الحقيل يفتتح مركز دعم المستثمرين بالمدينة المنورة ويتفقد عدداً من المشاريع البلدية    جمعية تعلم ومركز إشراقة يختتمان الدورة الشرعية الثامنة لنزلاء سجن المدينة    "الأخضر" يتغلب على باكستان بثلاثية ويتأهل للمرحلة النهائية لتصفيات مونديال 2026    "ابن نافل" يسعى لكرسي رئاسة الهلال من جديد    "بوليفارد رياض سيتي" و" أريناSEF " تستضيف كأس العالم للرياضات الإلكترونية    وزير الدفاع يلتقي رئيس مجلس الوزراء اليمني    الفريق اليحيى يقف على سير العمل بصالات الحج ب"مطار الملك عبدالعزيز"    ابتداءً من اليوم .. حظر دخول واستخدام أسطوانات الغاز المسال بالمشاعر المقدسة    وفد من مجموعة البنك الدولي يزور هيئة تقويم التعليم والتدريب    وزير التعليم يرعى جائزة الفالح للتفوق العلمي والإبداع    "الأخطبوط" عبادي الجوهر.. "أرينا" أكبر تكريم والسعودية نعمة    انطلاق فعاليات الهاكاثون المصاحب للمنتدى الأول للصحة والأمن في الحج    «سدايا» تنال شهادة مواصفة الآيزو «iso 42001» العالمية    قرض تنموي سعودي بالسلفادور ب83 مليون دولار    مصر تهزم بوركينا فاسو بثنائية في مباراة حسام حسن الأولى    بن فرحان يبحث مع نظيريه السويسري والكندي مستجدات الساحة    بن نافل يُعلن ترشحه لرئاسة الهلال    الاتفاق يُحدد موقفه من فوفانا وجوتا    موعد مباراة السعودية القادمة بعد الفوز على باكستان    كيف تبني علامة تجارية قوية عبر المحتوى ؟    الركن الخامس.. منظومة متكاملة    كوبا تعلن أن غواصة نووية روسية سترسو في هافانا الأسبوع المقبل    القطاع الخاص والاستثمار في الفضاء الخارجي    وزير التعليم يتفقد القطاع التعليمي بمحافظة الزلفي    الموارد البشرية: إجازة العيد 4 أيام تبدأ من يوم عرفة    مع التحية إلى معالي وزير التعليم    التطوع والحج    ذبّاح نفسه ما ينبكى عليه    قلوبنا تدمي هنا وهناك    منحة لدراسة الإبل ثقافياً واقتصادياً    فضائل الدول الصناعية وعيوب من عداها    «التحيّز».. الداء الخفي    هيئة الأفلام تكمل مشوار «ليالي الفيلم السعودي» بعروض جديدة في أستراليا    عمارة الحرمين.. بناء مستمر    بحضور وزير الاستثمار ومحافظ الزلفي.. وزير التعليم يرعى حفل جائزة الفهد لحفظ القران    أشهُرٌ معلومات    تجهيز 14 منفذاً صحيًا للحج    إنجازات رائدة    حفلات التخرج.. من الجامعات إلى رياض الأطفال    جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تدشن مسرحها الجديد بأحدث التقنيات المسرحية    أمير القصيم يكرّم البشري بمناسبة حصوله على الميدالية الذهبية    وقوف امير تبوك على الخدمات المقدمة في مدينة الحجاج بمنفذ حالة عمار    رئيس "كاكست" يطلق مبادرات طموحة لتوطين صناعة تصميم الرقائق الإلكترونية بالمملكة    اختصار خطبة الجمعة بالحج لشدة الحرارة    نجاح فصل التوأم السيامي الفلبيني "أكيزا وعائشة" بعد عملية استغرقت 5 ساعات    بجراحة دقيقة مركزي بريدة يستأصل ورما نادراً ضاغطا على الأوعية الدموية    البرلمان العربي: مسيرات الأعلام واقتحام الأقصى اعتداء سافر على الوضع القانوني والتاريخي    "غوغل" تتخلى عن ميزة "سجل الخرائط"    نائب أمير الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة جمعية تنمية الموارد المالية    أمير القصيم يقف على جاهزية مدينة حجاج البر    وزير الداخلية يخرّج "1410" طلاب من "فهد الأمنية"    وزير الدفاع يبحث مع العليمي مساعي إنهاء الأزمة اليمنية    "العُلا" سحر التنوع البيئي والتراث    رئيس الشؤون الدينية يدشن دورة "هدي النبي في المناسك"    نائب رئيس جامبيا يزور المسجد النبوي    حذّروا من إضاعتها خلف الأجهزة الإلكترونية.. مختصون ينصحون الطلاب باستثمار الإجازة    خالد بن سلمان يجري اتصالاً هاتفياً بالرئيس المنتخب وزير الدفاع الإندونيسي    الوزير الجلاجل وقفزات التحول الصحي !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجيل الجديد يعود "سائحاً" لا يعرف "المرارة" التي دفعت القديم الى الغربة . تفاوت كبير في النظرة الى "الوطن الأم" بين المهاجرين وأبنائهم
نشر في الحياة يوم 01 - 07 - 2000

في مثل هذا الوقت من كل سنة، يبدأ موسم عودة المغتربين الى الجبال اللبنانية. فتزدحم القرى بحركة لا تعرفها خلال الفصول الأخرى من السنة. وجوه جديدة، ولكن أيضاً حركة رسائل تنقل أخبار الأهل من المهاجر البعيدة، وبعض المال المُرسَل منهم الى ذويهم في الوطن. وجمال هذه اللوحة الانسانية لا يفوقه جمال، حيث انه غدا في أيامنا هذه جزءاً لا يتجزأ من المشهد البشري العام للريف اللبناني.
فالصيف يعني ظهور خيرات الطبيعة وثمارها، كما يعني أيضاً قدوم بعض مَن غادروا البلاد في الأيام الغابرة، حاملين معهم أخبارهم المفرحة والمبكية في آن، هذه الأخبار التي هي ثمار غربتهم في نهاية الأمر. فتمتزج عندها الطبيعة بثمار البشر، في لقاء "حامض - حلو" يشارك فيه الأهل والعائلة والمعارف.
ومما لا شك فيه أن ظاهرة مشابهة تحصل أيضاً في أرياف المغرب العربي، حيث يعود العمال المهاجرون التونسيون والمغربيون والجزائريون الى قراهم وأهلهم، حاملين حلاوة الهدايا ومرارة القهر الذي عانوه في مشاغل ومصانع فرنس وبلجيكا وألمانيا. فالعائد الى دياره يحمل حقيبتين، إحداهما في يده، وفيها مئة هدية مختلفة، والأخرى في قلبه، وفيها ألف قصة وحكاية.
والحال نفسها يعيشها العامل المصري العائد الى كفره في الصعيد، بعد قضاء سنتين أو ثلاث من الشقاء في مراكز خدمات مختلفة على امتداد البلدان العربية. فتنتظره أسرته وينتظره أهله، وغالباً ما يكونون قد هيأوا له مشاريع مستقبلية يرونها نافعة ومفيدة له.
أما في لبنان، فمعظم المغتربين يأتون من قارات بعيدة، من أميركا وأوستراليا، وقد خاضوا فيها تجارب إنصهار مميزة، لا يعيش مثيلاً لها المهاجرون العرب الآخرون، إما لأنهم يتوجهون الى بلدان عربية أخرى للعمل كالمصريين، أو لأنهم يعملون كالمغاربة في مجتمعات أوروبية جدّ عنصرية وغير مستعدة لدمجهم بسبب اختلاف اللغة والثقافة.
لذلك تبدو أخبار المهاجرين اللبنانيين أكثر تنوّعاً وأعمق اندماجاً، من دون أن يعني ذلك مرارة أقل أو فرحاً أشد.
صحيح أن المغتربين العائدين الى لبنان هذه السنة هم أقل عدداً من أولئك الذين قدموا خلال السنوات الماضية، إلا أن تجربتهم كانت شبيهة بتجارب أسلافهم وفيها كلها، لمسة البلدان التي حلّوا فيها وعملوا فيها وانصهروا بها.
فقد جاء الى احدى القرى الشمالية ابن أسرة مغتربين كانوا قد قصدوا الجزر الهولندية قبالة شاطئ القارة الاميركية في مطلع هذا القرن. وعاد اليوم ابن هذه الأسرة المتواضعة التي هجّرها الفقر أيام الحكم العثماني، كحاكم هولندي لجزيرة بونايري، واستقبله عند وصوله الى المطار سفير هولندا وبعض أهله اللبنانيين.
بعد تمضية بضعة أيام في فندق بيروتي، أفصح هذا الحاكم الذي ترافقه زوجته لأهله، أنه ينوي التوجه الى قرية اجداده للتعرف الى مَن تبقى فيها من أسرته و... لوضع شجرة العائلة بتفاصيلها كافة، بعد الاطلاع على سجلات العماد في كنيسة القرية.
فالجذور قد نادته وجعلته يقطع المسافات الطويلة علماً انه لم يعد يتكلّم اليوم العربية، بل أربع لغات أخرى، يُضاف اليها إتقان اللاتينية والاغريقية ليستفسر، بالانكليزية، عن أصوله العائلية.
وبالطبع، فرحت القرية كلها بهذا المغترب الذي لم ينس أصله، وقدّرت له قدومه الحميم. وتكلّم الجميع فيها وكأن صلة قرابة عضوية تربطه بهذا الابن البار العائد بعد جيلين الى قريته الأم. فالقرى التي يهاجر منها الأفراد تتقبل بفرح أي ذرّة من ذرّاتها العائدة، وتعتبرها جزءاً أصيلاً من نسيجها السكاني والاجتماعي.
وصحيح أن اللغة الأم لهذا المهاجر العائد أضحت اليوم الهولندية، وان أحداً في القرية لا يقدر على فهمها، إلا أن روابط الدم جعلت جميع أهل القرية يشعرون عندها بالاعتزاز، فانهالت على الضيف الدعوات و"العزايم". ولم يتمكّن من تلبية سوى القليل منها. غير أن الجميع في القرية شعر عند مغادرته انه قد زاره في بيته. وهذا شعور تضامني انساني عميق لا تكفي صلة القرابة في تفسيره، بل ان الأمر يتعداها باتجاه وحدة المصير والشعور بالانتماء الى ذهنية جبلية ترغب على الدوام في قهر الفقر والنجاح.
فتماماً كما ان المهاجر يبحث عن جذوره الاجتماعية عند قدومه الى لبنان، وخصوصاً بعد غياب طويل، فان أهل القرية المقيمين يرون أساساً في الهجرة وسيلة للخروج من الفقر الذي يرافقهم مذ العصور الأولى للبشرية، ولا يهاجر أحدهم الا بعد أن يلذعه الفقر. ولا يهاجر عادة من القرى والأرياف الملاّكون ويدعون في شمال لبنان بالفلاحين بل أبناء أسر العمال الزراعيين، الذين لا أملاك كافية ووافرة لهم تسمح بحياة فوق معدّل الفقر.
لذلك فإن حكاية الاغتراب غالباً ما تعني هذه الشريحة المعدومة من وسائل الانتاج الزراعي في الأرياف. وميزة هذه الشريحة المضطرة للسفر انها غالباً ما تكون ناقمة على الوضع الذي دفعها الى ترك البلاد والأهل، ولا يعود أحياناً منها أحد. ولا تستقر الأمور، على هذا الصعيد العاطفي الدفين، إلا بعد ظهور جيل الأبناء الذين يرغبون في التعرّف الى جذور أهلهم التي هي أيضاً جذورهم. فيفكرون عندها، في سياق ذهني غربي، بضرورة ضبط شجرة العائلة، تشبهاً بما يقوم به ابناء المجتمعات الغربية.
ولا نستطيع تلمّس قهر الهجرة عند الجيل الأول، ذلك انه غالباً ما يترجم هذا القهر الى قطيعة مع القرية التي سُلِخَ عنها سلخاً، فتبقى صلته بها فاترة أو باردة، عبر رسائل يحملها دائماً بعض المال، لتذكير نفسه ولتذكير أهله ان سبب وجوده الأول في الهجرة هو المال والحاجة اليه.
ويعلم المهاجر أن أهله المقيمين في القرية ينظرون اليه - شاؤوا أم أبوا - من خلال النجاح المادي، هذا النجاح الذي يكرّسه ويجسّده توافر المال. فالمال المُرسَل الى الأهل، في الرسائل المحملة بالأخبار والسؤال عن الجميع، هو رسالة خفية تحكي بصمت حكاية الهجرة من منظور المغترب. وإصراره على إرسال بعض المال هو أيضاً للاشارة على نجاحه في بلاد الغربة وللتمايز عن المقيم، ذلك ان المقيم جهاز استقبال لهذا المال، في حين أن المهاجر هو جهاز الارسال، ويهمّه التشديد على هذه الوضعية.
الوطن في الغربة
هذا ما يوصلنا الى الوجه الآخر من القمر. فعندما يهاجر شاب من جبال لبنان يجد نفسه مسجوناً في معادلة قاسية، في الماضي كما في أيامنا هذه، قوامها انه لا يكتشف وطنه ويعيشه في وجدانه السياسي والاقتصادي، إلا بعد مغادرته. فاللبناني أو المصري أو المغربي الذي يدفعه الفقر لمغادرة بلاده والفقر مفهوم نسبي يعني اليوم ما لم يكن يعنيه بالأمس يشعر الشعور نفسه، وهو انه عاش الغربة في وطنه، وانه اليوم يعيش الوطن في الغربة.
أي انه، حين كان يعيش في أحضان الوطن، لم يشعر ان هذا الوطن يحبّه فعلاً ويساعده على عيش حياة كريمة. بل انه شعر ان بلاده لا ترغب في بقائه في حضنها، كالأم التي تُبعد طفلها عنها، وهذا ما يولّد مرارة في القلب ما بعدها مرارة.
كتب أحد المهاجرين، هذه الفكرة لصديقه في الوطن ليفسّر له، بكلمات مختصرة، ما يشعر به ويعيشه. فهو الذي أحبّ وطنه كثيراً، لم يبادله وطنه المحبة. بل أرغمه البؤس الاقتصادي فيه على الرحيل. وهذا الشعور، شعور النبذ، شعور عاشه كل مهاجر من الجيل الأول. مع انه يترافق مع شعور مناقض للأول، مفاده ان الوطن يغدو حاضراً وساطعاً في وعيه على الدوام، من الآن فصاعداً، لأنه غدا يعيش من أجل فكرة تهجسه هي صورة طفولته أو شبابه في الوطن.
فالوطن يشرق في عيني المهاجر، بأبعاده كافة، عندما يصبح في الغربة، فيعيشه هذا الأخير في خياله بقوة بعدما عجز عن عيشه في حياته اليومية على أرض الواقع.
لذلك فإن أحلام المهاجر، بعدما يكون قد قطع شوط مرارة الفراق الأولى، تتحلّق حول استعادة قرية طفولته. إذ يهمه أن يجدها تقريباً كما تركها، ليستأنف العملية العاطفية التي انقطع تواصلها مع افتراقه عنها. فأكثر المتعلقين بالتقاليد القديمة، وأكثر الذين يدعمون مادياً استمراريتها، هم المهاجرون الذين باتوا يحبّون وطنهم أكثر بعدما أضحوا في الغربة وفُطموا عنه في آن.
أما جيل أولاد المهاجرين فلا تناقض داخلياً في علاقتهم ببلادهم، إذ ان تجربة أهلهم تعنيهم من دون أن تؤثر في رؤيتهم. فهم يعلمون انهم ينتمون قلباً وقالباً لوطنهم الجديد، والانتماء للوطن الأم لم يعد سوى انتماء في المشاعر العامة. فبالنسبة الى لجيل أبناء المهاجرين والذين يرافقون أحياناً أهلهم الى "الوطن" لا يعدو الوطن الأم بلداً يختلف عن بقية البلدان التي يقصدونها للسياحة. فيتكلمون عليه وعلى جماله من دون أن يختلف كلامهم عن ذكرهم لليونان مثلاً أو لإيطاليا، إذ لم تعد الروابط التي تشدّهم الى بلد أهلهم روابط حيّة.
فحيوية شعور الانسلاخ هي من نصيب الجيل الأول، الذي لا يملك لغة أهل البلد الذي حلّ فيه للعمل وللابتعاد عن الفقر الذي كان يتربص فيه في كل يوم في جبال الأوريس وصعيد مصر ومناطق لبنان الطرفية. أما ميزة اللبنانيين عن المهاجرين العرب، فهي انهم لا يسافرون للعمل لفترة محدودة فقط، بل يقيمون حيث يحلّون بشكل دائم، فيغدو وطن اطفالهم غير وطنهم هم. كما انهم يعيشون بشكل مختلف، بحسب الجيل، علاقتهم بوطنهم الجديد وبوطنهم الأم.
ففي حين أن الوطن الأم يبقى مطبوعاً في خيال الجيل الأول، يبهت ويضعف مع الجيل الثاني.
غير أن بنية بلداننا الاقتصادية، الهشة والضعيفة، كفيلة بأن تعيد ضخ كميات وفيرة من المهاجرين الجدد في كل سنة في سوق الاغتراب. فتتكرر الحكاية ويغادر شبابنا ثم يعود بعد جيل أو جيلين أولادهم لكي يرسموا شجرة عائلاتهم، ويصطحبون احياناً معهم حيوانات أليفة يسبب سكنها في دور ذويهم القديمة مشكلات في الذهنية.
فجيل يغادر وآخر يجيء. واحد يعيش وطنه في الغربة والآخر يعيش وطن والديه صورة سياحية محدودة، قد تعجبه أو لا تعجبه. هذا هو حال البلدان المستضعفة التي لا تخرج من تناقضاتها، فتنعكس هذه الأخيرة تناقضات في سيرة ابنائها.
لذا ليست مصادفة ان يكون جبران كتب :"لي لبناني ولكم لبنانكم"، فهذا شعور معكوس لصراع داخلي كبير يعيشه كل مهاجر، أياً كان لونه ودينه وجنسيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.