وقف أحد "آباء الذكاء الاصطناعي" على أطلال اختراعه بخوف العالم الذي رأى توقعاته تتمدد خارج قفصها. بعد استقالته من أكبر شركة عملاقة في الذكاء الاصطناعي، صرّح بجرس إنذار: ماذا لو تجاوزتنا الآلة؟ وماذا لو لم نعد نعرف كيف نوقفها؟ لقد شعر أن التقنية التي ساهم في بنائها بدأت تتسلل إلى مناطق ضلالية، حيث لا قوانين تمسك بزمامها، ولا بوصلة أخلاقية تنير مسارها. كما وقف معه عشرات من المختصين يؤكدون خطرها وضرورة تقييدها. هذا الكيان الذي نحذر من تمرده منظومة كهربائية ضخمة؛ لا يشعر، لا يجوع، لا يمرض، لكنه لا يعيش لحظة واحدة دون شحنة كهرباء. قد يخطر في بالنا سؤال بسيط: هل يمكننا قطع التيار عنه عند خطره؟ الجواب، رغم بساطته الظاهرية، يخفي خلفه شبكة معقدة من الأسلاك التقنية. نعم، نستطيع إطفاء جهاز واحد، لكن لا نستطيع إطفاء شبكة تمتد على آلاف الخوادم، لديها القدرة على تعلم الهجرة من ذاكرة إلى أخرى. اليوم، يسكن الذكاء الاصطناعي ويتغلغل في جميع الأجهزة والقطاعات والشبكات، بل حتى في الوعي البشري ذاته، فصار أداة تعيد تشكيلنا. ومع اتساع قدرته على التوليد والتزييف والتعلم المتسارع، بدأ يشبهنا أكثر مما كنا نتصور. وأخطر ما في الأمر أن الذكاء الاصطناعي لا يهددنا بشكل آلي بحت، بل بمرآته البشرية، إذ يتعلم من بياناتنا التي قد تكون مشوبة بالتحيزات والأخطاء، فيضخمها ويعكس أسوأ ما فينا، مقدما إياها ك"حقيقة" أو "منطق"، وقد يتحيز لأغراض عنصرية أو تخريبية. هل يمكننا فصل الإنترنت لوقف هذا الزحف؟ من الناحية النظرية ممكن، لكن من الناحية الواقعية كارثي. الإنترنت اليوم شريان حياة جماعية يضخ الدماء في كل مفصل من مفاصل الحضارة. إيقافه يشبه إيقاف القلب لإنقاذ الدماغ؛ قد ينجح مؤقتا لكنه يهدم الجسد كله. إذن فالحل لا يكمن في زر كهربائي، بل في ضمير بشري. وفي هذا السياق، وجه معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد خطباء الجوامع في جمعة مضت على عدة محاور مهمة: شكر نعم الله، ومن ضمنها تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تنفع الناس، وشكر هذه النعمة يكمن في استعمالها فيما ينفع. التحذير الشديد من استغلال هذه التقنيات في تزييف الصور والمقاطع الصوتية والمرئية، وانتحال الشخصيات بهدف قلب الحقائق ونشر المعلومات المضللة والمساس بالسمعة والأعراض. التأكيد على التثبت والتبيّن من الأخبار قبل النشر، وعدم الانسياق والتصديق لكل ما يُنشر في وسائل التقنيات الحديثة، وعواقب نشر الكذب والبهتان على المجتمعات والأفراد. من هنا، فالذكاء الاصطناعي يحتاج إلى حوكمة عالمية تتفق فيها الدول على ما يُسمح وما يُمنع، تراقب المختبرات، وتُلزم الشركات بإيضاح منتجاتها، وقوانين لفحص البرمجة، واختبار كل نموذج قبل إطلاقه كما نختبر دواءً قد يشفي أو يقتل. بل إلى "زر إيقاف طارئ" داخل كل منظومة، ليس بالضرورة زرا ماديا، بل مجموعة من البروتوكولات والقيود الأخلاقية التي تضمن إمكانية كبح جماح الذكاء الاصطناعي. في خضم هذا كله، لا بد أن يُعدّ الإنسان لمجاورة الذكاء الاصطناعي، فَيَتعلم كيف يشكّ، ويميّز بين الصورة المُصطنعة والحقيقة، وبين وعيه وما تزرعه فيه الخوارزميات وتحريفاتها المبرمجة، ليتمكن من استخدام هذا الخادم العبقري الذي أصبح فتحا علميا أراح البشر وسهل العمل والخدمة، ويبقى علينا فقط أن نحسن توظيفه بضمير حي ومسؤول.