-حركة الكتاب لا تنفصل عن الخارطة السياسية في العالم العربي. لقد تحقق خلال العقود الثلاثة الماضية تطور عميق على المستوى النوعي، في مختلف حقول الإبداع والفكر والمعرفة، مما كان يشكل قاعدة لنهوض ثقافي يرتقي بمستوى الأمة، لو تهيأ لها المناخ الملائم، وشرطه الأساس الحرية والديمقراطية. إذا بدأنا بالخارطة السياسية، فإن غياب الديموقراطية ونفي الآخر هما السمة البارزة فيها وهذا ما يفرز ظاهرة الهجرة والاغتراب" الهجرة القسرية التي ارتبطت بخراب أوطان كاملة، مثل العراق والسودان والجزائر واليمن وقس على ذلك. ومن لم يُهجّر إلى الشتات تلبّسه الاغتراب وهو في وطنه، مجرداً من كل أسلحة المواجهة والتفاعل مع الحياة، ومن الأمل في الوصول إلى شاطىء الأمان ولو سراباً. وكثرة الكتاب والكتب أصبحت هي الشرط الأول للعافية الثقافية العربية. فالمكتبات تغص بمئات الأسماء الجديدة والعناوين ولكنك تضيع بينها، ما الذي تقرأه منها؟ وهكذا تضيع الفرصة على القارىء لاكتشاف الموهبة والإبداع الجديدين في زحمة تدافع الكُتّاب والكتب. هذا إذا سنحت الفرصة حقاً في أن تجد نتاجات هؤلاء طريقها إلى القراء. والمجلات أصبحت من الكثرة حتى عزف القارىء الجاد عن قراءتها، إذ تضيع بعض هذه المجلات المطروحة كمشروع للقراءة تحت أكوام المجلات التي تغلق المنافذ عليها وعلى قرائها. أما النقد الذي كان البوصلة الأهم لاكتشاف الإبداع الحقيقي وعوناً للقارىء على اختيار ما يقرأ وعنصراً أساساً من عناصر صياغة الخطاب الثقافي، والسياسة الثقافية، فقد انحدر هو أيضاً بفعل الصحافة اليومية الى أدنى سلم الكتابة الصحفية. وبسبب ذلك أصبح النقد مناسبة للمجاملة وتبادل المنافع بين الناقد الذي يمارس القصة والشعر والشاعر والقاص الذي يمارس الكتابة النقدية. وعلى رغم أن أغلبية الأنظمة السائدة في الماضي كانت رجعية أو ممالئة للامبريالية فإن الكتاب كان أكثر قدرة على عبور الحدود وأيسر منالاً بالنسبة للقارىء من حيث السعر. والكاتب نفسه، وهو مبدع ومفكر سياسي، كان قوة نافذة في المجتمع مرهوبة الجانب" فماذا حل محل تلك الصورة الجميلة في يومنا هذا؟ المبدع العراقي لا يصل كتابه إلى الوطن وهو في الهجرة، ويتعذر إيصاله إلى الشتات لأكثر من سبب. والمبدع في الوطن مغلوب على أمره، وأن إبداعه الحقيقي ممنوع من النشر، والقلة المحظوظة من الكتّاب محاصرة مسلوبة الإرادة. والجزائري مهاجر إلى المنفى، والمنفي في الداخل عاجز عن الكتابة والقراءة، فلا الكتاب يصل ولا هو قادر أن يصل إلى قارئه. ومع ذلك فالكاتب اليوم والقارىء معه هما الضحيتان لعملية النشر، والأنظمة تتفنّن بوعي أو بلا وعي في هدم هذا الجدار الأخير في المواجهة، كما يسميه الجميع، على رأسيهما، سواء من خلال تشديد الرقابة أو غلق الحدود أو التقنين في وسائل صناعة الكتاب وأدوات تحريكه وتوزيعه، أو بإدراجه في آخر قائمة السلع الكمالية. وأعتقد أن هناك مبالغة اليوم ، في وضع ثقافة الصورة مقابل ثقافة الكلمة، كذلك من السخرية إيراد الانترنت كتحدٍّ يواجه الكتاب. فأين هو الإنترنت يا ترى؟ وكيف للكتاب أن يكون ضحية للفضائيات وتقنيات الصورة إذا كان في مرحلته الذهبية مجرد بضعة آلاف من النسخ في عموم العالم العربي؟ وقد تقلص في يومنا هذا إلى ألف نسخة فحسب. ونحن اليوم لانزال في الجاهلية الثانية، والإنترنت والإي.ميل والكومبيوتر عناصر حلم للعربي المثقف الذي يأمل في الاقتراب من إمكان استخدامها ربما بعد جيليين، إذا تخلص العالم العربي من زحف المحرمات الأصولية وإذا لم تتحول هذه الأصولية من مشروع إلى سلطة سائدة. والحديث عن حلول ممكن منها مثلاً أن يبذل "اتحاد الناشرين" مسعى جدياً لكي يتحول إلى عامل ثقافي يساهم في معافاة الحياة الثقافية والفكرية في بلادنا، وأن يضغط في الاتجاهات التي تعيد الاعتبار للكتاب كفعالية ثقافية وأن يتجنب التحول الى "عائق" يعبر عن مصالح قيادته فقط، وأن يحول دون استقطاب يعكس مصالح لا علاقة لها بالثقافة والكتاب وتطورهما. وقد أصبحت معارض الكتاب مذ تراجعت الثقافة والحياة الثقافية، وتدهور وضع الكتاب في العالم العربي مجرد أسواق للبيع، وهي بهذا مظهر من مظاهر التردي الثقافي. وللأسف فإن أكثر من طرف يساهم في هذا التدهور: الناشر، ومنظمو المعارض وهي جهات حكومية. وهؤلاء يدفعون في هذا الاتجاه، ولا صوت مؤثراً للمثقفين في إعادة تأسيس هذه المعارض باعتبارها مهرجاناً ثقافياً وظيفته قبل كل شيء تعميق الصلة بين الكاتب والمبدع والكتاب ومستهلكيه من القراء، ومناسبة للتفاعل بينهما ولتعميق أواصر الصلة وتبادل الرأي والتعاون بين المثقفين أنفسهم. وبدلاً من أن تُعنى المعارض بإعانة القارىء لاختيار أفضل الاصدارات، يجري إغراق المساحات الواسعة التي تحتلها المعارض بعشرات آلاف العناوين التي لا تشكل إضافة ثقافية أو فكرية، بل إن النسبة الأعظم منها كتب قديمة، أو طبعات بعناوين جديدة لكتب قديمة. وأصبح من المألوف أن ناشرين كثيرين يوظفون ما تبقى من كتبهم في معرض ما ويودعونها في مستودعات خاصة انتظاراً للمعرض الجديد. ويرافق هذه المعارض ظاهرة تساهم في إضعاف الفعاليات المرافقة لها، وهي تكرار استضافة شعراء وكتاب وفنانين بعينهم في كل مرة، وربما تكرار القصائد والموضوعات والطروحات ذاتها. * صاحب دار المدى للثقافة.