عِنْدَ المُفْتَرَق

سَفَراً كانَ،
وكُنَّا في ارتْيَادِ السَّفَر الفَاتِنِ طَيْراً
حَدَّثتْ عنَّا فُصول الرِّيح مِنْ عامٍ لعامْ
حدَّثتْ عنَّا المسَافَات التي نَجْهَلُها
والفَضَاءات التي نَهْجُرها
حدَّثَتْ عنَّا بلادٌ مِنْ عَقِيق وَزَبَرْجَدْ..
تِلْكَ مِنْ خَوصِ جَريدِ النَّخلِ
أَعطَتْنا مَلاذاً
وَأَمَالَتْ قَدّضها البَاسِقَ، أَهْدَتْ
ياسمينَ العُمْرِ.. أَهْدَتْنا بَياضاً
كُلَّما أَوْغَلَ فِينا
تَتمادَى زُرْقةُ الأُفْقِ بِعَيْنَيْنا
فَلا نَملكُ إِلاَّ أَنْ نُغَنِّي مِلْءَ رُوحيْنا..
نُغَنِّي ونَطيرْ..
حَدَّثَتْ عنَّا بلادٌ
فَتَقاسَمْنا المحَطَّات التي تُؤْوي
تَبادَلْنا صَباحاتِ المَرافِي
وَعَشِقْنا وَهْجَ الشَّمْسِ وتَرْدِيدَ نَشيدٍ
لِرجالٍ مُتْعَبينْ
وَتَضَورنا مِنَ الشَّوقِ، شَرِبْناهُ نَقيّاً
ذلكَ السُّلْوانُ أَشْجانا،
كَما يُشجي المُحبِّينَ الحَنينْ
كَمْ بُروجٍ تَقْتَفي إثهْرَ خُطانا..
وَنُجومٍ في هَوانا تَتَولَّدْ؟!
***
كَانَت الأَيَّامُ أَشْهى
مِنْ رَحيقِ الزَّهْرِ.. أَصفى وَأَلَذْ
كَانَت الدُّنْيا خُيولاً مُسْرَجَاتٍ للتَّمنِّي
وَمَيادينَ طِرادٍ وَأراجيحَ لَعِبْ
وَنبيذُ الوَقْتِ حِضْناً للتَّشهِّي
وَمصابِيحَ انْتشَاءٍ، وَخصوراً لأَزاهيرَ
اسْتفاقَت في مساءٍ جُنَّ مِنْ فَرْطِ الطَّرَبْ
كانَ خَفْقُ القَلْبِ نَهْراً
وَمَصَبُّ الدَّفْقَةِ النَّشْوى بِحاراً أَشْعَلَتْ أَعْماقَها
كُلُّ الفَوانيسِ وأَقْواسِ قُزَحْ
يَا سماءَ الوَلَهِ الأَوَّلِ في الأَعماقِ ما شِئْتِ
أَكاليلَ منَ المرْجانِ والوَجْدِ وَأَقْمارَ لَهَبْ
كانَت الدُّنيا تُؤاتي كيفَ ما كُنَّا نَشَاءْ
شَجَراً كانَ،
وَكُنّا في عُروقِ الشَّجَرِ الطّالعِ مَاءْ.
آه، يا غُصَّةَ يَومٍ جَرَّعَتْنا مُرَّها
يا لَدَمْعٍ كابَرَ العينَ فَلَم تَدْمَعْ بهِ
ما حَسِبْنا مطَرَ العُمْر سَيأْتِينا بُكاءْ
والفَراشَاتُ التي رَفَّتْ رَفيفَ العَاشِق
المَبْهُورِ بالنُّور تَلَظَّاها السَّعَرْ
وَغدا لونُ تَجلّيها نَشِيجاً صَامتاً
بينَ زُجاجٍ وَإِبَرْ
إِنَّ ما يَحْويهِ هذا القَلْبُ
لا يُمكنُ للأيَّام أَنْ تَسْطو فَتُذْريهِ
وفي الرُّوح بقَايَا لارْتعاشَاتِ وَتَرْ
إِنَّهُ شيْءٌ، مِنَ النَّبْضِ إلى النَّبْضِ،
رَهيفُ الحَدِّ مَوصُولُ الضيَاءْ
لا أُسمِّي ذلكَ الشَّيْءَ
ولا أَعْرفُ وَصْفاً قَدْ يُُداني،
رَاوَدَتْني وَرْدَةُ المعْنى، وكادَتْ
غَيْرَ أَنَّ الكَلِماتْ
لَمْ تُساعِفْني، وَهَمَّتْ بي بُروقٌ ورُعُودْ
ذلكَ المشْدُودُ بالنَّبضِ تَعَنَّى
كُلَّما أَحْسَسْتُ غَدْراً، وتَهَيأْتُ. وَحِيداً
أَعْزَلَ القَلْبِ، لمقْتَلْ
فَتَحَ البَابَ مُجيراً، وأَرانِي مَسْلَكَ النُّورِ،
تَرَجَّلْتُ، تَوَضَّأْتُ، وعَانَقْتُ صَهِيلاً
للمسَافَاتِ التي مَدَّتْ يَدَيْها
فَإِذا رُوحِيَ مِنْ قَتْلٍ إلى قَتْلٍ مُؤَجَّلْ
فَتَأَمَّلْ، أَيُّ مَعْنىً خَامَرَ القَلْبَ وأَضنَى
يَا رَفِيقَ الرِّحلَةِ العَجْلى،
بَلَغْنا مَفْرقَ الدًّرْبِ،
فَلا نَمْلِكُ إِلاّ وُجْهَتَيْن
وَالذي يَسْلُكُ دَرْباً سَوْفَ يَجْنِي
مُنْتهى الدَّرْبِ الذي اخْتارَ وَأَمَّلْ
واللَّيالي كيفَ ما شَاءَتْ سَتَمْضي..
تَتَبَدَّلْ
والزَّمانُ المرُّ يَسْقِينا
وَيَرْحَلْ
ثُمَّ يَبْقَى، أَبَدَ الدَّهْرِ، الذي أَقْوى وَأَجْمَل.
* شاعر من البحرين.