلف صنعاً بترك نهايتها مفتوحة على غير احتمال، ولتحمل دلالات غير الدلالات المباشرة التي تبدو على السطح، وهي العلاقات العاطفية، إذ يمكن أن تقود إلى محاكمة في مجال آخر من مجالات العلاقات بين الذات والآخرين! ويذهب نص أمين صالح في اتجاه محاكمة المجتمع الذي قاد حيدر إلى مشفى للأمراض النفسية والعصبية، وخصوصاً الأب الذي يجسد صورة من صور السلطة، تقود الابن إلى حال من الفصام، يستغلها المؤلف ليستخرج مكبوتات النفس ومقموعاتها. في النص ثمة حضور طاغٍ للأب في مقابل الغياب الفادح للأم، وما ينجم عنه من تشوهات في شخص الطفل والفتى والرجل الذي هو حيدر في مراحل من عمره. وثمة تشريح لأدوات السلطة بدءاً من الأب، وصولاً إلى المشفى الذي يبدو سجناً وزريبة حيوانات، وانتهاء بالمجتمع ومحرماته التي تقتل روح الفرد في الإنسان. وعلى الصعيد الدرامي، ينتقل النص نقلات تفصح عن التغييرات التي أصابت الشخصية، والعلاقات المختلفة مع أشياء العالم. لكن لغة الهذيان التي هي أقرب إلى مسرح الممثل الواحد المونودراما تسيطر على النص، فنتساءل: إلى أي حد يستطيع مخرج أن يقدم هذا العمل من دون إجراء تعديلات أساسية على بنيته؟ النص الخامس والأخير نمط آخر من المحاكمة، يجتمع فيه رجلان في وضع استثنائي، على حافة الموت، في سيارة اصطدمت بحاجز وتوقفت على شفا هاوية. الرجل الأول زوج لامرأة هي عشيقة للرجل الثاني، ولذا يبدو الحوار المتوتر المشحون ، بفعل الكحول كما يبدو، لكن بفعل الخيانة التي يشعر الزوج أنه مطعون بها أيضاً. هذه المحاكمة المتوترة في الوضع الغريب، تمنح شعوراً بذهنية الحال، وبالتصنيع الذي يمارسه المؤلف ، فما الداعي إلى هذا الوضع الغريب؟ ثم إن انقلاباً يحدث يجعل الرجلين يتبادلان الدور، فيبدو أننا أمام فانتازيا ربما أراد المؤلف منها إدانة الطرفين! ثم إن حضور بعض أدوات المسرح، لا يكفي لبناء عمل مسرحي، إذا كان بناء الشخصية ناقصاً ومتعثراً، وهذا ما نلمسه في حوار الرجلين، فالخصائص قليلة ولا تسمح بتمييز واضح لكل من الشخصيتين. عموماً، تبدو هذه التجارب، على رغم الملاحظات السالبة، جديرة بالتوقف عندها وتنفيذها، لأنها تعالج هموم وقضايا الإنسان في أزمنة وأماكن مختلفة، وتظهر إلى السطح أسئلة مجتمع عربي لا يزال يحتاج إلى من يطرح أسئلته، ويسعى إلى تحريرها من المحرمات.