تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة، وخصوصاً الانترنت، تقدم للباحثين ورجال التعليم والفنانين والمديرين في جميع أنحاء العالم فرصة لانشاء مجتمعات مثقفة لم يشهد العالم مثيلاً لها في الدَرَبة والتخصص والحركية والفعّالية. وقد أدى ظهور هذه التكنولوجيات الى تثوير طرقنا في التفكير والعيش في الأعوام الأخيرة، وفتح آفاقاً ذكية لانشاء علاقات حول العالم بين الجامعات ومعاهد التعليم العالي والبحوث والمكتبات والمختبرات والمستشفيات لنشر المعرفة ودعم التدريس الشخصي والتعليم المفصل لحاجات الأفراد والجماعات، ولتبادل الأفكار والمعطيات وتنفيذ المشاريع الجماعية. واتضح سريعاً أن التعليم العالي والبحوث ونشر المعرفة وترويجها من أهم الميادين التي يمكن استخدام التكنولوجيا الجديدة فيها خصوصاً الشبكات العالية القدرات المعروفة باسم جادة المعلومات التي يمكنها حمل النصوص والمعطيات الصوتية والمرئية. لكن لا ينبغي علينا أن نطلق العنان لآمالنا. فالتخصيص واطلاق الضوابط يؤديان في البلدان الغنية الى نتائج مختلطة، بل كارثية أحياناً من وجهة النظر الانسانية والأخلاقية، على رغم منافعهما التي لا تنكر في تحقيق حرية المبادرة وخلق فرص العمل، ويقودان في البلدان الأفقر الى خلق منافسة تجارية بالغة العدوانية والوحشية. ومن دون النظر الى أبعد من انتاج وتبادل المعرفة ونشرها يمكننا أن نرى ما يحدثه الانفجار التكنولوجي من زيادة هائلة في اللامساواة بين الشمال والجنوب. فالتكنولوجيا تعمل داخل بلدان الشمال على توسيع الفجوة بين الدواخل المهندسون والطبقات المثقفة والمرفهة والخوارج الذين لا يملكون الوسائل لاقتناء منفذ للاتصالات. ولا يساور الوهم البلدان الفقيرة، التي تدرك أن القرية العالمية والقرية الألكترونية ليستا شيئاً واحداً. والسؤال المطروح هو: هل التكنولوجيا الجديدة هي فعلاً أداة للتنمية كما يُزعم؟ فسراب الفضاء السبرنيتي السايبرسبيس يمكن أن يخلق أوهاماً خطرة عدة، كما يخلق منجزات مثمرة. وماذا عن الثمن؟ فالهيكل الارتكازي والمعدات وبرامج الكومبيوتر ونفقات التدريب باهظة الكلفة لأوروبا التي تسعى الى اللحاق بأميركا. وهي تشل البلدان الأقل قدرة ومن باب أولى العالم النامي الذي أتى الصراع من أجل البقاء على طموحاته في التحديث. وإذا أردنا أن تحصل البلدان الفقيرة على الحد الأدنى من تكنولوجيا المعلومات فينبغي مساعدتها. ليست هناك حدود للفضاء السبرنيتي ولا قيود ولا قواعد. إنه يعود نظرياً لكل انسان. وباعتباره ناقلاً عالي الكفاءة للاتصالات والمكان الذي يمكن فيه ممارسة حرية التفكير فهو يرحب بكل من يستخدمه. لكنه محصور بأولئك الذين يملكون مستلزمات الكهرباء وأجهزة الكومبيوتر والاتصال الهاتفي والمعرفة. وتصادر هذه المفارقة كلمة "المشاركة" الغامضة التي تشير الى كل من التضامن، كما في تقطيع وتوزيع الخبز والتقاسم كما في "المشاركة في الوقت". وينبغي تقسيم الكل قبل أن يصبح بالامكان توزيع الأجزاء. وتبدو كلمات المشاركة والحوار والتبادل والتفاعلية بالغة الغموض. وغالباً ما لا يكون الشخص متفاعلاً إلاّ مع شاشة الكومبيوتر أو في أحسن الأحوال مع المعطيات الموضوعة تحت تصرفه من قبل متعهد المعلومات أو شبكة الانترنت التي تشرف عليها هيئة باحثين واختصاصيين. وأين هو التفاعل العقلاني والأخذ والعطاء اللذان يشجعان على التلاحم الاجتماعي ويخلقان الدفء الانساني؟ لقد كانت الجامعات دائماً المكان الذي يلتقي فيه اناس من لحم ودم ويعيشون فيه حياة ذهنية ويشاركون الرفقة في ما بينهم. وكيف يمكن لطلبة جامعات عصر المعرفة الألكترونية اللقاء وتبادل الحديث المرح؟ لقد أوجدت التكنولوجيا الجديدة نوعاً جديداً من الاتصال الذي يميل الى نشر الحوار بين الانسان والآلة ويهدد بكبح الاتصال الانساني. واحدى عواقب قيام الاتصال السمعي البصري هي سلبية السلوك البشري أمام الشاشة. فمواطن القرن الحادي والعشرين "مشاهد اتصالي" وليس "لاعباً اتصالياً"، ويعتبر عموماً كمستهلك للصور والمعلومات والتسرية والمعرفة. ولا يستطيع مقاومة السحر الأخاذ للوسائط المتعددة سوى الطلبة الذين تعلموا السيطرة على الآلات والعمليات التفاعلية منذ الطفولة وامتلكوا الخبرة على استخلاص ما يحتاجون اليه بالضبط لنموهم. أما بالنسبة لأولئك الأقل إلفة مع التكنولوجيا فان اكتشاف الأداة يتقدم على الرسالة. والمفارقة الاخرى هي أن المضمون هو الجانب الفقير من ثورة تقوم على المعدات والتكنولوجيا والمعلومات. والدافع الى التنبيه للمخاطر المتصلة بهذه التغييرات هو تحسين قدرتنا على التكيف معها. ينبغي علينا أن نرحب ونستفيد من القدرات التي فتحتها تكنولوجيا المعلومات الجديدة خصوصاً في ضوء الاتجاهات الحالية للتعليم العالي: زيادة تنوع الطلبة ومتطلباتهم لجهة العمر والتوقعات ومناهج التدريب والصعوبات المالية في كثير من الحالات ستفرض تقليص الإنفاق الحكومي على التعليم العالي وجعل الدورات التدريبية أكثر مرونة لأجل تحقيق متطلبات السوق. وقد بيّنت اليونسكو في ورقة عمل أصدرتها اخيراً عنوانها "التغير والتطور في التعليم العالي" على ضرورة أن نخطو مع التقدم وأن نتقدمه إن أمكن. ويتوقع أن توسع تكنولوجيا المعلومات الجديدة المنفذ الى التعليم العالي في كل تنوعه وأن يستمر التوسع في الجامعات المفتوحة والتعلم من بعيد. ينبغي العمل على استخدام حركية ومرونة تكنولوجيا المعلومات الجديدة والاستفادة من خفتها وسرعتها من أجل تحقيق المشاركة الحقيقية في المعرفة. والأفعال أعلى صوتا من الأقوال: فاليونسكو لم تنتظر حتى تكتمل جميع وعود هذه التكنولوجيا قبل أن تطرح برنامجها "التعلم دون حدود". وقررت الدول الأعضاء في عامي 1996 و1997 إيلاء اهتمام خاص لاستخدام التكنولوجيا في التعليم. ويواصل برنامج "توأمة الجامعات"الخاص بالتعليم العالي نشر التضامن والتعاون بين الجامعات وبُذلت الجهود لاستخدام برنامج "توأمة الجامعات" التكنولوجيا الجديدة للتعليم عموماً وللتعليم من بعيد خصوصاً. ولأجل نشر التنوع في طرق ووسائل بث المعلومات ينبغي زيادة عدد مراكز التعليم من بعيد والجامعات المفتوحة. وينبغي مساعدة البلدان الفقيرة للحصول على التكنولوجيات والمعدات وتدريب الناس فيها وادخال الشبكات الحديثة، وباختصار تحديثهم سوية مع الآخرين. وهل يمكن تحقيق مجتمع المعلومات العالمي حقاً في عالم تحرم الغالبية العظمى من مواطنيه من التدريب والمعلومات؟ ومع هذ الجهد الكثيف لتنشيط التضامن ينبغي علينا أن نوازن بعناية قوة العوامل المقترنة بتكنولوجيا المعلومات الجديدة والتأكد من أن "العون" لا يقود الى الاستعمار الجديد. وإذا لم نكن على حذر فان مقدمي العون قد يحاولون تقديم تدريب مفصل وفق حاجاتهم والحض على انشاء شبكات توافق مواقفهم ودعم تدريب ملائم أو مربح لهم. وعلى كل بلد أن يحدد حاجاته وطلباته وإقامة هياكله ووضع الشبكة الإقليمية التي يرغب في أن توافق طموحاته. المدير العام لليونسكو