لم يكن ينقص الأكراد في تركيا سوى أن يصعد الى سدّة الحكم قوميون متطرفون يختلفون في ما بينهم في الكثير من الأشياء باستثناء انكار الهوية القومية للأكراد. والحال أن ما يجمع بولند أجاويد، اليساري، ودولت بغجلي، اليميني، هو نزعتهما القومية الطاغية، واستنادهما، في مقاربة أوضاع تركيا، الى منظور صارم يضع الانتماء الى العرق والقومية فوق كل مقام. انهما يلتقيان هناك حيث تعتبر تركيا بلداً للأتراك وحدهم ويترتب على أبناء القومية الكردية الذوبان والانصهار وتبني القومية السائدة. وهذا التقارب في النظرة الى الأشياء هو الذي وقف خلف صعود سهم الاتجاهين لدى الغالبية من الناخبين الأتراك، أولئك الذين قرروا أن يرفعوا بهما من أسفل السلّم السياسي الى قمته. فحين تطفو مسألة الحس القومي التركي الى السطح لا يعود التمايز، بين يمين ويسار، سوى اختلاف تفصيلي في طريقة تجسيد ذلك الحس وترجمته الى واقع معيوش. جاء هذا التحول في المشهد السياسي التركي، وكذلك في مزاج الرأي العام، في أعقاب حادث مسّ العصب العرقي التركي مساً قوياً، نعني بذلك حادث اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، وجلبه مقيّداً الى تركيا لمحاكمته. فقد هاجت العواطف وماجت في مجرى الحدث، وذهبت المشاهد التي رافقته ذهاباً كبيراً في تأجيج المشاعر القومية التركية. كما دفع الإعلام التركي نحو إثارة مكامن الغرور والتحدي بعد أربعة عشر عاماً بدا خلالها الزعيم الكردي، في ادارته للصراع المسلح مع الجيش التركي، بمثابة متمرد منفلت من العقال لا يكف، في كل لحظة، عن إذلال تركيا وقهرها واظهارها، هي صاحبة ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، بمظهر العاجز عن الحاق الهزيمة بمجموعة من المقاتلين المنتشرين في الجبال الكردية جنوب شرقي البلاد. ومذ بدأ الحزب العمالي الكردستاني الكفاح المسلح في آب أغسطس 1984 تناوبت على مقاليد الحكم في تركيا غالبية الأحزاب الرئيسية. ووعدت جميعها بإنهاء الصراع والقضاء على النشاط العسكري، والسياسي، للحزب الكردي واعتقال زعيمه. ولكنها فشلت في ذلك مثلما فشلت في ايجاد حل سلمي للمسألة الكردية. بل تفاقمت الأمور يوماً بعد آخر ووصلت حداً صارت تركيا فيه تنوء تحت ثقل الخسائر الباهظة في المال والأرواح. وفي أثناء ذلك جاهدت الدعاية الرسمية التركية في تصوير التمرد الكردي في هيئة مؤامرة خارجية تحركها أيد أجنبية بغاية تقسيم تركيا وانهاكها واستنزاف قواها وهدر مواردها. وجرى رسم المقاتلين الأكراد في صورة خونة وارهابيين يسعون في اثر تخريب البلاد ويضمرون العداء للشعب التركي ودولتهم. ومع اشتداد الصراع واستفحال آثاره الكارثية بدا كأن تركيا دخلت نفقاً مظلماً لا تلوح له نهاية. وتحول الأمر الى هاجس ثقيل ومؤلم مع مناظر الدمار والخراب وقيام السلطات بتهجير السكان الأكراد من مناطقهم واحراق قراهم ومزارعهم وتكاثر عدد القتلى والجرحى في الطرفين. وتصاعد التذمر في صفوف السكان، من الأتراك والأكراد، ازاء عجز الحكومة عن ايجاد حل. والأسوأ من هذا ان زعماء الأحزاب السياسية التي تناوبت في الامساك بزمام الحكم، انغمسوا في صراعات هامشية وتورطوا في الفساد وانكشفت علائقهم بالمافيا والعصابات المتطرفة وأقطاب الجريمة المنظمة. وفي واقع كهذا قويت الحاجة الى أيد جديدة تدير الأحوال بتدبر وتقود البلاد نحو الأمان. وهكذا بدت الآذان ترتاح لسماع الصوت الجديد الذي كان يمثله القوميون الغلاة الترك، في اليمين واليسار، والذين ما برحوا ينادون بحكومة مركزية قوية وصارمة تنقذ تركيا من مأزقها وتخلصها من ضعفها وتعيد اليها القوة والاعتبار والاستقرار. وكان بولند أجاويد، حين أمسك بدفة الحكومة المؤقتة، في الفترة الماضية، أخذ على عاتقه تحقيق أشياء في هذا السبيل. وهو شرع في خوض حملة ماراثونية لمطاردة زعيم حزب العمال الكردستاني بدأت بتهديد سورية والتلويح بضربها إذا لم تطرد الزعيم الكردي من أراضيها وانتهت بمحاصرته في كينيا واختطافه وسوقه عنوة الى تركيا. ويحتفظ الأتراك بصورة زاهية لأجاويد. فلم يرتبط اسمه من قبل بالفساد والفضائح المالية التي ما برحت تطفو على وجه الساحة السياسية التركية. وهو يعتبر، في الذاكرة التركية، "فاتح قبرص" ومنقذها حين عمد الى اجتياح الجزيرة بجيش كبير عام 1974 وأقام فيها، بالقوة، "جمهورية" تركية مستقلة. والآن أسبغ عليه لقب "قاهر آبو" وآبو هو لقب عبدالله أوجلان، فهو الذي تمكن، من دون سائر الزعماء الأتراك، في النيل من الزعيم الكردي والايقاع به والقاء القبض عليه بعد أن فشل الجميع في ذلك. ويمتلك أجاويد تصوراً خاصاً به ازاء الوضع الاقتصادي التركي والعلاقة مع دول الجوار وكذلك مسألة الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. كما أنه يطرح "برنامجاً" لحل "مسألة جنوب شرقي البلاد" وهو الاسم الرسمي الذي يطلق على المسألة الكردية في تركيا يقوم في اعتبار الأمر نابعاً من التخلف الاقتصادي والاجتماعي المريع الذي يعيش فيه الأكراد وضرورة القيام بتطوير المنطقة والقضاء على نفوذ زعماء العشائر والبكوات ومالكي الأراضي الكبار وتحقيق اصلاح زراعي هناك. ولكن أجاود يرفض وجود مشكلة كردية في تركيا وهو ينظر الى عصيان حزب العمال الكردستاني من منظور قومي تركي صرف ويعتبره خطة أوروبية، وأميركية، تهدف الى تأسيس دولة كردية. وعند هذا المنعطف تلتقي "أفكار" أجاويد مع تلك التي يطرحها اليمين القومي المتطرف الذي يجسدها حزب الحركة القومية بزعامة دولت بغجلي. وفي وقت يفضل فيه أجاويد اتباع أسلوب الانتظار والبال الطويل في معالجة الموضوع الكردي فإن الحركة القومية تدعو الى السرعة والحسم. ويركن أجاويد الى خطاب اجتماعي واقتصادي على خلفية علمانية اما اليمين فإنه يتمسك بخطاب ايديولوجي مسنود الى المشاعر العرقية ومغلف برداء ديني ديماغوجي بحت. وفي الحالين فإن انتخاب الأتراك للقوميين من اليمين واليسار اشارة الى توقٍ للماضي التركي المستقر حين كانت الحركة الكردية مسحوقة بالكامل ونوستالجيا الى نزعة طورانية وهيمنة شاملة وعطش الى اعتزاز بالنفس وشعور بالعظمة ونشدان حلم قومي لذيذ يقوم "أعداء" بمحاولة تبديده. ويجري المزج بين ما هو قومي وعرقي ووطني ويتم التوسل بالدولة لتحرس هذه الأشياء وتذود عنها لا أن تفصل في ما بينها وتكبح جماحها. كذلك يجري الغرف من قاموس خصب من العواطف الجيّاشة المتأرجحة بين القلق والأمل. ولا يستنكف أحد عن اللجوء الى الخرافة والميثولوجيا لتغذية تلك العواطف وسقي جذورها. وإذا كان اتباع أجاويد يفضلون اتباع أساليب القمع الفكري وإسكات الأصوات المخالفة من خلال المنع والحظر والملاحقة القانونية فإن أنصار اليمين المتطرف، أولئك الذين يعتزون بتسمية أنفسهم "الذئاب الرمادية" تيمناً بالذئب الذي أنقذ الأتراك التائهين في آسيا الوسطى، كما تقول الأسطورة لا يترددون في اغتيال الناشطين من القوميين الأكراد وارتكاب جرائم القتل السياسي بحق الكتاب والمثقفين ودعاة حقوق الانسان والصحافيين المنادين بالجهر بحقوق الأكراد. والحال ان هذا المناخ العنصري، المتجهم، هو الذي يدفع بالأكراد أكثر نحو التمسك بهويتهم والذود عن مطالبهم. وقد حدث ما يشبه الاستقطاب في الانتخابات بين الاتجاهين التركي والكردي. وفي حين راح الناخب التركي نحو المتطرفين قومياً من الأحزاب التركية فإن الأكراد اندفعوا صوب الحزب الوحيد الشرعي الذي يدعو الى حل المسألة الكردية. وهكذا فقد تهيأ خط بارز يفصل بين "الشعورين" التركي والكردي. وهو أمر يوضح عمق الأزمة التي يعيشها المجتمع التركي والفشل في تهيئة مناخ من التسامح والتعايش يستطيع فيه الطرفان التعبير عن نفسيهما بحرية وأمان. وإذا كانت الانتخابات التركية الأخيرة أظهرت حيوية الناخب التركي وتقلب مزاجه من حال الى حال فانها أشارت في الوقت نفسه الى ان هذا الناخب قد يختار الحل غير المناسب، وفي الوقت غير المناسب، لمشكلة ما برحت تنخر جسم المجتمع التركي. وفي حين يذهب العالم نحو التفاهم والحوار والحس الليبرالي والانفتاح على الآخرين ورفع الحظر عن حرية الرأي واللغات والثقافات، فقد شاء الناخب التركي ان يلوذ بحكم يتمسك بأهداب التعصب ويتلذذ بقمع القوميات وسحق الثقافات ووأد اللغات. وفي مرة مقبلة، حين يدرك الناخب التركي انه أخطأ فيعدل عن خطأه ويختار حكاماً معتدلين يسوسون باللين والحوار يكون قد اختار الطريق الأسلم. والأمل ان لا يكون الوقت الذي يفصل عن ذلك المآل زاخراً بمزيد من الآلام والأحزان ولا يكون حال الكردي حال من يستجير من الرمضاء بالنار. * كاتب كردي عراقي.
