بدا المشهد الثقافي السوري هذا العام وكأنه يحتاج إلى عملية شاملة للتحديث الاداري الذي يسبق، أو يتماشى مع، تحديث الخطاب الثقافي، على غرار ما سمعناه من طروحات جديدة وجريئة، هذا العام، حول ضرورة تحديث، وليس ترميم، الخطاب الاعلامي أو تحديث الاقتصاد بشكل عام، والقطاع المصرفي بشكل خاص، على سبيل المثال. كل هذه الطروحات تحتاج إلى برامج واضحة، غير خجولة، في التغيير والتدريب، فآلية الانتاج الثقافي كانت تسير بايقاع بطيء، وتعتمد على الدفع الذاتي المقنن، أكثر مما تعتمد على المبادرات الابداعية، وكانت لفترة طويلة تتجه نحو التوسع الأفقي على حساب العمق والارتفاع، مع أن الساحة الثقافية السورية بامتداداتها التاريخية كانت غنية بالتجارب والابداعات الثقافية المتنوعة والمتجددة. شمل التغيير الوزاري الذي جرى في ربيع هذا العام وزارة الثقافة للمرة الأولى منذ نحو ربع قرن، وارتبط مجيء الدكتورة مها قنوت إلى هذه الوزارة بمراجعة شاملة وسريعة لآلية العمل في كل الادارات، تبعها تغيير الغالبية من مديري هذه الادارات المؤسسة العامة للسينما، المديرية العامة للآثار والمتاحف، مديرية التأليف والترجمة، المعهد العالي للفنون المسرحية، ادارة المطبعة.... من خلال مقارنات سريعة يمكن أن نكتشف أن الصحافة الثقافية تراجعت منذ أوائل الثمانينات، وقد لا نجد تفسيراً واضحاً لهذا التراجع إلا بربطه بسنوات عجاف من التراجع الاقتصادي والأداء الروتيني ولزوم ما لا يلزم وهبوط مستوى المشرفين والمحررين والمستكتبين معاً، وتحولت بعض المجلات والمنابر الثقافية إلى أوعية مستطرقة تمتص وتتبادل ركام المحاضرات الاحتفالية والأطروحات والنوطات الجامعية والخطابية المدرسية المكررة، وانسحب الاداء الابداعي أمام الاداء البيروقراطي الموسوس والمشروط من أولئك الذين لا نجد لهم أثراً إلا في انعكاس صورهم في المرآة السحرية الفاضحة في كاريكاتير علي فرزات. وشكلت النسبة المرتفعة من المهاجرين السوريين من المثقفين والكتاب والفنانين خللاً، أو فراغاً واضحاً في نوعية الأداء الثقافي اليومي، وفي طموحات التنمية الثقافية المستقبلية، ومن المؤمل أن ترسم التوجهات الجديدة صورة مختلفة عن هذا الركود. ثار جدل واسع هذا العام حول مصير السينما السورية في الصحافة المحلية والعربية معاً، وفي ورقة العمل التي صاغها السينمائيون السوريون، وجاءت الردود والاشارات المطمئنة من خلال اقلاع بعض المشروعات السينمائية المؤجلة، وتعيين الناقد السينمائي محمد الأحمد مديراً عاماً للمؤسسة العامة للسينما، والعمل على تلبية رغبة القطاع الخاص بالغاء مرسوم حصر الاستيراد بالمؤسسة، وهو المرسوم المثير للجدل منذ صدوره في العام 1969، ومع أن الغاية المرجوة منه كانت دعم القطاع العام السينمائي، إلا أنه كان يشكل سبباً مباشراً أو غير مباشر في هبوط عدد الصالات السينمائية إلى النصف، وتردي حال هذه الصالات، وهبوط عدد الأفلام الأجنبية والعربية المستوردة إلى العشر. ومن المتوقع أن تنجز المؤسسة انتاج فيلمين روائيين طويلين خلال العام القريب القادم استعداداً لانعقاد الدورة الثانية عشرة لمهرجان دمشق السينمائي، والبدء بترميم الصالات المتعبة. وفي الجانب الثقافي من نشاطات المؤسسة بدأ العمل في اصدار مجموعة جديدة من الكتب السينمائية في سلسلة الفن السابع المترجمة، التي صدر منها سابقاً نحو ثلاثين كتاباً مختاراً من أدبيات السينما العالمية، وقد صدر للتو ثلاثة كتب في هذه السلسلة هي: "الأسس العملية لكتابة السيناريو"، تأليف هيرمان لويس، ترجمة مصطفى محرم، و"الماضي الحي" تأليف جان رينوار، ترجمة الأديب الراحل صياح الجهيم، و"علم نفس وعلم جمال السينما" تأليف جان ميتري، ترجمة عبدالله عويشق، وتمت الترتيبات لمتابعة اصدار مجلة الحياة السينمائية بانتظام بعد تشكيل هيئة تحرير جديدة. قد لا يكفي أن تقدم أعمالاً مسرحية لكي يكون المسرح حاضراًَ في قاموس الحياة اليومية للناس، يجرهم من بيوتهم. كان للمسرح القومي برنامجه السنوي المشغول جيداً إلى جانب المسرح التجريبي الذي قاده سعد الله ونوس وفواز الساجر، وإلى جانب مسرح الشوك والمسرح الجوّال، كان المشهد المسرحي غنياً بالتنويعات التي تعطي لأضواء المسرح جاذبية خاصة، أضيفت إليها أعمال جواد الأسدي لفترة من الزمن. وبعد أن تزايد عدد الخريجين منذ نهاية الثمانينات حتى اليوم، تزايد عدد العروض السنوية وانحسرت جاذبيتها معاً، ولأكثر من سبب انغلقت هذه العروض على نفسها، وكأنها موجهة من المسرحيين إلى المسرحيين أنفسهم. وشهدت مسارح دمشق هذا العام نحو عشرين مسرحية مختلفة، ولكن التميز فيها كان نادراً، ولم يكن الضعف في النصوص أصلاً، فبعضها مقتبس عن نصوص عالمية، مسرحية أو قصصية، كان اسم تشيخوف واضحاً في اثنتين منها، وكذلك اسم غوغول، في "المعطف" و"يوميات مجنون". إن تزايد عدد المخرجين والممثلين ومحدودية صالات العرض وفرص العمل من الأسباب التي رسمت هذه الحال المتكررة في كل المواسم الأخيرة، التي اتسمت بالسرعة الخاطفة في الانجاز والعرض والانسحاب، والسرعة في تشكيل فرق مسرحية صغيرة واختفائها. أما حركة النشر في سورية منذ التسعينات بظهور دور نشر جديدة تتجاوز السوق المحلية من خلال اشتراكها بمعارض الكتب العربية الموزعة على مدار السنة، إلى جانب المعرض السنوي الذي تقيمه مكتبة الأسد بدمشق في خريف كل عام، وتركز منشورات اتحاد الكتاب العرب اهتمامها الأساسي على نشر مؤلفات أعضاء الاتحاد، بينما تتجه مطبوعات وزارة الثقافة إلى التنوع والموازنة بين التأليف والترجمة، وتتوزع أكثر هذه المطبوعات، التي تتجاوز مئة كتاب سنوياً، إلى سلاسل خاصة روايات وقصص عربية - تراث عربي - قصص للأطفال واليافعين - شعر عربي - روايات عالمية - علوم - وغيرها، وتبرز بينها سلسلة الروايات العالمية المنقولة عن لغات أجنبية متعددة، مما قد لا نجده بشكل متوافر ومنتظم في العواصم العربية الأخرى، باستثناء القاهرة. في الشهر الأخير من العام الأخير في القرن العشرين تستعد أحزاب الجبهة في سورية لاصدار صحفها الخاصة التي ستحمل خطابها الاعلامي والفكري والثقافي، ومع اهتمام الكتاب والقراء بتعدد المنابر الثقافية، إلا أن هذه المنابر قد لا تستطيع أن تقدم إلا ما عرفناه عنها من ثقافة الخطابة الاستهلاكية في المدى المنظور. وكان الغياب المفاجئ للرئيس حافظ الأسد في 10-6-2000 انعكس على كل مظاهر الحياة في سورية، وتوقفت النشاطات الثقافية المختلفة طيلة فترة الحداد.