إطلاق اسم "الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز" على طريق المطار بالمدينة    خطى ثابتة لمستقبل واعد    ماراثون المشيخة العشائرية.. من يوقفه    لويس إنريكي: رغم الإصابات... باريس سان جيرمان أكثر ثقة من الموسم الماضي    قبل لقاء الاستقلال.. غياب رونالدو عن تدريبات النصر    الإعلام في مهرجانات الإبل والهجن من صوت التراث إلى صناعة المستقبل    وفاة الممثل والمخرج الأمريكي روبرت ريدفورد عن 89 عاماً    السعودية والمملكة المتحدة تطلقان شراكة دولية كبرى لدعم الأمن البحري اليمني    مجلس الوزاء يوافق على عدة قرارات ويجدد الدعم لفلسطين وقطر وسوريا    أمام مجلس حقوق الإنسان.. المملكة تدين الاعتداء الإسرائيلي على سيادة قطر    ولي العهد يستقبل أمين مجلس الأمن القومي الإيراني    جائزة العمل تواصل تحفيز القطاع الخاص وتعزيز بيئات العمل    الوزير الحقيل: الهبات العكسية مؤشر على نجاح رسوم الأراضي البيضاء.. والتقنيات الحديثة تختصر الرصد من 18 يومًا إلى ساعات    إنجاز عالمي.. "برق" تتوج ب 3 جوائز من Visa خلال مؤتمر Money20/20    الوقوف في الأماكن غير المخصصة مخالفة مرورية تعطل انسيابية السير    القيادة تهنئ رئيسة الولايات المتحدة المكسيكية بذكرى استقلال بلادها    سلمان بن سلطان يفتتح منتدى المدينة للتعليم    "طوّر مسيرتك المهنية" لمساعدي الأطباء وأخصائيي صحة الأسنان    مستشفى قوى الأمن بالدمام يحصل على المركز الأول في جائزة أداء الصحة بمسار الأمومة والطفولة    40 طبيبا يبحثون أحدث طرق علاج أمراض الدم بالمدينة    زين السعودية تستثمر في قطاع التأمين الرقمي مع شركةPrevensure العالمية    مرايا غامضة تظهر في مختلف المدن السعودية... ما الذي تعكسه؟    بيئة الرياض تتلف 3 أطنان من اللحوم غير الصالحة وتضبط 93 مخالفة في سوق البطحاء    "موسم الرياض" يشهد أضخم حدث لكرة القدم الأميركية بنظام العلم    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    النقل تفرض غرامات وحجز المركبات غير النظامية    الراجحي الخيرية تدعم مصابي التصلب المتعدد ب50 جهازاً طبياً    2.3 % معدل التضخم    أمير القصيم يزور محافظة البدائع ويلتقي المواطنين ويطلع على مشاريع تنموية تفوق 100 مليون ريال    سوريا.. ضبط شحنة أسلحة معدة للتهريب للخارج    السلوك العام.. صورة المجتمع    الأرصاد: حالة مطرية بمحافظات مكة حتى الجمعة    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    مجرفو التربة في قبضة الأمن    أعلنوا رفضهم للاعتداء على قطر.. قادة الدول العربية والإسلامية: ردع إسرائيل لحماية أمن واستقرار المنطقة    الوحدة يصعق الاتحاد في الوقت القاتل    يستعيد محفظته المفقودة بعد 51 سنة    «قدم مكسورة» تدخل تامر حسني المستشفى    ظل الماضي    الإسراف وإنفاق ما لا نملك    متقن    في مستهل مشواره بدوري أبطال آسيا للنخبة.. الهلال يستضيف الدحيل القطري    الحوثي يستهدف مطار رامون والنقب ب 4 مسيرات    صراع المناصب يهدد الاتفاق الأمني في ليبيا    الخرف الرقمي وأطفالنا    الخرطوم تنتقد العقوبات الأميركية على مواطنين وكيانات سودانية    لبنان يوقف عملاء لإسرائيل ويفكك شبكة تهريب مخدرات    الفيصل رئيساً للاتحاد العربي    التحالف الإسلامي يطلق في العاصمة القُمريّة دورة تدريبية في محاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب    جامعة الملك سعود تُنظّم الندوة العالمية لدراسات تاريخ الجزيرة العربية    دراسة أسترالية: النظام الغذائي يحد من اضطرابات النوم والأمراض المزمنة    تكريس الجذور واستشراف للمستقبل    عزنا بطبعنا    أمير القصيم يطّلع على التقرير السنوي لأعمال فرع هيئة الأمر بالمعروف    «الشؤون الإسلامية» توقّع عقودًا لصيانة وتشغيل 1,392 مسجدًا وجامعًا خلال الربع الثالث لعام 2025م    رئيس الوزراء السوداني يغادر المدينة المنورة    نائب أمير تبوك يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة    المفتي يستعرض جهود وأعمال الدفاع المدني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية المصرية الجديدة : إشارات عدة إلى التاريخ... إشارة واحدة إلى لمستقبل
نشر في الحياة يوم 26 - 01 - 2000

كان من الممكن، لو أردت أن اساير موجة الإدعاء السائدة أن يكون العنوان في صيغة "الرواية العربية الجديدة"، لكن عدتي المعرفية، كما هي عليه، أصغر من ذلك الطموح، فعلى رغم انني تربيت على كوني عربياً منذ نعومة اظافري، لكن هذا لا يبرر لي أي ادعاء، ففي بلدي التي وفدت منها إلى العالم، هناك في جنوب مصر يمكن أن تقع مشاكل كبيرة لو أن شخصاً رمى شخصاً بأنه غير عربي، كما أنه من مصلحتي الشخصية جداً ان تكون ساحة لعبي ممتدة إلى المحيط الأوسع، على الأقل، على أمل أن يكون عدد المتعاملين مع كتبي أكبر.
أقول هذا لأنني احس بالشوفينية الاقليمية وقد بدأت تطل برؤسها هنا وهناك، لكن عدتي المعرفية هي التي تجبرني، وأنا احاول أن اكون اكثر دقة، على الكلام عن ساحة اعرفها جيداً، هكذا أظن، حتى لو اسقطت من اعتباري عدداً من الاعمال أو حتى الاشخاص الذين لا يثيرون اهتمامي، كونهم كتاب روايات اساساً، لأنني حين أعود الى ذائقتي، منطلقاً من موقفي الراهن، هنا والآن، وهيا ندخل الى صلب المسألة فإنني أكاد أشعر بالملل من ادعاءات اكاديمية مزعومة بثت الاسماء والاعمال التي يزعم بعضهم انها البدايات الاولى للشكل الذي نصفه الآن بالرواية. وخطورة هذا انه يجر الى وصف ما يستند الى هذا النموذج، حتى في وقتنا الراهن، بالرواية.
لا أجد أبداً في هذا العمل الشهير جداً، المسمى "زينب" أي رائحة من روائح الرواية، بل إنني اصاب بالحمى حتى، وأنا ارى مؤرخي الادب انفسهم يتجاهلون الوصف الذي وصفها به صاحبها، وكان رجلا على درجة كبيرة من الامانة والنبل بالمناسبة، ووضعه تحت العنوان، وقال إنها، أي زنيب، صورة ريفية.
فالرجل الذي كان خبر بحكم ثقافته الاوروبية المتينة، ما هي الرواية، نراه الآن اكثر بصيرة من الذين ربما يجدون في كلامي هذا رغبة متهورة في تجريدهم من مدخل اللعبة.
فلعبتهم المصبوبة في قالب، لا بد، دوماً، أن تبدأ من فرضية تاريخية، وإذا لم يجدوا هذا المدخل اختلقوه، حتى ولو حمل الموضوع افتئاتنا، ومؤرخو الرواية المصريون بالذات، مصابون بمرض الريادة، التي لا بد أن تأتي منهم، و"حتى لا يسبقنا أحد فإننا نفتئت على الحقيقة".
لكن المشكلة في تصوري المتواضع أبعد من ذلك بكثير: لا أحد منا يريد ان يعترف بأن التطور الاجتماعي، الحراك الاجتماعي الذي عشناه، ولنقف عند بداية العشرين، او نهاية القرن التاسع عشر، مر، على رغم النفحات التي استعارها من اوروبا بمسار مختلف عما جرى هناك في هذه الاوروبا، ما يترتب عليه، أنه ليس بالضرورة أن تكون الصورة الآن، وهنا، هي الصورة نفسها التي كانت هناك، وفي الماضي.
من هنا، فإنك لن تجد بالقطع هناك من يكتب بطريقة بوكاتشيو في نهاية القرن العشرين، لكنك ستجد بالقطع هنا، في مجتمعنا، مجتمع الموازيك، من يكتب بطريقة المنفلوطي أو أبو العتاهية، في العام الاخير من هذا القرن العشرين، كما يمكنك أن تجد كاتباً ثورياً جداً، طليعياً جداً، ومجدداً حتى، لأننا نعيش في مجتمع الموازيك، حيث تتحاور ولا اريد أن اقول تتصارع، لأن هذه مسألة أخرى المزخرفات، الرديء منها والجميل، العصري والقديم، مرة اخرى الطليعي والمتخلف.
وأظن اننا اليوم ونحن نعيش الايام الاولى من العام الاخير من القرن العشرين هذا وأنا احسب نهايته بنهاية العام ألفين استيقظنا على أن القرن الثالث لم يبدأ بعد، واننا لا نزال في العام الاخير، ومع هذا الاحساس باليقظة يأمل المرء ان نكون ادركنا الآن أن هذا الافتئات على النوع الذي كان ولا يزال يقوم به مؤرخو الادب عندنا، هو نابع من عدم الاحساس الحقيقي بالزمن الذي نعيشه.
هذا الزمن المصري - العربي الذي يجري بين اعيننا، ليس خالصاً بما فيه الكفاية ليكون نبع التطور الذي وصل اليه، مساوياً أو مناظراً للتطور الذي حصل، مرة أخرى، في اوروبا، بالضبط، ولأن اصداء الغرب عندنا هي الاقوى بحكم ما تعرضنا له من نفحات ثقافته، نتوهم بأننا في مرآتنا صورة متخيلة أو موهومة، وقلما نحاول تلمس صورتنا في مرآة ذاتنا.
لا يمكنك أن ترى لتعاقب المدارس الادبية الغربية، او على الاقل منطق تطورها، صدى مشابها عندنا، لذلك اصاب باندهاش حين اجد كاتباً او رساماً يصف نفسه بأنه تعبيري أو رمزي او سيريالي أو انه يريد ان يكون هكذا، لأنه معجب بالتعبيرية او الرمزية، وبدلاً من ان يتحقق من ذاته فإنه ينظر في مرآة الآخر، وهذا لا يمنع ابداً ان يتأثر بهذه المدرسة أو تلك، لكنه بالتأكيد حتى ولو اشتد تقليده الى درجة التطابق الظاهري، فإنه لن يكون من هذه المدرسة، انما هو اما مسخ، او مستفيد، وفي كلتا الحالتين ليس الآخر، ولا يمكن ان يكون.
واذا افترضنا حسن النية، وافترضنا الرغبة أو بالأحرى القدرة على التعلم فإن المحصلة أو النتيجة هي ان افضل تلامذتنا الاستاذة هم خليط من كل التاريخ، بما فيه تاريخنا، بما فيه تراثنا، لذلك فإن نتاجهم شيء آخر، أنا أزعم أن منطقه بعيد عن منطق المدارس الغربية المتعاقبة، أي ببساطة شديدة جداً: ليس لدينا مدارس ادبية أو فنية بالمعنى الغربي لأن تطورنا، لأن نهضتنا تزيداً قائمة على منطق آخر، بحكم المعطيات غير المنطق أو هل نقول التاريخ او هل نقول واقع التطور الذي جرى هناك في الغرب.
ليس لدينا طبقات بالمعنى الغربي لأن تطورنا الاقتصادي الاجتماعي لم يمر بالمراحل التي مر بها التطور الاقتصادي الاجتماعي الذي مر به الغرب، وليس لدينا علمانية لأنه لم تكن عندنا كنيسة غربية اقطاعية ومستبدة.
وعلى رغم أن مؤرخينا الأفاضل غالباً ما يبدأون بهذه المقولة "ليس لدينا مدارس ادبية أو فنية" بالمعنى المذكور، الا انهم ويا الغرابة، يعودون حين الكلام في التفاصيل إلى تلك المدارس الغربية، أو بالاحرى يستخدمون مصطلحات تلك المدارس في ما لا يصح ان يستخدموها فيه، لان النتاج مختلف.
"للمأساة هنا طرفان: المبدعون والمؤرخون.
المبدعون لانهم يخلطون بين اعجابهم المشروع ببعض المدارس، و... امكان الانتساب اليها، على رغم أنهم خارج الزمان والمكان: أي خارج السياق.
والمؤرخون لانهم يصرون على الوقوع في الخديعة على الامساك بالمصطلحات التي قد يصح استعمالها هناك، لاستخدامها هنا.
ما الموضوع اذن؟ ما القضية؟
الموضوع ببساطة هو اولاً واخيراً وجوب الاقلاع، التخلي، حين التعامل مع الاعمال الابداعية المصرية - العربية نفسها، عن المصطلح الغربي تماماً، ونهائياً، ومرة واحدة، وبالتالي البحث عن مصطلح نابع من تأمل هذه الاعمال الابداعية نفسها، وربما اكتشفنا ان منطق تطور او تعاقب الرواية المصرية العربية مثلاً منطق مختلف تماماً، لأن مسار التاريخ، امكانات الافراد، الحراك الاجتماعي، كل هذا له منطق مختلف، قد يكون هناك تأثر لكن النتيجة، بحكم المنطق، مختلفة.
من هنا فإن الزعم، مثلاً، بأن الغنائية اللفظية التي سادت في الادب الخطابي العربي، وفي ما يسمى بالمقامات خاصة، هذه الغنائية اللفظية يمكن العثور على اثرها بقوة في اعمال نابهة كرامة والتنين ادوار الخراط أو الطوق والاسورة يحيى الطاهر عبدالله وهو زعم يمكن فهمه في سياقه، وهو على أي حال ليس أمراً معيباً لو توخينا منطقنا الشرقي، وإن كنت شخصياً لا احبذ الوصول بالغنائية الى حد اللفظية، وبهذا المنطق الذي أتوخاه، فإنه يمكننا أن نقول بكل اطمئنان ان اعمالاً مثل "سارة" أو "دعاء الكروان" أو حتى ابراهيم الكاتب وأعمال نجيب محفوظ الفرعونية يمكن اخراجها من سياق نوع الرواية من دون ان ينتقص هذا من قيمة أي من هؤلاء الكتاب الكبار.
تماشياً مع هذا المنطق، من الضروري، بالتالي اعادة النظر في تاريخ الرواية المصرية، والنظر الى كثير من الاعمال والاسماء باعتبارها/ باعتبارهم مرحلة وسط بين المقامة والرواية، أي ان مكنسة التاريخ الضرورية يجب ان تقوم بعملها هنا حتى نصل الى الجوهرة الاولى.
الجوهرة الروائية الاولى هنا قد تكون احد اعمال نجيب محفوظ، لا قبله ابداً، او ربما تكون "قنطرة الذي كفر" مصطفى مشرفة ايضاً، لكن ليس اقل، وهذا عمل المؤرخين على أي حال، خصوصاً أن ذائقتي الروائية صعبة جدا، وهذه مسألة شخصية جدا.
سيقال هنا، وتماشياً مع السياق، وما الرواية إذن؟
واظن ان الرواية كفن وهي في رحلة سعيها نحو الاستقلال عن فنون القول الاخرى: المقامة، والحدوتة، والحكاية، والصورة الوصفية، والملحمة الشعبية ألف ليلة مثلاً اكتسبت استقلالاً يميزها عن كل هذه الاشكال، وإن كنت ارى في الدعوة الاخيرة الموسومة ب"الكتابة عبر النوعية" خطراً شديداً على ما حققته الرواية عبر رحلة كفاحها من استقلال، لذا فإنني أرى في هذه الدعوة، مع احترامي لنوايا اصحابها الحسنة، أنها دعوة خطرة على مستقبل الرواية في مصر بالذات، كما هو خطر شيوع المفهوم الخاص التقليدي للرواية الذي ساهمت السينما المصرية الشعبية في انتشاره حين طلبت وتطلبت مقتضيات صناعتها ثبات "نموذج" واحد هو الذي افتضى ضرورة ان تكون، حدوته أو حكاية لها وسط ولحظة تنوير ثم نهاية سعيدة في الغالب حتى يخرج المتفرج سعيداً من القاعة المظلمة.
يحكي لنا نجيب محفوظ في احدى جلساته في مقهى ريش حوالي العام 1979، انه حين نشرت "زينب" محمد حسين هيكل في جريدة "السياسة" لطفي السيد قامت معركة بالعصي الغليظة النبابيت في ميدان العتبة، بين المحافظين الرافضين تصوير البشر على الورق! والعصريين في حينه الذين رأوا ان هذا الشكل الجديد هو عمل مشروع، فلم يكن وجود الرواية كجنس ادبي في صلب الادب العربي سهلا على الاطلاق، ومن يريد الاستزادة عليه ان يعود الى كتاب عباس العقاد "في بيتي" وكتابات أخرى وأحاديث عبر فيها جميعاً اظن مسايرة لأغلبية المجتمع في حينه عن احتقاره للرواية مقابل الشعر الذي كان لا يزال يدعى ب"ديوان العرب" أي سجل حياتهم، لكن الرواية التي لطخ وجهها بالوحل، وتعرض رائدها نجيب محفوظ للقتل استطاعت ان تعبر عن استقلالها ووجودها وتقدمها.
أكدت سابقاً على القوام البناء لأنه وعبر رحلة الكفاح هذه كان مشروعاً للروائي سابقاً ان يبدأ عمله ب"فرشة" انشائية يصف فيها الطبيعة او الاجواء العامة كمقدمة ليمهد للدخول في الموضوع كما كان الظن، ومع مرور الزمن، وجهد الروائيين، واحداً بعد الآخر، اضحى هذا تزيدا ينتقص أولاً من قيمة العمل، وثانياً من قيمة الكاتب ودرجة وعيه، وثالثا من ذكاء وخبرة المتلقي الذي اضحى مع حصيلته من آلاف الاعمال، اكثر وعياً بالفن الخالص، بالرواية الخالصة، كما اظن.
إن هذا الاستخلاص لجوهر الرواية يقتضي ان لا نتزلق في مرض سائد، خصوصاً هذه الايام، هو الانطباعية، بل وبسبب من الوعي المتين بضرورة التخلص من الزوائد اضحى القارئ الواعي يستهجن الانطباعية في الادب وهو ما عجل بنهاية دعوة الواقعية الاشتراكية وان لم ينه ايماني الشخصي بالديموقراطية الاشتراكية على المستوى السياسي ببساطة لأن المشاعر العاطفية مهما كانت صادقة لا يمكن ان تكون طريقاً للبناء والاستمرار، ولأنها لا يمكن، مهما خاطبت فينا غريزة العاطفة او الحزن، ان تمكن من ابداع فن متين. ومع احترامي الشديد لنتاج يوسف ادريس القصصي فإنني أجد في معظمه مقدمات نبهنا معلمنا يحيى حقي إلى أنه كان من الممكن الاستغناء عنها نفيها، وكان هذا سيزيد هذه الاعمال قوة وصلابة، وحتى لا يرميني أحد بالاغتياب عبرت عن هذا الرأي في حياة يوسف ادريس وقامت معركة في حينه حول القضية.
من جهة اخرى فإن الروائي، في النهاية، ليس مجرد صانع او حرفي، لكنه كاتب أي ان اداته الاولى هي اللغة، وهذه هي ربما اكثر المشاكل وأهمها، وهي التي تقول بالفرق بين الكاتب الموهوب والكاتب المصطنع.
لكن اللغة نفسها، بالنسبة إلى الروائي، في تطور دائم، كما انها ليست صنعاً مقدساً، بل هي ايضا مجال التجريب الاول حتى يكون لكتابته مستوى من القيمة الادبية ولا اعرف لم لا تعود الكتابة عن "طبقات الكتاب" وهو منهج عربي تراثي كما هو مشهور.
وإذا كانت أسرار اللغة يمكن تعلمها من النصوص، من الكتب، الا ان روحها المتجددة لا يمكن التقاطها سوى من لسان الناس، من حياتهم، من ما وصلت اليه وهي تعبر عن تطورها ذاته بمرور الحياة.
عرفت روائيين تمتعوا في بداية حياتهم بالموهبة، لكن عدم انتباههم إلى مشكلة اللغة هذه، وعدم تشربهم روحها، أدى بهم الى ان يصطنعوا نصوصاً لا قيمة لها، هي مجرد حكايات عاجزة عن ان تكون في سياق القيمة الادبية، وكم رأيت منهم من هجر الكتابة، او تعافى عليها، وكانت النتيجة واحدة: صاحب الموهبة محظوظ حق وهو يتلفت مبكراً الى ادائه الاولي ليصغى الى ايقاعها يستنشقها يلمسها حتى تسكن روحه، فنستطيع بدورنا ان نلمسها، نتذوقها، نشمها وتسكن في روحنا.
بالقطع لا احب ان اكون سبباً في اشاعة روح اليأس في اي نفس محب للاشتغال بالكتابة، كما انه ليس في مقدور احد ان يمنع احدا من تسويد الصحفات بالحبر، لكن هذا يجب ان يكون في حدوده، يعرف مستواه وقيمته.
لذا حين اشير الى كثير من الروايات المصرية المعاصرة وما اصابها من تدن في مستواها اللغوي تحت حجج عدة، اصاب بخيبة أمل في مواهب كان يمكن ان يكون لها مستقبل، لقد ساهم البعض تحت حجة "الحساسية الجديدة" مثلا بدفع عدد لا بأس به من هذه المواهب الى طريق الضلال، الى عدم الالتفات إلى أن الروائي وقبل ان يكون أي شيء هو كاتب عدته اللغة مما ادى إلى فرط الكثير من النصوص التي تشتم منها رائحة موهبة يحدوها الضياع. وحين أشير أخيراً الى الملاحظة التالية فإنني لا اقفز على الواقع، وانما هذه الملاحظة، نابعة من متابعة دقيقة لجل ما يكتب الآن في مصر بالذات من روايات وقصص، هذه الملاحظة تنصب على هذا التقليد الشديد لثلاثة من الكتاب اضحوا نموذجاً يحتذى الآن في مصر هم خورخي لويس بورخيس وميلان كونديرا الصرعة المشكوك فيها وايتالو كالفينو.
ومهما كانت متانة اعمال السيد بورخيس والجميع تقريباً قرأوا اعماله مترجمة فإنني لا أرى انه يمكن تعلم شيء منه في مجال الرواية، بقدر ما يمكن تأمل نظرته إلى الحياة.
اما السيد كونديرا فبقدر اعجابي بأفكاره النظرية خصوصاً عبر كتابه "فن الرواية" الا انني اجده متناقضاً تماماً. فنصوصه الروائية نقيض كتابته النظرية، لذا أجده كاتباً مضللاً.
لكن ايتالو كالفينو يبقى المشكلة الاكبر، لأن قدرته على غزل نسيج نصوصه هي فعلا قدرة مبهرة، لكنني لست متأكداً من كونه روائياً او قاصاً على الاطلاق.
ويمكنني بشجاعة يفرضها السياق ان اعتذر إلى هؤلاء الكتاب المشاهير جميعاً، بداية لأنني لم اقرأ اعمالهم في لغتها الاصلية، وجميعنا يعرف ما ترتكبه ايدي مترجمينا من جرائم وهي قامت كثيراً وطويلاً بتعريب، لا ترجمة، اعمال عظيمة، فخلّتها من روح الاصل، بل حولتها الى مسخ، وليس اقل من ان اذكر في الخاتمة رواية عظيمة لروائي عظيم ومعلم، روائي حتى النخاع هو جيمس جويس وروايته العمدة "يوليسس" التي عبث بها وتحولت بعد عجنها بالتعريب الى نص آخر، ربما انتمي الى مترجمها الاستاذ الدكتور محمود طه صاحب النية الطيبة والجهد العبثي الطويل الذي اقتضى منه ان يضحي بكثير من ماله وسنوات عمره، لكنه بالتأكيد لم يقدم لنا الاصل، على الاقل لأنني اعرف ذلك، ومتأكد منه تماماً.
لكنني في الختام، كما آخذ الاخرين بالشدة، فإنني آخذ نفسي بالشدة نفسها، وما أنا متأكد منه ان الرواية المصرية الجديدة تعيش الآن ازهى فترات عطائها، وهذا موضوع آخر، يحتاج إلى مساحة اخرى، ربما توفرت في المستقبل.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.