لعل أكبر تغيير أحدثته الثورة الإسلامية في إيران هو الدمج بين رجال الدين والسلطة وإنهاء القطيعة التاريخية الطويلة بين الاثنين، حيث كان رجال الدين الشيعة يأنفون من الاقتراب من الحاكم، فضلاً عن تولي السلطة، إلى درجة كان فيها بعض الحكام الشيعة يجبرون الفقهاء على تولي منصب القضاء بالقوة، والتهديد بحبسهم إذا لم يستجيبوا. ولا يزال كثير من رجال الدين في الحوزة العلمية في قم يفضلون حياة الزهد والعزلة أو الفرار من الحكومة إلى درجة دفعت الإمام الخميني الراحل وخليفته المرشد الحالي السيد خامنئي إلى التوصل إليهم بالتعاون، والطلب منهم أكثر من مرة سدّ شواغر القضاء، ومهاجمة السلبيين منهم. أما رجال الدين الثوريون بقيادة الإمام الخميني فلم يقتربوا فقط من السلطة، وإنما قاموا بالاستيلاء عليها بالكامل، وأنهوا بذلك حالة الفصل بين الدين والسياسة، أو مزجوا بينهما مزجاً كثيفاً بإعطاء الفقيه كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وجعلوا له الولاية المطلقة. وقبل أن يأتي رجال الدين إلى السلطة قبل عشرين عاماً. كانوا يتمتعون بسلطة معنوية ودينية كبيرة يستمدونها من كونهم "مراجع تقليد" و"نواب الإمام المهدي الغائب". بينما كانت السلطة من نصيب الملوك أو الحكام الذين كانوا يستولون عليها بالقوة أو الوراثة أو بالانتخابات. إلى جانب سلطة التجار والرأسماليين الكبار الذين كانوا يمارسون نفوذهم بواسطة المال. وكانت السلطة الرابعة من نصيب الإعلاميين وأصحاب الصحف والمجلات. كان الحكام عادة يمدون صلاحيتهم إلى خارج حدودهم ويحاولون الهيمنة على التجار والإعلاميين ورجال الدين واستلحاقهم بالقوة. لكن ارهاب الحكام لم يكن ليخيف الشعب أو يستر عوراتهم أو يعصمهم من النقد واللوم والمحاسبة، حيث كان العلماء لهم بالمرصاد يقدمون لهم النصح ويعترضون عليهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. ويحتفظ التاريخ الإيراني بسجل حافل للعلماء الذين كانوا يمارسون أدوارهم بأمانة واخلاص في مواجهة الحكام المنحرفين، ولعل أبرز مثل على ذلك هو المرجع الديني السيد محمد حسن الشيرازي الذي كان يتخذ من مدينة سامراء في شمال العراق مقراً له في نهاية القرن الماضي، وقام بدور كبير في حث الشاه ناصر الدين القاجاري على إلغاء اتفاقية جائرة وقعها مع شركة بريطانية استعمارية لاحتكار بيع وشراء وتصدير التبغ سنة 1898، لكن الشاه رفض التنازل عن الاتفاقية، فما كان من الشيرازي إلا أن أصدر فتواه الشهيرة بتحريم استعمال التبغ بأية صورة بيعاً وشراء وزراعة وتدخيناً، ما أجبر الشركة على فسخ عقدها وإغلاق مكاتبها والرحيل عن إيران. ولم يكن رجال الدين أنفسهم فوق القانون، إذ كانوا أحرص الناس على الزهد والتقوى إلى جانب قول الحق ومراقبة الحكام ومحاسبة الخاطئين والظلمة منهم، لكنهم اكتسبوا تدريجاً هالة من القداسة والاحترام والتبجيل في نفوس العامة من الناس، وأصبح لزي رجال الدين العمة والجبة واللحية الطويلة دور كبير يشبه السحر في التأثير في الناس، بغض النظر عن درجة علم أو تقوى رجل الدين. وقد جربت شخصياً في فترات من حياتي ارتداء الزي الديني الخاص ولمست أثر ذلك على عامة الناس، خصوصاً البسطاء منهم ومدى تفاعلهم واحترامهم لكلمة رجل الدين. أما في داخل الحوزة الدينية في النجف أو قم أو غيرهما، فقد كان العلم يلعب دوراً كبيراً في استقطاب الطلبة إلى هذا المرجع أو ذاك، لكنه لم يكن اللاعب الوحيد، حيث كان المال إلى جانبه يلعب هو الآخر دوراً مهماً في توجيه بوصلة المرجعية نحو من يمتلك ويوزع أكبر قدر من المال والرواتب الشهرية على الطلاب. وفي بعض الأحيان كان المال هو العنصر الحاسم في ترجيح وإشهار مرجعية هذا أو ذاك. وهناك أحاديث في الحوزة العلمية عن تحالف بعض كبار رجال الدين في قم مع بعض كبار رجال البازار في طهران وتقديم طروحات مشتركة لإدارة البلاد وحل المشاكل الاقتصادية من وجهة نظر رأسمالية. ويوجه بعض الاصلاحيين من رجال الدين كالشيخ المطهري اللوم إلى نظام المرجعية على حالة الجمود والركود والمحافظة الرجعية، حيث يفضل الطامحون إلى المرجعية مجاراة العامة وكتمان الحقائق العلمية والتخلي عن مهمة النقد للخرافات والأساطير والعادات السيئة المتفشية في المجتمع خوفاً من انفضاض الناس وعدم تقديم الاخماس والزكوات لهم وبالتالي فقدان مرجعيتهم. وعلى أية حال، فقد جمع رجال الدين في إيران بصورة عامة، بعد قيامهم بالثورة على نظام الشاه واسقاطه سنة 1989 الهالة الثورية إلى جانب الهالة الروحية والمعنوية التي كانوا يتمتعون بها من قبل، ثم أضافوا إليها هالة السلطة والقوة التي استولوا عليها، إضافة إلى قوة المال الغزير الذي حصلوا عليه وقوة الإعلام التي هيمنوا عليها، فأصبحوا يسيطرون على كل مصادر القوة في المجتمع وكل المجالس التشريعية والتنفيذية والمساجد والثكنات. وقام رجال الدين بمنجزات كثيرة وكبيرة لا تنكر، ولسنا الآن في صدد تقييم أعمالهم أو الحديث عنها، لكننا نود الإشارة إلى الامبراطورية الهائلة التي باتوا يتربعون عليها منذ ذلك الحين، وإلى المعادلة الجديدة التي توحد فيها رجال الدين مع السلطة والمال والحصانة القدسية التي يتلفعون بها، وما أدت وتؤدي إلى أخطار كبيرة في مسيرة الثورة والحركة الإسلامية وتطور البلد، حيث غاب دور المعارض المصلح الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الذي كان يقوم به رجال الدين في السابق. وأصبح من الصعب جداً على أي رجل عادي لا يرتدي العمامة والجبة ان يقوم به في مواجهة رجال الدين لسهولة اتهامه بمحاربة الإسلام ومعاداة الثورة والخروج على الولي الفقيه. لا شك ان الكثير من رجال الدين الحاكمين في إيران يتمتعون بالعلم والتقوى والاخلاص، وان الكثير منهم حافظ على نمط حياته كما كان قبل الثورة من الزهد والتواضع، إلا أنه مما لا شك فيه أيضاً وجود كثير ممن يرتدي زي رجال الدين ويتسلم مناصب قيادية في النظام. كان منذ البداية أقرب إلى النفاق والانتهازية والمال من أجل المال والسلطة والمصالح الخاصة، وان كثيراً من المخلصين السابقين تغيروا بعد استيلائهم على السلطة فأخذه الغرور وغرّه الشيطان حتى أنساه ذكر الله. وما حوادث الاعتقالات التعسفية والاغتيالات والاتهامات الظالمة المتبادلة بين عدد من أجنحة النظام المتنافسة التي يقودها رجال دين، إلا دليل إلى صدق ذلك في الجملة. وهذه حالة طبيعية تنسجم مع الطبيعة البشرية لرجال الدين، فهم بالتالي ليسوا من جنس الملائكة، ولا بد أن نتوقع انحراف البعض وسقوط البعض الآخر. ولا تكمن المشكلة في ذلك بقدر ما تكمن في اغلاق باب الإصلاح والمعارضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانقلاب دور رجال الدين من المراقبة والاشراف والتوجيه، إلى دور الحكم المباشر ورفضهم لقيام الناس العاديين بمحاسبتهم، واتهامهم بالعلمانية والليبرالية والجهل بالدين ومحاربة الثورة، مع وضوح انطواء حكم رجال الدين على الكثير من الجهل والعصبية والعناد وتجاوز الحدود الشرعية. بين يدي كتابات وبيانات كثيرة صادرة من رجال دين في قم يتهمون السلطة بالانحراف والاستبداد والديكتاتورية، إضافة إلى القتل والتعذيب ومصادرة الأموال من دون حق وما إلى ذلك. وان صدق هؤلاء في اتهاماتهم فتلك مصيبة، وان كذبوا في ما يزعمون فالمصيبة أعظم، وذلك لما تكشف من صراع داخلي على السلطة بين رجال الدين أنفسهم واستعدادهم لاستخدام أقذر الأسلحة من الكذب والاتهام الباطل والبهتان لسحق خصومهم. لا اتحدث عن رجال الدين الذين يمسكون بالسلطة فقط، وإنما أيضاً عن رجال الدين الذين تركوا أبحاثهم ودراساتهم وأدوارهم في الهداية والارشاد ومحاربة البدع، ليسايروا التجار والأمراء وأصحاب الأموال والعامة من الناس، يكتمون الحق ويفتون بالباطل ويركضون وراء الدنيا والجاه ومحبة الناس وتقليدهم لهم. اعتقد رجال الدين في إيران أنهم باستيلائهم على السلطة أعادوا الدمج بين الدين والسياسة، وان تخليهم عنها يعني الفصل بينهما من جديد، ولكن هذا ليس بالضرورة، إذ لا يعني الفصل بين العلماء والأمراء الفصل بين الدين والسياسة، خصوصاً إذا كان السياسيون خاضعين للسلطة التشريعية ويكنون للعلماء الاحترام والتقدير. الأزمة الإيرانية الراهنة تعود إلى تركيز السلطات الروحية والدينية والثورية والسياسية: التشريعية والقضائية والتنفيذية والعسكرية والمالية والاعلامية بيد رجال الدين أو بيد مجموعة منهم، ما يجعل منهم حكاماً مطلقين بلا معارضة. وان حلها يكمن في توزيع السلطة على قطاعات الشعب وتخلي رجال الدين عن السلطة التنفيذية للمدنيين واطلاق الحرية لوسائل الاعلام. ولا شك ان الطريق إلى ذلك صعب وطويل في ظل هيمنة فكر ولاية الفقيه، ما يتطلب ثورة ثقافية تعيد مراجعة كثير من "المسلّمات" وتضع كل شخص في مكانه المناسب. * كاتب عراقي