في سياق تقويمها لأوضاع المنطقة قالت وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت، أكثر من مرة "ان عام 1997 لم يكن عاماً جيداً لعملية السلام"، ولم تطرح تصورها لكيفية تحسين اللاوضاع لئلا تسوء اكثر في 1998، واكتفت بدعوة الحكومة الاسرائيلية والسلطة الفلسطينية لاتخاذ القرارات الصعبة المطلوبة. اما رئيس السلطة الفلسطينية فقال في اكثر من مناسبة "حال عملية السلام تتراجع الى الوراء، ولا شيء يتقدم الى أمام، كل شيء مجمد... واجتماعات اللجان الفلسطينية الاسرائيلية هدفها تعطيل المبادرات الدولية... الخ". لم يطرح مخارج او بدائل فلسطينية، واكتفى برفض اللقاء مع نتانياهو، وبتحذير الدول الكبرى من خطورة استمرار الاوضاع على ما هي عليه. ودعا الزعماء العرب مرات عدة لعقد قمة عاجلة للبحث في ما آلت اليه اوضاع عملية السلام. ويمكن كل مواطن فلسطيني او مراقب محايد ان يضيف من مشاهدته الميدانية الكثير الى ما قاله الزعماء الثلاثة. هذه المقتطفات وسواها تبين عمق المأزق الذي تعيشه عملية السلام على مسارها الفلسطيني الاسرائيلي، وتعبر بدقة عن مدى التدهور الذي بلغته العلاقات العربية والفلسطينية الاسرائيلية. فالثقة بين الطرفين مفقودة تماماً، ومفاوضات المرحلة الانتقالية معطلة بإحكام. ويسجل لنتانياهو أنه عطلها بطريقة لم تمكن العالم كله من اعادة تشغيلها، وأنه جمّد الاتفاقات التي وقعها ولم يتمكن حتى الاميركيين من زحزحتها. وخلال اقل من عامين بدّد اجواء السلام التي سادت بعد مدريد وأوسلو، وكرس حقائق على الارض نسفت اسس مفاوضات الحل النهائي وانهت مقومات قيام كيان فلسطيني موحد في الضفة الغربية ناهيك عن مسألة توحيد الضفة مع القطاع، بل فرضت نموذج البوسنة والهرسك كواقع قائم على الارض وربما كنموذج للحل ولو بعد سنين طويلة. فالاستيطان في القدس ومحيطها، بلغ الآن مرحلة اقفلت آفاق البحث عن حل شبه عادل يمكن ان يقبله الفلسطينيون، وصار اشبه بمعجزة مستحيلة التحقيق. وينطبق الشيء ذاته على الاستيطان الجاري في اكثر من منطقة في الضفة الغربية خصوصاً تلك الواقعة بين مدينتي قلقيلية وسلفيت، التي تضم اكبر حوض ماء في الضفة الغربية. اما تجمع مستوطنات غوش عتصيون فقد عزل الخليل عن القدس وعن شمال الضفة. اما الطريق الذي يعبر السامرة فقد شطر، بمستوطناته الكثيرة والكبيرة، الضفة الغربية شطرين وعزل وسطها عن شمالها. والحبل لا يزال على الجرار. أي ان حال السلام مرشحة لمزيد من التدهور في السنتين المقبلتين، وان حقائق اضافية على الارض مرشحة للنمو اكثر. والتجربة اكدت أن المصالح الحزبية والاستقطابات الجماهيرية تحتل، خلال فترة الانتخابات، مواقع حاسمة في برامج الاحزاب وتوجهاتها. ويدرك نتانياهو ان اندفاعه في مصادرة الاراضي، وبناء مزيد من المستوطنات الجديدة، وتطرفه ضد السلطة الفلسطينية... الخ، تعزز مواقعه وسط جمهوره المتطرف وداخل حزبه، وتبقيه في مبنى رئاسة الوزراء اربع سنوات جديدة، ناهيك عن كونها تريح ضميره وتشبع قناعاته المتطرفة. فهو يتصرف وكلّه قناعة بأن عرفات لا يملك خياراً آخر غير الخيار الجاري، بل انه مجبر على الاذعان للأمر الواقع، وأن كلينتون لن يكون ملكياً اكثر من الملك، ولن يتصادم مع حكومة اسرائيل ومن يساندها في اميركا من أجل القضايا الفلسطينية والعربية. وتشجعه قناعته هذه على المضي قدماً في توجهاته، وفي رفض تنفيذ الاتفاقات التي وقعها مع السلطة الفلسطينية. وبيّنت تجربة نتانياهو في العامين الماضيين مع الادارة الاميركية ودول السوق الاوروبية المشتركة ومع الاممالمتحدة ومع العرب ان في إمكانه الاحتفاظ بعلاقته مع الجميع من دون دفع استحقاقات صنع السلام، ومن دون تنفيذ الالتزامات التي شهدوا عليها. صحيح ان الولاياتالمتحدة الاميركية واوروبا قادرتان على التأثير في القرار الاسرائيلي، الا ان المشكلة لا تكمن في قدرتهما بل في اتفاقهما اولاً على مثل هذا التوجه، وثانياً في مدى استعدادهما، فرادى ومجتمعين، على استخدام اوراق الضغط الكثيرة المتوفرة لإرغام نتانياهو على احترام ارادة المجتمع الدولي، خصوصاً ان أياً منهما - اميركا واوروبا - لا تشعر بأن مصالحها في خطر. ومن المفيد ان يدرك الفلسطينيون سلطة ومعارضة أنه طالما بقيت مواقفهم على حالها فسيبقى العالم يعتقد بأن الاوضاع في المنطقة والعلاقة مع اسرائيل ليست متفجرة، كما يقولون، وأن حال عملية السلام ليست بالسوء الذي يتحدثون عنه. ومن يراجع مواقف الادارة الاميركية في الفترة الاولى من حكم كلينتون وما انقضى من الثانية يستخلص انها لا تتورع عن استخدام معايير مختلفة عندما تكون المواقف الاسرائيلية معروضة الى جانب المواقف الفلسطينية والعربية. ولم تمارس اي ضغط جدي على اسرائيل، بل ان ضغوطها انصبّت على الطرف الفلسطيني - العربي. وتؤكد مواقفها الاخيرة الشك باليقين، فالوزيرة اولبرايت قفزت عن اقتراحها بشأن تجميد الاستيطان موقتاً Time Out بعدما رفضه نتانياهو، وراحت تولي الاقتراح الاسرائيلي بشأن الانسحاب من جنوبلبنان أهمية أكبر. والمبادرة الأميركية التي طالما سمعنا عنها تحولت، في جولة دنيس روس الاخيرة، اقتراحات وأفكاراً معروضة على الطرفين للنقاش وغير ملزمة لأحد. تتضمن هذه الافكار قطعاً صغيرة جداً من الحقوق الفلسطينية الواردة في الاتفاقات وتنفيذها غير مضمون، اما الانسحابات المحدودة والمجزأة المعروضة فقد ربطت بشروط تعجيزية لا يمكن القبول بها. ويسجل لروس انه نجح في تضييع مزيد من الوقت على ابواب اعياد العرب واليهود، وشجع نتانياهو على التمسك بمواقفه، ومن المشكوك فيه ان يتراجع عنها في وقت لم يعد احد يتحدث عن سقوط حكومته، وصار الحديث كله يتركز على تراجع اوضاع الرئيس كلينتون وقدرته على اكمال ولايته. لقد حدد نتانياهو موقف حكومته بوضوح من "الافكار الاميركية" حين قال ان "القضايا العالقة يجب حسمها بين الجانبين مباشرة ولا احد يستطيع ان يفرض مواقف على اسرائيل في موضوع اعادة الانتشار وحجمه، فهذا يتعلق بأمن اسرائيل ولا يمكن اسرائيل ان تعتمد في أمنها على أحد". وابتدع اخيراً فكرة الانسحاب النوعي والانسحاب الكمي. واظن ان اقصى ما يريد تقديمه في هذه المرحلة هو تنفيذ انسحابات شكلية محدودة لا تغيير من الوضع القائم على الارض ولا تؤثر في حركة الاستيطان، والموافقة على تشغيل المطار، وبناء المناطق الصناعية، واستكمال بناء ميناء غزة، شرط ان يتخلى الفلسطينيون عن بقية حقوقهم في الاتفاقات وان يوافقوه على الدخول في متاهات التفاوض على الحل النهائي. وأكدت التجربة ان تصلب نتانياهو، المدعوم من الكونغرس ومن الرأسمال اليهودي الاميركي، قابله دوماً تراجع ادارة كلينتون - اولبرايت وليس العكس. ونتانياهو على ثقة بأن انصاره في الولاياتالمتحدة قادرون على حمايته من ردود الفعل الاميركية السلبية، ومن توظيف الطاقات الاميركية في خدمته، وفي مواجهة المواقف العربية والروسية والاوروبية والصينية. لا شك ان "حال السلام المزيف" التي تعيشها المنطقة مربحة لنتانياهو على كل الصعد وفي كل المجالات، وهي أفضل خياراته ويعمل على ادامتها حتى نهاية عهده. لكنها بالتأكيد ليست افضل الخيارات للشعب الفلسطيني وسلطته، ان لم تكن اسوأها، كما انها ليست الخيار الوحيد المتاح امامها وأمام العرب، فحال "السلام من دون سلام" مقلقة ومربكة لكل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية بما في ذلك الحزب الحاكم، وموترة للعلاقات الفلسطينية الداخلية، ولا تساعد في تطوير العلاقات الفلسطينية - العربية والدولية. والأهم انها لا تصون الارض، وتضعف علاقة السلطة بشعبها وتشلّ قدرتها على تعبئة طاقاته في الصراع، وتهدر الوقت. لقد جربت السلطة حتى الآن تحسين مواقعها على الارض، وتحسين مواقفها الخارجية من خلال التجاوب مع رغبات الراعي الاميركي والاستمرار في المفاوضات والاتصالات الشكلية مع الجانب الاسرائيلي وعدم الاعلان عن تعليق او تجميد المفاوضات واللقاءات. وبينت التجربة ان هذا النهج ساعد نتانياهو ويساعده في تعزيز مواقعه الداخلية ومواقفه الخارجية، ولم يساعد السلطة الفلسطينية في انتزاع حقوق شعبها، او في تفعيل المواقف العربية والدولية. واذا كان الاعلان عن تجميد المفاوضات وتعليق الاتصالات يعتبره البعض تسرعاً فلسطينياً في الرد على مواقف نتانياهو ويلحق بعض الاضرار بالعلاقات الفلسطينية - الاميركية، فإن تجربة السنوات السبع من المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية ومن العلاقات العربية - الاميركية اكدت انه ما لم تكن هناك ازمة حقيقية على الارض الفلسطينية وفي العلاقات فلن تكون هناك مبادرات اوروبية او اميركية جدية. وان استمرار خضوع العرب لرغبات الاميركيين من دون مقاومة لا يساهم في تطوير الموقف الاميركي ولا في تفعيله لمصلحة مبادئ العدل والسلام. ومن المفيد ان تتذكر السلطة بأن تراجع نتانياهو عن مواقفه العنجهية التي اتخذها بعد فوزه في الانتخابات، وموافقته بعدها على اتفاق الخليل، لم تتم الا بعد "هبّة النفق" وبعد حال القطيعة والتوتر التي سيطرت في حينه على العلاقات. وقد أكدت تجربة آخر عامين من علاقات السلطة الفلسطينية بحكومة ليكود ان استمرار ظهور الفلسطينيين والعرب من دون خيارات اخرى يلحق اضراراً كبيرة وكثيرة بالمواقف التفاوضية وبالمصالح الوطنية والقومية. والواضح ان الوزيرة اولبرايت ومساعديها لشؤون الشرق الاوسط مقتنعون ايضاً بأن الاوضاع في الضفة والقطاع وكل انحاء المنطقة يمكنها ان تستمر على المنوال الذي انتهى اليه العام الماضي، وان تبقى عليه طوال العام الحالي وربما الذي يليه، وهذا الاعتقاد يساهم في تلكؤهم عن طرح مبادرة اميركية ملزمة للحكومة الاسرائيلية. واذا كان خيار التأزيم عبر صدام الحركة الشعبية على الارض مع قوات الاحتلال لا يتم بقرار سلطوي وشروطه غير متوفرة وقد يكون له مضاعفات سلبية. فخيار رفع مستوى التأزيم السياسي بتجميد كل شيء مع نتانياهو وربط عودة العلاقات وتجديد التنسيق بالتزامه بوقف الاستيطان وتنفيذ الالتزامات الواردة في اتفاق الخليل يمكن ان يتم بقرار ويمكن التحكم في سقفه ومداه. وفي كل الاحوال، ان مثل هذا التوجه لن يضرّ ان لم ينفع، وفوائده مؤكدة في تحضير الاوضاع الشعبية للنهوض بخطوة قيام الدولة على الارض المزمع الاعلان عنها في ايار 1999. وهي مفيدة ايضاً في تطوير مواقف الدول العربية والاسلامية تجاه تجميد تطبيع علاقاتها باسرائيل. وبجانب التأزيم الرسمي اظن ان في امكان السلطة الفلسطينية وقوى المعارض العودة الى تعبئة الجمهور الفلسطيني ببعض شعارات الانتفاضة منها مثلاً: العمل تدريجاً على وقف الشغل في المستوطنات، بالتوازي مع ايجاد حلول لمن تجبرهم لقمة العيش على العمل فيها، والبدء بمقاطعة منتجاتها، ووقف كل اشكال التجارة معها، فمن غير المعقول ان تطالب السلطة الفلسطينية دول السوق الاوروبية المشتركة بعدم تقديم تسهيلات على استيراد منتجات المستوطنات وتبقى هي تستوردها وتستهلكها وان يبقى العمال الفلسطينيون يبنونها بأيديهم فوق ارضهم المصادرة وسلطتهم الوطنية تتفرج عليهم.