نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    «الداخلية» تطلق خدمة الهوية الرقمية للقادمين بتأشيرة حج هذا العام    جميعة الدعوة نور تكرم المتطوعين والجهات بعد نجاح مخيم إفطار ودعوة 1445ه    أمير تبوك يدشن التمرين التعبوي "استجابة 14"    قمة البحرين ظروف استثنائية لحلحلة الأزمات    واشنطن مستمرة في دعم إسرائيل بالأسلحة    ولي العهد يهنئ رئيس وزراء سنغافورة    أمير الرياض يطلع على تقرير السجون    خادم الحرمين يصدر أوامر ملكية    «الداخلية» تطلق ختمًا خاصًا للمستفيدين من «مبادرة طريق مكة»    فالفيردي: نلعب باسترخاء كبير في الوقت الحالي ونتطلع لنهائي دوري الأبطال    المدربات السعوديات يكتسبن الخبرة الإفريقية    الأهلي يتمسك بذهب السيدات    أمير منطقة تبوك يتفقد مبنى مجلس المنطقة وقاعة المؤتمرات    تحرك لضمان توفير السلع الأساسية واستقرار أسعارها    بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل يختتم دورة "تدقيق سلامة الطرق    ارتفاع أسعار النفط إثر انخفاض مخزونات الخام في أمريكا    انطلاق الملتقى العربي لهيئات مكافحة الفساد    حالة رئيس وزراء سلوفاكيا حرجة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال    4 أحزمة ملاكمة تنتظر من يحملها على أرض "المملكة أرينا"    القبض على مقيم لارتكابه أفعال خادشة للحياء    الأحزاب المصرية: تصريحات متطرفي إسرائيل محاولة يائسة لتضليل العالم    غوارديولا: لولا تصدي أورتيغا لكان أرسنال بطلا للبريميرليغ    محافظ القطيف: رؤية القيادة الرشيدة وضعت التعليم على سلم الأولويات    «البلسم» تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح و«قسطرة»    زيلينسكي يلغي جولة خارجية.. أوكرانيا تنسحب من خاركيف    زين السعودية تعلن عن استثمارات بقيمة 1.6 مليار ريال لتوسعة شبكتها للجيل الخامس 5G    تشغيل 4 رحلات أسبوعياً للخطوط الجوية البريطانية من هيثرو إلى جدة    الجامعة العربية تدعو مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات سريعة لوقف العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين    مدير تعليم الأحساء يكرم الطالبة الفائزة ببرونزية المعرض الدولي للاختراعات    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    ضبط 264 طن مأكولات بحرية منتهية الصلاحية    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    «النيابة»: باشرنا 15,500 قضية صلح جنائي أسري.. انتهاء 8 آلاف منها صلحاً    زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر قبالة سواحل نيوزيلندا    «الصحة» تدعو الراغبين في الحج إلى أخذ واستكمال جرعات التطعيمات    فيغا يعود للتدريبات الجماعية للأهلي    نيمار يبدأ الجري حول الملعب    أمير حائل يكرم عدداً من الطلاب الحاصلين على الجائزة الوطنية بمبادرة «منافس»    السوق السعودية ضمن أول 10 دول في العالم المملكة أكثر الاقتصادات تسارعاً آخر 6 سنوات    أفضل الإجراءات وأجود الخدمات    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    شرف الخدمة    مكانة بارزة للمملكة في عدد مقاعد «آيسف»    تمكين المواهب وتنشيط القطاع الثقافي في المملكة.. استقبال 2200 مشاركة في مبادرة «إثراء المحتوى»    محتوى الغرابة والفضائح !    ليس لأحد الوصول    اطلع على تقرير« مطارات الدمام» واعتمد تشكيل «قياس».. أمير الشرقية يؤكد على تجويد الخدمات ورضا المستفيدين    طموحنا عنان السماء    أمير تبوك ينوه بالخدمات الراقية لضيوف الرحمن    انطلاق برنامج الرعاية الأكاديمية ودورة البحث العلمي في تعليم الطائف    حمام الحرم.. تذكار المعتمرين والحجاج    ..أنيس منصور الذي عاش في حياتنا 2-1    ( قلبي ) تشارك الهلال الأحمر الاحتفاء باليوم العالمي    الكلام أثناء النوم ليس ضاراً    تأثير العنف المنزلي على الأطفال    مواد كيميائية تسبب السرطان داخل السيارات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حفيد عبدالرحمن الكواكبي يؤرخ حكم اعدام جده وتوليه بلدية حلب
نشر في الحياة يوم 30 - 08 - 1998

في غضون أسابيع قليلة تنشر دار بيسان البيروتية سيرة المصلح النهضوي عبدالرحمن الكواكبي، صاحب "طبائع الإستبداد" و"أم القرى". وكتب السيرة القاضي سعد زغلول الكواكبي، حفيد صاحب السيرة. واستقى بعض مصادرها من مرويات عائلية وأوراق محفوظة ومنشورات غير مشهورة. وتروي الفقرات الآتية ملابسات حكم بالإعدام صدر في الكواكبي قبل قرن وستة أعوام، ثم توليه رئاسه بلدية حلب قبل عزله وسفره الى القاهرة.
1 - الحكم بالإعدام
ومن تأريخنا - نحن أسرته - للحادثة التي أدت الى حكم اعدامه، فأقول:
في 12 شوال 1309ه/2 مايو أيار 1892م، طرق باب بيت الكواكبي بعنف فأجابت ابنته الكبرى عفيفة تسأل عن الطارق، فصاح بها: محمود الشربجي، صديق والدها يحثها على فتح الباب له. ففتحته فدخل مسرعاً يطلب منها احضار والدتها، فجاءت هذه فطلب منها صرة واسعة بسرعة، فجاءته بها، ودخل بها الى غرفة مكتب جدي وجمع كل ما فيها من كتب وأوراق وحمل الصرة على ظهره مسرعاً بالخروج وهو يقول لها: "لقد أوقفوا الأفندي". فسألته عمتي عفيفة مستوضحة، فأجاب: "لقد أوقفوا أباك".
وكان في تلك الصرة مسودات كتابيه "طباع الإستبداد" و"أم القرى". وسواهما من الأوراق المخطوطة والمطبوعة، وكلها ضد السلطة. فلو أنها لم تذهب مع الصرة لما كانت بين أيدينا اليوم، على الأرجح. وبعد دقائق كبس البوليس الشرطة عليه بيته وفتشوه فلم يعثروا على ما يدينه. ومع ذلك فقد نظم البوليس أحمد صبري تقريره بذلك التاريخ، باللغة التركية، وترجمتها هي التالية:
"حققت بصورة خفية عن أحوال عبدالرحمن أفندي وفهمت أنه يجمع أولاد محلته عنده، ويفصح عن اقوال بحق الحكومة... علماً بأنني لم أعرف أسماء الأولاد الذين يجمعهم. وان عبدالرحمن أفندي يقوم بادعاءات بحق الحكومة".
كما نظم تقريراً آخر يقول فيه: "ان كواكبي زاره عبدالرحمن أفندي الذي يختلط غالباً بأجانب قد شوهد رأي العين يتنقل ويذهب الى أشخاص مجهولي الأحوال والأطوار. وهذا مما يسيء ويخل بأمن الحكومة السنية ويسبب كثيراً من الفساد. وقد تواترت هذه التحركات التي سببت خللاً كما هو مبين بتقريري بتاريخ 12 شوال 1309".
فكأن الوالي عارف باشا لم يرو غليله التقرير السابق وإنما أراد الإمساك بخيط يثبت منه اتصال الكواكبي بالأجانب، فأوعز الى ضابط البوليس هذا لكي يعزز تقريره السابق بتقريره اللاحق المذكور.
وعلى رغم ذلك فإن الوالي لم يجد في هذين التقريرين ما يكفي لإثبات خيانة الكواكبي للسلطة، فأقدم على تزوير كتابة في جزازة ورق دفتر صغير زعم أن مآلها يفيد اتصال الكواكبي بالدول الأجنبية فقيده بالأغلال وشهّر به مسحوباً بقيده في الشارع من بيته الى دار الحكومة ليودعه السجن.
وقد كتب تلميذه وصديقه عبدالمسيح الأنطاكي الحلبي نزيل مصر، بعد وفاته، عن هذه الحادثة، في جريدة "القاهرة" بتاريخ 6 نيسان ابريل 1903، بتوقيع نديم الكواكبي، ما أثبتته الأديبة الأندنوسية "نور ليلى عدنان" في كتابها "الكواكبي مصلحاً وأديباً بعد أن اكتشفته في جريدة "القاهرة" يقول:
... "فأرسل عارف باشا، فجأة رجال البوليس يداهمون منزل الكواكبي استناداً الى تقرير سري رفع ضده، وقالوا انهم وجدوا بين أوراقه ورقة صغيرة..." الى آخر الخبر.
ودفعوا بالكواكبي الى المحكمة الجنائية، ووجهت اليه تهمة خيانة الدولة العليا والعمل على تسليمها لدولة أجنبية، ليستهدف عقوبة الاعدام. فاستنتج من تصرفات قضاة الحكم أنهم قد تكوّن لديهم "الإحساس بالرأي" قبيل المحاكمة - وهو أمر ممنوع على القضاة قانوناً - وعلم أنهم قد تلقوا رشوة من الوالي عارف باشا، فأسرع يكتب الى وزارة العدلية معرضاً بوضع القضاة المؤتمرين بأوامر السلطة، ثم إنه - بعد صدور الحكم بإعدامه - رفع طلباً بنقل الدعوى من ولاية حلب. وقد روى عبدالمسيح الأنطاكي قصة هذه المحاكمة التي عايشها قائلاً:
]... وعرض الكواكبي على دوائر الاستنطاق ووجهت اليه التهمة، ورفض أن يدافع عن نفسه، وإنما طلب المحاكمة من ولاية أخرى. وفي المحكمة الابتدائية التركية قدم للمحاكمة في هيئة المجرمين ويقصد أنه كان مقيد اليدين ورفض الدفاع عن نفسه أيضاً، مكرراً طلبه المحاكمة في ولاية أخرى، فرفض طلبه، وأصدرت المحكمة الإبتدائية حكم الإعدام[.
وبناء على طعنه على الحكم باستئنافه، وطلبه نقل الدعوى، عينت له الحكومة بعض الولايات لنقل الدعوى اليها وهي الولايات التي أشار الوالي عارف باشا على الدولة بها، فأدرك صلة الوالي بولاتها فرفض النقل اليها. فكتب وزير العدل حينئذ الكتاب التالي وهو محفوظ لدينا وباللغة التركية.
/المدعي العام المدني لمحكمة استئناف ولاية حلب، صاحب العزة المحترم.
بناء على الاستدعاء المقدم من السيد عبدالرحمن الكواكبي المتهم بجناية تنظيم ونشر أوراق مضرة، والمحال من محكمة التمييز الى محكمة استئناف بيروت والمؤرخ في 13 محرم 1310 مع كافة تفرعاته المتعلقة بالاتهام الجنائي، طالباً نقل محاكمته الى ولاية أخرى، وقد وحّد طلبه المقدم في 4 محرم 1310ه مع إعلام المحكمة، وأحيل الى المدعي العام لإقرار نقل الدعوى وإجراء المقتضى اللازم - 10 صفر 1310 - وزير العدل.
وفي ذيل الكتاب الشرح التالي:
/بعد القيد، يحفظ مع الإعلام المرافق. وبناء على طلب المدعي العام المدني في بيروت تلغرافياً لسوق الموما اليه عبدالرحمن أفندي الى بيروت مرافقاً، وقد أعلم بذلك السجن والضابطة. 5 أيلول سبتمبر 1308.
وبطريقة ما - على ما حدثتنا به عمتنا المرحومة عفيفة - تمكنت زوجته من الانتقال الى قرية "الوضيحي" على مسافة 12كلم جنوبي حلب مع بعض أفراد أسرته ومنهم الطفل "فاضل" والدي، تنتظر مرور موكب السجين في طريقه الى بيروت. وهي أول مرحلة بعد حلب للإستراحة.
وبطريقة ما أيضاً، سمحوا للكواكبي بأن يبيت ليلته تلك مع زوجته في غرفة مستقلة من احدى قباب القرية. وقد أوضحت لي عمتي ما أسرت لها به أمها من أنها حملت في تلك الليلة من زوجها السجين!.
وفي بيروت مثل الكواكبي أمام محكمة الاستئناف الجنائية ورفض تعيين محام له أمامها، وأعلن أنه سيدافع عن نفسه بنفسه. وسجلت مرافعته باللغة التركية، وخلاصة ترجمتها هي التالية:
"... وما قضيتي اليوم إلا مظلمة كبرى أراد بها الظالمون أن ينتقموا مني بإسم القانون. فإنكم قرأتم، يا قضاة العدل، الساعة الأولى، الأوراق التي أرسلت من عدلية حلب. وبموجبها حكمت المحكمة الابتدائية فيها عليّ بالإعدام. وأنا، كمظلوم بينه وبين الموت كلمة من فم القضاة الذين أنا ماثل أمامهم، لا يسعني إلا أن أفصح عن كل شيء وأقول كل شيء كاعتراف أمام الله وأمامكم بما ظهر وما استتر من هذه القضية السوداء.
"إن البلاء قد اكتنفني من قبل الآن، وكان مصدره السيد أبو الهدى أفندي الذي اغتصب نقابة أشراف حلب من أسرتي، ولأني أطالبه بحقوقي ولم أسكت عنها، فتظاهر أكثر من مرة في مقاومتي ومعارضة أعمالي وأشغالي الى أن أعياه الأمر فرماني بهذه التهلكة بواسطة عارف باشا الذي هو من جملة صنائعه. ولما لم يجد عليّ علّة، لأني قضيت زهرة العمر في خدمة دولتي وأمتي وسلطاني، افترى عليّ افتراء بهذه الورقة الصغيرة التي قالوا انهم وجدوها بين أوراق أولادي. وكلها - كما ترون - أوراق مكتبية لتعليم الأولاد الكتابة. وأكتفي لفحص هذا القول وإثبات براءتي ببرهان واحد وهو أنني احتطت لنفسي من يوم تظاهر عارف باشا بعداوتي، ورفعت من بيتي كل ما عندي من الكتب والأوراق، لا لأنها مخالفة لروح الدولة، معاذ الله، بل ضناً عليها أن تصل اليها أيدي الاستبداد، لأنها أوراق تجارية وأدبية، بما يملأ صندوقين. وقد أحضرتهما معي لأعرضهما على المحكمة عند اللزوم. فلو سلمنا جدلاً بوجود ورقة كهذه فإني كنت، بلا شك، أخفيها مع ما أخفيته من الأوراق غيرها، فضلاً عن أن وريقة كهذه سياسية نتيجتها الحكم بالإعدام يستحيل أن أتغافل عنها لتكون مع الأولاد مخافة أن ينقلوها الى مكتبهم فتجر عليّ الويل والثبور من حيث أدري ولا أدري. هذا فضلاً عن صدقي وإخلاصي لدولتي فإني مسلم عثماني أنتمي الى الرسول الكريم. ولا يعقل أن من كان حائزاً على شرف الحسب والنسب أن ينتمي الى دولة افرنجية ضد سلطانه وبلاده. وفوق ذلك، من أكون أنا لأتجرأ على مخابرة الإفرنج في شؤون مهمة سياسية كهذه؟ وما هي النتيجة التي أتوقعها؟
"ان الخطوط تتشابه، والذي كتب مثل هذه الورقة وألقاها بين ما وجدوه من الأوراق الصبيانية في بيتي لا يبعد ان يكون قد استكتبها الى من يشبه خطه خطي. ومع ذلك فإني أطلب من جملة التحقيقات التي ستجريها المحكمة أن تعين خبراء لتطبيق الخط، وفي الصندوقين اللذين أشرت اليهما ألوف من الأوراق المنشورة كلها كتبتها بخطي بأوقات مختلفة يختلف فيها الخط بين الجودة وعدمها..."
وقررت المحكمة استدعاء شهود الحق العام، ومنهم جنود البوليس، وأجلت القضية أربعة أشهر. وأسرع جواسيس الوالي عارف باشا الى اعلامه بذلك، فإذا به يمنح هؤلاء إجازات طويلة يغيبون خلالها عن مراكزهم وعن مدينة حلب فلا تصل اليهم دعوات المحكمة. فكتب جدي الى أخيه مسعود يوعز اليه - بالحبر السري فوق رؤوس أكمام قمصانه المرسلة للغسيل كما كان يفعل في سجنه بحلب المرة السابقة وبماء البصل بطرف مسواك الأسنان - بأن يتصل بأفراد البوليس ويؤمن لهم نفقات سفرهم وتعويضهم بعد أن يؤمن وصول مذكرات الدعوة الى مراكزهم، في أي مكان كانوا. وقد اقترض له أهله خمسماية ليرة عثمانية ذهباً من جرجي خياط لتأمين نفقات الشهود.
وفي هذه الأثناء بعثت زوجته تعلمه بحملها، فكتب اليها يطلب منها أن تسمي المولودة: نظيرة أو المولود نظيراً، متفائلاً بانتظار البراءة والعودة اليها متخلصاً من حبل المشنقة.
وبعد أربعة أشهر، وعند متابعة المحاكمة، أقر رجال البوليس بأنهم لم يعثروا على أية ورقة مضرة عند تفتيشهم داره.
وعرضت جذاذة الورق التي زوروها على لجنة الخبراء فجاء تقريرها ينفي كونها من خط الكواكبي. ووجدت المحكمة - فضلاً عن ذلك - أن ليس في هذه الورقة ما يشير الى مخالفة لقوانين الدولة العثمانية.
وبعد أن سلخ ثمانية أشهر سجيناً، أعلنت محكمة بيروت براءته وأفرجت عنه في بيروت.
وفي نفس الوقت صدر الأمر الهمايوني بعزل الوالي عارف باشا إذ لم تفده وساطة أبي الهدى الصيادي لدى المابين السلطاني لإبقائه في مركزه لأن توقيع الأمر قد حصل سراً بناء على التحقيقات السرية التي أجريت من قبل المفتشين وأرسلت الى المابين في طلب عزل الوالي.
وعاد الكواكبي الى حلب منتصراً في جمادى الثانية سنة 1310ه، كانون الأول ديسمبر 1892م، أما عميل الوالي، والوالي نفسه، فقد أمسيا مخذولين على غير علم منهما!
وقد حدثنا عمنا المرحوم الطبيب أسعد الكواكبي وعمتنا المرحومة عفيفة، يصفان وصول أبيهما مساء الى حلب، بأنه كان يوماً مشهوداً من أيام حلب، اتصل ليله بنهاره. وأن رجال الحي كانوا يفسحون له الطريق بصعوبة من خلال الألوف من الناس المزدحمين من باب أنطاكية أقرب أبواب حلب الى حي لجلوم حتى داره عند ساحة جامع جده أبي يحيى الكواكبي والمدرسة الكواكبية، حيث كان كبار أهل حلب ووجهاؤها بانتظار وصوله من ظهيرة ذلك اليوم حتى المساء.
وتضيف عمتي: ان معلمتها في مكتب الخوجة قد بشرتها بقرب وصول أبيها الى حلب واجازتها بالانصراف الى بيتها لتكون في استقباله مع أهلها، فأسرعت الى البيت راكضة، فأفسح لها الرجال الطريق بعد أن عرفوها، فراحت تقفز درجات السلم الى الغرفة العلوية "المربع" حيث كانت أفواج النساء تملأ القاعة، فكانت المسكينة - لشدة فرحها وسورتها وتهيجها - تتعثر عدة مرات فوق درجات السلم وتعاود الصعود لتدخل على أمها وتقول لها مكررة نفس العبارة التي سمعتها من أفواه الرجال عند الباب "...وصل الأفندي... وصل الأفندي..." وتنفجر الزغاريد من أفواه فاطمة وسائر النساء.
وعند الباب، كان كبار أهل البلدة يعانقون الكواكبي ويهنئونه بالسلامة وعلى رأسهم صديقه قاضي حلب.
وكان في جملة كبار المستقبلين أبو الهدى الصيادي الذي عانقه مقبّلاً ومسلماً وقائلاً "الحمد لله على السلامة يا ابن العم"، فأجابه جدي على الفور وببديهة حاضرة: وعليك السلام يا أبا الهدى أفندي، لكن: هادي ابن العم منين جبتها؟! بالعامية حرفياً ذلك لأن جدي قد أدرك أن أبا الهدى "كان يرمي من وراء التصريح ببنوة العم، على مسمع ومشهد من الألوف، الى رضاء ضمني من الكواكبي بثبوت نسب الصيادي الى آل البيت لو أنه لم يرد هذا الزعم فوراً الى صاحبه دون ابطاء. وكان ذلك على مسمع من عمتي التي كانت قد وصلت الى الباب بعد أن أتمت مهمتها بتبشير أمها لكي تشهد بنفسها دخول أبيها الى البيت.
وفي منتصف الليل، تمكن جدي من الانفراد بأفراد أسرته. واليكم ما قاله هو - نقلاً عن جريدة "القاهرة" في العدد الخامس من حزيران يونيو 1902م:
"...دخلت الحرم، ولم أكد أنزع عمتي وأتمتع برؤية أولادي وأمهم وأعزيهم بوجودي عما نالهم من السوء في غيابي، وقد انتصف الليل، وإذ بالباب يقرع، والخادمة دخلت علينا وهي تقول: "ان وافداً يريد مقابلة السيد" فهرولت مستغرباً الى الباب ففتحته باندهاش، فإذا بصديق لي من موظفي التلغراف سلم عليّ وسلمني تلغرافاً من وكيلي في الآستانة، وكانت صورته: حلب - عبدالرحمن الكواكبي "وصلت تلغرافاتكم لمراجعها وصدرت الإرادة السنية بفضل عارف باشا وتعيين بدله دولتلو عثمان فوزي باشا فنبشركم". وما كدت أقرأ التلغراف حتى طرت فرحاً وانتظرت الصباح بفارغ الصبر الى أن أذن مؤذن الفجر، فلبست ملابسي وركبت بغلتي وسرت تواً الى بيت صديقي القاضي فأطلعته على التلغراف فتناوله مني وسار لساعته الى دار الوالي. وبدخوله قيل له ان الوالي لم يزل نائماً، فقال لهم: أيقظوه. فخرج اليه بملابس النوم، فقال له القاضي: ان السيد الكواكبي قد عاد، قال: سمعت ذلك، قال: وعاد بريئاً، قال: سمعت ذلك، قال: وتظاهر الناس بنصرته، قال: سمعت ذلك ولكنني سأنتقم منهم جميعاً. قال القاضي حينئذ: ولكن قد فات زمن الانتقام فاقرأ هذا التلغراف. وللقارىء أن يتصور حال الوالي المنتقم وهو يتلو تلغراف عزله من يد عدوه، فرماه وهو يرتجف وقال: هل السيد الكواكبي كان سبب عزلي؟ قال القاضي: بلا شك".
تلك كانت مأساة حكم الاعدام بشأن الوريقة التي اتهم بها. وتلك كانت فرحة الأهل يوم استقبلوه وعنقه نظيف من حبل المشنقة بعدما يقارب السنة من الانتظار. ولا أزال أذكر أنني - حينما سمعت الرواية من عمتي - ضاقت حنجرتي وسالت دموعي مثلما تسيل الآن حينما أذكر الرواية أو أكتبها.
وما بالك لو أن ما حمله محمود الشوربجي من مسودات كتاب "أم القرى" وسائر المقالات التي كانت ترسل الى جرائد مصر وأوروبا وهربه بها من بيته قبيل التفتيش وقع شيء منه بيد البوليس؟
2 - رئاسة البلدية
وتسلم عثمان فوزي باشا الولاية، وصدر أمر من الولاية - بناء على تقارير المفتش صاحب بك بتعيين الكواكبي رئيساً لبلدية حلب في 10 شباط فيراير 1893م - وهو الذي كان قد استقال من عضوية المجلس البلدي سابقاً - فقام بمشاريع عمرانية كثيرة. ومن أهم أعماله أنه قرر على اقامة اعمدة حديدية في مداخل سوق المدينة الأثرية كي تحول دون دخول الجِمال الى هذ السوق فتؤذي المارة وتلوث المكان، ومنع اللحامين من تعليق الذبائح خارج حوانيتهم وعلى الأبواب الأيوبية الأثرية لسوق المدينة تلك الأبواب التي لا تزال مسامير الجزارين تغرس فيها بالعشرات صباح كل يوم حتى هذه الساعة مما أدى الى تشظيّها وتفتتها على مشهد ومسمع من كل إنسان في حلب.
ومن مشاريعه انكبابه على دراسة مشروع إنشاء سد الفرات عند قرية يوسف باشا لمد مدينة حلب بالمياه العذبة إذ وجد أن مياه ينابيع "حيلان" التي تجري في القناة الرومانية والأيوبية أضحت ملوثة فضلاً عن أنها لا تكفي المدينة التي راحت تشكو العطش. تلك الفكرة التي اعتد عدتها ولم يتسن له تحقيقها حتى جاء تحقيقها وتنفيذ مشروعه في أواخر هذا القرن العشرين.
ومن مشاريعه التي باشرها مشروع تجفيف مستنقعات "الروج" قرب مدينة "إدلب". وهو المشروع الذي تحقق في منتصف هذا القرن. وكذلك سعيه للحصول على امتياز لمد سكة حديد حلب - انطاكية حتى ميناء السويدية. وهو المشروع الذي تابع أخوه مسعود الكواكبي العمل من أجله يوم كان عضواً في "مجلس المبعوثان" مع العضو الآخر بهاء الدين بك الأميري كما وجدت في أوراق لدي.
كما أن نهر "قويق" نال من اهتمامه الشيء الكثير، فلقد حضّر دراسة لجر مياه نهر "الساجور" رافد نهر البليخ الى حلب ليرفد "القويق". وكلف بعض المهندسين باستثمار النبع الحار المعدني "حمامات الشيخ عيسى" قرب "جسر الشغور" وتجميلها وترميمها، وقد تم له ذلك.
وبمساعٍ من تجار متضررين من الإصلاح بسوق المدينة عزل الكواكبي عن رئاسة البلدية في 19 آذار مارس 1893م، كما سلف بيانه، ومشاريعه مبسوطة على منصات الدراسة في المجلس البلدي، وغرّم قيمة الأعمدة الحديدية التي أقامها على مداخل الأسواق على رغم أنها لا تزال قائمة حتى اليوم!، كما غرّم فروق رواتب موظفي البلدية التي زادها لهم قطعاً لدابر الرشوة. وكل ذلك بمساع غير حميدة من "راسبوتين البلاط السكاني" الذي كان يرصد أعماله من الآستانة، حاقداً عليه بسبب عبارته الجوابية له يوم استقباله في عودة البراءة أمام بيته على مسمع من الجماهير. إلا أنه، حينما عاد عثمان باشا والياً مرة ثانية، عيّن الكواكبي رئيساً لغرفة التجارة ورئاسة مجلس المصرف الزراعي، فكان - شأن رئاسته للبلدية - أول رئيس عربي لهاتين المؤسستين. فراح يدافع عن مزارعي التبغ الذين كانت الحكومة ورجالها يتسلطون عليهم بشراسة وقسوة، مؤتمرين بأوامر "شركة انحصار التبغ والتنباك" الريجي المحتكرة لهذه المنتوجات. فما كان منه إلا أن أقنع بعض أصدقائه من المتمولين الأثرياء: بتشكيل شركة مساهمة معه على أن يكون هو مديرها. وكان له ذلك، وخف الضغط على المزارعين والفلاحين. حتى أنه عمد - في خطة بارعة - الى توظيف أفراد عصابات التهريب في الادارة المذكورة برواتب تغنيهم عن الربح غير الحلال، وقطع بذلك دابر التهريب موفراً ما نجم عن ذلك من ربح لفائدة المزارعين والفلاحين. ولم يتضرر من أعماله إلا أصحاب السلطة الذين كانوا يشاركون المهربين في الأموال المحرمة. فكاد له هؤلاء، وهم له بالمرصاد، وساعدتهم الثورة المحلية التي نشبت حول مرعش، وأوعز الشرّيرون الى زبانيتهم بإحراق مواسم مزروعات التبغ وإتلاف ما جمع منها وتخريب حقولها كما تفعل عصابات المافيا اليوم، مما عاد بالخسران المفاجىء على الشركة وعلى الفلاحين والمزارعين والمساهمين، فاضطروا الى حل الشركة وراح يدفع قيمة الأسهم للمساهمين من جيبه الخاص كي يسكت ألسنة المنافقين الذين كانوا يدسون لهم افتراءات تنال من الثقة به. وقد تسببت هذه البلية في فقدان ماله.
وفي عام 1894م تسلم وكالة المحكمة الشرعية بحلب، فنظم ديوان المحكمة وضرب بيد من حديد على شهود الزور الذين كانوا يتجمعون عند بابها المقابل لجامع المهمندار يجلسون فوق المصاطب منتظرين من يكلفهم - مأجورين - بشهادة زور، أولئك الذين يسميهم أهل حلب شهود المصطبة. وثارت ثائرة هؤلاء - وأكثرهم متعممون وحملة مسابح متظاهرون بالتدين - ووصلت شكاوى هؤلاء الى شيخهم الأكبر فرأى في هذه المناسبة فرصة سانحة لإبعاد الكواكبي عن المحكمة الشرعية، فاستصدر أمراً بعزله عن نيابتها، أضف الى ذلك تصديه للدفاع عن عرب السويدية انظر البرقية.
واستمرت لعبة جرّ الحبل بين الكواكبي والسلطة ومن هو من ورائها، وعين الكواكبي رئيساً للجنة بيع حق الانتفاع من الأراضي الأميرية التي رقبتها للسلطان، فراح يوزعها على الفقراء ويحجبها عن المتسلطين ورجال السلطة والبكوات والباشاوات، فما عتم أن أقيل من وظيفته هذه أيضاً بمساعي هؤلاء لدى من بيده أمر الشورى لدى السلطان الأحمر.
ومرت عليه، وهو في هذه الحالة، بضع سنوات أكمل خلالها بناء الدار العظيمة التي اشتراها من آل القدسي في حي الفرافرة، مما وفره من مزرعته في قرية "عسّان" التي لم يقدم أهلها على تخريبها وغصبها كما فعل سواهم في قرية: "الريحانية" واختار له غرفة علوية منها في قسم "الحرم" تطل على حوش الدار حيث تصدرها السلسبيل والحوض الكبير، وقد جهد في تشكيلهما وترصيعهما بالقاشاني الذي استجلبه من داره بحي الجلوم، ليكتب مسودات كتبه.
وكأني به قد ألهمته حادثة مأسوية لينكب على كتابة كتابه عن "الرق في الإسلام" وهي حادثة "حجاب النور" الفتاة السودانية، التي حدثتني بذاتها عن حادثة خطفها. وتفاصيلها في كتابي الذي أسميته بإسمها "حجاب النور" بعد أن أخفقت كما أخفق جدي وأولاده بإعادتها الى بلدها بعد وفاة جدي ووالدي حيث توفيت في حلب عن عمر يناهز السبعين محملة إياي سلاماً الى أمها إذا اجتمعت معها.
وراح يتابع كتابة كتبه وأبحاثه سراً. وأعتقد أن أكثر ما كتبه وما نقل عنه قد جرى على قلمه في هذه الغرفة العلوية التي ولدت أنا وأخوان لي فيها، وأن تقديراً لأوقاته التي تسنح له للكتابة خلال إقامته في مصر بعدئذ، ورحلاته الطويلة المهلكة في الأقطار الآسيوية والإفريقية لا يتيح الاعتقاد بأن ما كتبه كان كله في مصر، إنما يرجح أنه كتبه في حلب. وقد احتفظ بكره عمي الكاظم بقلمه بعد وفاته وهو الآن من مقتنياتي التاريخية التي تخصه.
ومرت أيام عصيبة على الرجل كان ينفق خلالها من مال اقترضه، اذ لم تعد لديه تجارة ولا زراعة ولا أية موارد أخرى، فلقد استهلكت داره الجديدة ما لديه، فأمهله المرحوم جرجي خياط في أمر الدين الذي أمده به الى ما بعد اعادة أملاكه المصادرة في حلب وفي قرية "الريحانية" أرتاح، وفي قرية "عسّان". ومما زاده ضغثاً على إبّالة ما غرّمه من قيمة الموانع الحديدية للأسواق وفروق رواتب موظفي البلدية. وتوقف عن متابعة إنشاءات كثيرة في بيته الجديد.
وعلى عادة السلطان المستبد الذي كان يضطهد الأحرار حتى ينتهي بأحدهم الى احدى طريقين: الغرق في البوسفور من كوة في أرض قصره أو قبول الرشوة بالمال والسلطة فيصبح المرتشي من أتباع السلطان وزبانيته وجواسيسه وعبيده.
ووفاقاً للأصول التي روعيت من قبل السلطان في هذا الشأن، حينما يدرك أن الشخص الخطير على سلطانه قد افتقر وأمسى في ضيق من العيش وأنه يكون أقرب مسافة بينه وبين قبول الرشوة، فقد أوصلوا له "عرضاً من السلطان الأحمر بأن يوليه قضاء "راشيا"، لعله - إذا قبل - يمسي بعيداً عن بلده وعشيرته أولاً، ويجعل منه عاملاً من عمال السلطان. فوسّط لديه اثنين من فرع الأسرة القديم في استنبول هما: عطاء الله باشا الكواكبي والي بغداد، ونجم الدين أفندي الكواكبي شيخ الإسلام وخال عطاء الله باشا اللذين استدعياه الى الاستانة وعرضا عليه رغبة الإرادة السنية في هذا الشأن. وكانت زيارته تلك المدينة سرية في بادىء أمره ولكن جواسيس السلطان وأبي الهدى اكتشفوا وجوده. وأعتقد أن من سوء التدبير ان ابنه "الكاظم" كان معه في استنبول وكان غير حريص على التخفي مما جعلهم يكشفون مكان أبيه.
وقد لعبت الصدفة دورها إذا التقى ب"أبي الهدى" لدى شيخ الإسلام، وسأله عن سبب حضوره الى الاستانة ولامه على عدم الاتصال به، وتبرأ له من كل ما أحاق به من إساءات وبالأخص تلك التي كان يعتقد أنه هو سببها فنسبها اليه في محاكمة بيروت. وتوسط صاحب الدعوة بينهما وأظهر الكواكبي أنه قبل تلك التفاسير كي لا يكشف عن سبب وجوده في الآستانة والتحريات التي كان يقوم بها سراً عن أعمال السلطان وزبانيته وعن طرائق استبداده، مما شرحه كامل الغزي في ثبته سالف الذكر. حتى أنه - وهو يعلم علم اليقين أن رسائله الى أهله بحلب سيفتحها جواسيس السلطان من موظفي البريد - عمد الى تسريب كلمات بواسطتهم الى أبي الهدى من خلال رسالة باللهجة العامية بعث بها الى ابنه أسعد الذي كان لا يزال على أهبة الانتقال الى مرحلة الدراسة الإعدادية في شوال 1312ه - آذار 1895 أتى فيها على ذكر أبي الهدى الصيادي على أنه يمكن أن يساعده في دخول الكلية الحربية يوماً ما! علماً بأنه - حينما كتب الرسالة - كان قد ألزم من قبل أبي الهدى وسائر الرجال بوجوب ترك اقامته في "الخان" وقبول الإقامة في الدار التي أمر السلطان أن ينقل اليها بحفاوة موسطاً أبا الهدى في ذلك فقبلها الكواكبي من باب اتقاء أية مؤامرة قد تتعرض لها مهمته مما أشار اليه الغزي في ثبته. وأدرك - متأكداً - ان اقامته في المكان قد أمست إجبارية وأن تحركاته مراقبة، وانه لن يتمكن من العودة الى أهله حراً إلا إذا أعلن خضوعه للسلطان وقبل منصب قاضي "راشيا" التي تعتبر منفى مختاراً لبعدها عن حلب، فضلاً عن أنها تحول دون اتمام مسعاه في التحقيق عن أحوال الاستبداد في مقره وعاصمته... ولا شك عنده في أن أية اشارة من السلطان - إذا أعلن عن رفضه تلك الرغبة - قد تودي به الى الغياب في قعر "البوسفور" وهو على كرسيه حول مائدة الطعام في القصر الذي دعي اليه.
وبعد ارسال الرسالة بأيام وقبل أن يعطي أي جواب حول عرض السلطان عليه منصب قضاء "راشيّا"، ذلك العرض الذي لم تصدر به الإرادة السنيّة بعد، هرب من القصر بصورة سرية لم يخبر بشأنها أحداً حتى أقرباءه: شيخ الإسلام نجم الدين أفندي الكواكبي وعطاء الله باشا الكواكبي اللذين كانا قابعين ينتظران نتيجة عرض السلطان لديه بفارغ الصبر.
ووصل خبر هروبه الى السلطان - على ما أثبته الغزي من معلوماته الخاصة - وأدرك أن قد فاتته امكانية التخلص منه في الآستانة إذا هو رفض الخضوع له، فراح يتدبر أمره بواسطة من له الشورى.
وبالفعل، فلم تمض أيام على عودته الى حلب حتى فوجىء - في طريق عودته الى بيته، وعند منعطف "المدرسة السيافية" الى القبو المعتم المجاور - برجل ملثم يهاجمه ويطعنه بسكين. فصاح جدي منادياً:
بيدروس... بيدروس... عليك به وبيدروس هذا هو خادمه الذي كان يرافقه عادة خلا تلك اللحظة! وكأن مناداته له حالت دون تثنية الطعنة، وأن المعتدي يعرف "بيدروس" هذا، وكان يراقب وينتظر غيابه لينفرد به لوحده، فتوهم أن بيدروس لاحق به فعلاً، فأطلق ساقيه للريح، وزحف جدي جريحاً الى أقرب بيت فأوصلوه حملاً الى بيته.
وضجت المدينة وتهافت الناس الى بيته الذي يتسع للمئات، رغم منع الوالي زيارته وأمره بالقبض على أتباعه، الى أن ضاق ذرعاً بالاضطهاد الموجه اليه وإلى أهله وأصحابه، فانزوى في بيته منكباً على كتابة كتبه. وتأصلت لديه فكرة الهجرة الى مصر التي كان قد حضر لها كتاباته خلال ست سنوات من عودته من استنبول، لينشرها هناك في مجتمع حر من سيطرة السلطان، وقبل أن يحاول الصيادي الذي قلب له ظهر المجنّ مرة ثانية بعد فشل الأولى التي استهدفت قتله.
استدعى جدي صديقه "عبدالحليم جوده" وأسرّ له عزمه على الهرب، وعقد اجتماعاً له مع زوجته وابنه الكبير الكاظم وبحث الجميع أمور الأسرة وقيام السيد عبدالحليم برعايتها طيلة فترة غيابه على أن يهيء للجميع أمور الالتحاق به الى مصر بعد عودته من رحلته الكبرى التي كان مزمعاً عليها، وبعد أن تصله منه اشارة سرية ب"تلغراف" تفيد بوجود القيام بذلك.
وعلى الفور من الاتفاق أرسل الكواكبي برقية الى المابين السلطاني في الآستانة يفيد قبوله منصب القضاء في راشيا. ولم تمض أيام حتى وافاه الفرمان السلطاني بتعيينه في ذلك المنصب. فأعلن أنه ينتظر انتهاء مدة صلاحية القاضي الذي كان فيها، من باب المجاملة وحسن التصرف. ولكنه في هذه الأثناء كان يرتب أمور سفره السري.
حتى كانت غرة ذي الحجة عام 1317ه - 2 نيسان 1900م، فقد رهن بيته الذي أنشأه في حي "الفرافرة" والذي كان مسجلاً بإسم زوجته فاطمة الكحيل، بعقد بيع بالوفاء صادر عنها وبحضور شهود العقد وهو من جملتهم، لدى السيد أحمد آغا هنانو بمبلغ أربعماية عثمانية ذهباً.
كما أنه أبقى أرض وبستان "الكتّاب" مرهونتين لدى جرجي خياط الذي كان لا يزال يستثمرها منذ مدة. واعتقد أنه باع بساتين الورد التي كان يملكها والتي تسمى حتى الآن "بستان كل آب" أي بستان ماء الورد باللغة الفارسية. ذلك أنني وجدت مخططاتها بين أوراقه ومشروع افرازها، كما وجدت حسابات واردات "الورد الجوي" الذي يجنى منها ويباع ليستخرج منه ماء الورد. وليست لدينا وثيقة بيعه لنعلم التاريخ ومقدار الثمن كما علمنا من عقد رهن داره.
وبعد خمسة عشر يوماً من رهن بيته وحصوله على المال كان سفره الى مصر. وما أن وصلها حتى اشترى صيدلية في ميدان "العتبة" لإبنه البكر الكاظم الذي كان مرافقاً له كي تكون لهما مورداً مساعداً على العيش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.