كان يمكن القول ان بلداً كبريطانيا يأكل الخضار المسلوقة بكثرة وإفراط، هو وحده الذي يرى فيهن بناتٍ - توابل. لكن الصبايا الخمس اللواتي أسمين أنفسهن هذا الاسم Spice Girls وجدن كل العناية والمتابعة في الولاياتالمتحدة وبلدان اخرى، وها هي فرنسا تحتفل بهنّ كأنها في عرس، فيما أفرد ملحق "الاوبزرفر" الاسبوعية صفحته الاولى كلها لصورة لهن في باريس. وبين السياسيين وكبار الوجوه لم يعد تكريم ال Spice Girls يقتصر على الأمير تشالرز ورئيسي حكومة بريطانيا السابق جون ميجور والحالي توني بلير، بل تعداهم الى زعيم "حار" جداً كرئيس جنوب افريقيا نيلسون مانديلا. ومن الزعماء الى المؤسسات والصحافة انتشر أمرهن ناراً في الهشيم: فقد فرضت إحداهن، جيري هاليويل، على اعضاء مجلس العموم البريطاني ان يتناقشوا مُعقّبين على قولها ان مارغريت ثاتشر، رئيسة الحكومة السابقة، هي اول بنتٍ تابل. ولم يكن النقاد والصحافيون الثاتشريون وحدهم الذين رأوا ان البنات المذكورات انجح الظاهرات الفنية البريطانية للعام الماضي واكثرها ضجيجاً. فما السرّ وراء الفتيات العشرينيات هؤلاء ممن تقودهن هاليويل ولقبها "الزنجبيل" وتنضوي في فرقتهن مغنية سوداء هي ميلان براون او "الخوّيفة" التي يعكس حضورها الوجود الأسود الكثيف في موسيقى الشبيبة المعاصرة؟ لقد شقّت الظاهرة طريقها في 1995، لكن لم تنقض غير اشهر حتى أدرجت "فوربس" مغنياتها في الخانة الثانية والثلاثين بين أغنى فناني العالم وفناناته. فالاسطوانة الكبرى الاولى LP للتوابل والتي حملت اسم Spice، اكسبتهن 30 مليون جنيه استرليني 40 مليون دولار ولا تزال تباع في الاسواق. وفي تشرين الثاني نوفمبر الماضي فاقت الجوائز التي نلنها ما نالته فرقة "أوايسس" Oasis. أما ألبومهن المسجل في احدى حفلاتهن فبلغ في الولاياتالمتحدة المرتبة الاولى مبيعاً، وهو ما لم يسبق ان حصل لأي فنان او فنانة في فرقة فنية من بريطانيا. وبدورها باعت اسطوانتهن "عالم التوابل" Spiceworld اكثر من مليون نسخة في المملكة المتحدة وحدها، فيما جذب برنامج تلفزيوني أجري معهن 11.8 مليون متفرج ومتفرجة. واقترن غناؤهن البسيط كلماتٍ وموسيقى بتوكيد صاحباته على جمالهن، وسعيهن المعلن الى كسب اهتمام الآخرين، وكذلك رغبتهن المعلنة ايضاً في الظهور كجميلات فاتنات، من دون اي محاولة لمداراة طلّتهن الجنسية او كبتها او تحويرها. لكن عالمهن الطفلي هذا اقترن بشعار صاخب يفسّر بعض النجاح الذي لاقته البنات التوابل: السلطة البنتية girl power. وهكذا ظهر من ينسب البنات الخمس الى النسوية الجديدة، او بالأحرى نسوية ما بعد تلك الستينية والسبعينية. ففي هذين العقدين اتصلت النسوية بحركات ونضالات لم يعد لها كبير مكان في زمننا الراهن. أما "نسوية" التوابل فتقف على قائمتي الربح وموسيقى البوب في صيغتها الأسهل. ذلك ان الاولى نجحت في تحقيق معظم الاهداف التي أطلقتها، ولم يبق في أغلب الحالات الا استكمال الانجازات المتحققة. ففي مجالات التعليم بات من الحاسم تفوق الصبايا على الصبيان كما دلّت استقصاءات اخيرة، وفي المناصب جعلت الهوّة تضيق على رغم استمرارها. اما في الهوايات والرياضات فلم يبق من مكان تستنكف عنه الفتيات بما فيه ممارسة كرة القدم. اذن تترواح "السلطة البنتية" بين حدّين: في أسوأ الحالات خوض معركة مكسوبة سلفاً، ولهذا فهي سخيفة لا تتمثّل "تضحياتها الحربية" الا بكسب الأرباح الطائلة. وفي أحسنها مدّ الانتصار النسوي الى نطاق لم يكن قد عرفه من قبل، هو… عالم الاطفال. فقد لاحظ بعض من كتبوا عن البنات التوابل انهن نجحن في كسب جمهور من الطفلات اللواتي تقلّ أعمارهن عن سبع سنوات، فيما لاحظ آخرون ان هؤلاء الطفلات اذ يستمعن اليهن يملكن مزيداً من الجرأة على ضرب اخوتهم الصبيان رداً على ضربهن لهن. وكثيراً ما كان شعار "السلطة البنتية" ما يُسمع في لحظات الشجار كأنه صرخة حرب تطلقها الأخت ضد أخيها المعتدي. واذا ما اعتُبر تشجيع الطفلات، في هذا المعنى، مفيداً لتربيتهن ولنمو شخصيتهن على المدى البعيد، بقي ان الامر كله يحصل في نطاق غير اجتماعي وفي سن سابقة على الاجتماع يملأها اللعب المحض. أبعد من هذا، تحلّ افكار بسيطة عن التحرر الجنسي، من خلال جلافة القوة وصبيانية السلوك، محلّ عمليات اكثر تعقيداً بكثير، فيما تحلّ "أمومة" البنات التوابل محلّ صِدام صبايا الجيل الستيني والسبعيني بالأم والأب والمنظومات الثقافية التي كان معمولاً بها. في خضم السذاجة هذه يمكن فهم اعجاب البنات التوابل بمارغريت ثاتشر، وهنّ لسن غير بعض نتاجات زمنها اذ فتحن أعينهن على الشأن العام في الثمانينات، آن كانت السيدة الحديد تملك سعيداً في 10 داوننغ ستريت. فدور المرأة يتلخص، في هذه الحال، بدور امرأةٍ بعينها، كما ان الثقة بالذات تجسّدها ثقة فائضة تبديها "زعيمة" اكثر ذكورية بكثير مما هي ممثل للمرأة. وما بين ثاتشر نموذجاً، والطفلات قاعدةً وجمهوراً، تزداد المسافة الفاصلة عن كل ما هو معروف عن النسوية بصالحها وطالحها.