استغرقها التعويل على أزمة ضمير تصيب شريكها بضعة أشهر. أكثر من نصف سنة حتى الآن انقضت، ولا حياة لمن تنادي. لم يسأل الرجل عنها ولا عن ابنتيه وولده الذين غادروا البيت برفقتها إلى منزل الجدين، بعد أن صارت الحياة بين أهلهما مستحيلة. وصلها خبر من جيرانها السابقين بأنه لم يعد يظهر في الحي، وأن بعض الوجوه الغريبة تتردد من حين إلى آخر على البيت. أدركَتْ من تلقاء نفسها أن الغرباء ليسوا من معارفهما أو من عائلة زوجها، وعلى الأرجح أنهم مستأجرون جدد. وبعد أسبوعين من انطلاق بعض أفراد أسرتها في اقتفاء أثر الزوج المختفي، وعودتهم بأخبار متضاربة، بين مَن يقول إنه هاجر إلى مدينة بعيدة ومن يقول إنه هاجر سراً إلى أوروبا، تخلت المرأة أخيراً عن التشبث بوهم «أزمة الضمير» التي تنتظرها، وبدا لها المستقبل أظلم مما كان عليه في السابق. قرّرت نفيسة أن تتوجه إلى القضاء كي تطالب زوجها بالنفقة على أسرته الملزَم بها قانوناً وشرعاً. استغرب بعض الأهل عدم مطالبتها بالطلاق من زوج تخلّى عن مسؤولياته إزاء أسرته واختفى من دون إشعار. ولعلّ من استغربوا لا يدركون أن المسألة هي عملية تحصيل حاصل. مطالبة الزوجة بالنفقة تعني «إعلان حرب» لا يتقبله الرجل المتملص من مسؤولياته، وهي بمثابة سقوط آخر صرح من صروح المؤسسة الزوجية، وفي الغالب تنتهي إلى الطلاق. لكن ربما تفلح المطالبة بالنفقة على الأقل في إظهار أثر الزوج المختفي. في نهاية المطاف، كل الطرق تؤدي إلى الطلاق مع إشهار مطلب النفقة، فالمحاكم تطلق الزوجين في حال ثبوت عسر الزوج، «إلاّ في وجود ظرف قاهر واستثنائي وهي حالات تدخل في تقدير المحكمة». ثلاثة أطفال عبء كبير على نفيسة، التي لا تمتهن أي عمل. ومساندة الجدين لن تدوم بموارد بالكاد تسد جوع جميع الأفواه. الموسم الدراسي الجديد غير بعيد، وقد يتخلّف أبناؤها عن الالتحاق بمقاعدهم الدراسية. مأزق حرج للغاية تعيشه نساء كثيرات في الوضع عينه. نساء فقيرات من دون مورد رزق، لديهن أطفال يتعين عليهن رعايتهم وتربيتهم لوحدهن، بسبب قضايا طلاق مرفوعة أمام المحاكم أو تخلُّف الزوج عن الوفاء بواجباته بعد الطلاق أو لهجرانه بيت الزوجية وإهماله واجباته الأسرية. وتفيد إحصاءات رسمية بأن ثلث الأحكام بالنفقة على الأقل لا تنفذ. وأصدرت محاكم المغرب في 2009 ما يزيد عن 33 ألف حكم بالنفقة، غير أن نحو 10 آلاف حكم فقط هو ما تم تنفيذه لفائدة ذوي الحقوق. وقدّ تنبهت لهذا الوضع مدونة الأسرة المغربية، وهو قانون جديد للأسرة صدر في 2003 وبدأ تطبيقه في 2004، وتضمن حقوقاً متقدمة للأسرة والطفل والزوجة، يشمل إنشاء «صندوق للتكافل الاجتماعي» لتمكين الأم المعوزة من مساعدة مالية للإنفاق على أبنائها في فترة انتظار بتّ القضاء في قضايا الطلاق والنفقة أو عند ثبوت عجز الأب المحكوم عليه عن الوفاء بالنفقة، ذلك أن قضايا من هذا النوع تستغرق وقتاً في ردهات المحاكم، مع أن مدونة الأسرة تنص على البت في ملفات النفقة في شكل معجّل أقصاه شهر واحد، علاوة على أن صدور الأحكام لا يتكلل دائما بالتنفيذ، برغم تنصيص القانون كذلك على «تنفيذ الأوامر في هذه القضايا رغم كل طعن»، نظراً لوجود الزوج في حالة عطالة عن العمل، أو زعمه ذلك، بحيث يصعب على الزوجة إثبات توفره على دخل مادي. يفترض أن يحل صندوق التكافل الاجتماعي مأزق أسرة نفيسة ومثيلاتها، على رغم أنه تأخّر ست سنوات، وضُمِن أخيراً في مشروع قانون المالية لسنة 2010، ثم تأجّل مرّة أخرى إلى القانون المالي لسنة 2011، وظلّ في انتظار الإجراءات التنظيمية لتحديد الفئات المعنية بعملياته، والشروط الواجب استيفاؤها للإفادة من موارده والجهات الممولة، قبل أن يتم الإفراج عنه الأسبوع الجاري. ووضع مشروع المرسوم الحكومي الصادر حديثاً «رواتب» للمتضررات وأبنائهن، حدّد سقفها في ثلاثمئة وخمسين درهماً (44 دولاراً) لكلّ مستفيد في الأسرة، كما حدّد سقف النفقة الذي يتوجب عدم تجاوزه لمنع الإضرار بالرجل، وهو مبلغ ألف وخمسين درهما (132 دولاراً) للأسرة الواحدة. وستضع أرقام كهذه نهاية «سعيدة» لرجال كثيرين يرون أن المدونة، في سبيل ضمان حقوق الأبناء والزوجة بعد الطلاق، لم توفر ما يحفظ حقوق الرجل من بعض التجني عليه، إذ إن هناك «رجالاً تحكم عليهم محاكم الأسرة بمبالغ خيالية لا تراعي دخل الملزم بأداء النفقة»، يقول عبد الفتاح بهجاجي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن حقوق الرجال، وهي جمعية هدفها مكافحة أشكال العنف على الرجل، ومنها العنف المادي! ويأمل المدافعون عن حقوق الرجال أنه بتطبيق القانون الجديد لصندوق التكافل الاجتماعي، لن تتكرر قضايا كتلك التي توجهت إلى هذه الجمعية، وكتحديد نفقة تتجاوز الدخل الشهري لموظف بسيط ويبلغ 252 دولاراً. ويعترض تقدير النفقة من طرف المحكمة المعتمد على تصريحات الطرفين وحججهما، ومشاكل عديدة، أمام تراكم الملفات والحاجة إلى موارد بشرية ومادية للاستعانة بالخبراء لتقصّي الوضعية الحقيقية للمتقاضين.