الأرجح أنّ المتابع للمسارات «الخفيفة» في أعياد الميلاد ورأس السنة عربيّاً، يلمس انتشاراً متزايداً لوجبة لحم ديك الحبش («تيركي»)، ربما بتأثير «القوة الناعمة» المعولمة للولايات المتحدّة. وعلى طاولات المنازل العربيّة أيضاً، ينافس ذلك اللحم «نظائره» من بلدان غير عربيّة أخرى كلحم «سوشي» السمك (شرق آسيا). وفي زمن يعجّ بأشكال متنوّعة من صراع الهويات والإثنيات، يتصاعد صراع على الطعام والمآكل. يكفي التفرج قليلاً على شاشات التلفزة لملاحظة المساحات التي تتمدّد فيها المآكل، إضافة إلى تخصيص فضائيات للمآكل. وهناك فيض في الإعلانات عن المآكل المندرجة في صراعات الهويّات كال «بيتزا» الإيطاليّة، إضافة إلى أصناف الشاي وال «نسكافيه» والقهوة وغيرها. ويمكن المجازفة قليلاً للقول بوجود «صراع مطابخ» عالمي، زادته العولمة اتقاداً. يعتزّ المطبخ الفرنسي باللحوم ساخنة وباردة (عصفور الكناري، «سومون» السمك، الأخطبوط، الأصداف...). يركز المطبخ الإيطالي على ال «بيتزا» التي تدعمها لحوم متنوّعة، يروّج المطبخ الأميركي لل «برغر» وال «بروستيد»، ويتباهى المطعم الهندي بلحوم ال «تيكا تشيكن»، ويكتظ المطبخ التركي بلحوم مطبوخة ومشويّة كالكباب، إضافة إلى ال «شاورما» التي ابتكرها. وتمتد خيوط كثيرة بين المطابخ العربيّة ونظيرها التركي، خصوصاً المطبخ اللبناني الذي يتأنّق باللحوم النيئة (أشهرها الكبّة) والمشويّة، وكذلك يغرِقْ اللحوم المطبوخة بالخضار والحبوب، وهو ما يميّز مجموعة كبيرة من المطابخ العربيّة أيضاً. ويظهر اللحم سنداً لمأكولات عربيّة واسعة ك «الدفين» و «التشريب» و «المنسف» و «الكبسة» وغيرها. في العودة إلى هوميروس الأرجح إنّها لحوم المأكولات وصراعاتها وهويّاتها. كيف يمكن التفكير في ذلك الأمر علميّاً واجتماعياً ونفسيّاً؟ تعج النصوص الأسطورية والملحمية بالصور التي يتخلّلها شواء اللحم قرباناً أو احتفالاً بانتصار المُحاربين، بل حتى إغوائهم واستثارة فحولتهم، كما في قصة «آستير» في التوراة، وفي ملحمتي هوميروس «الإلياذة» و «الأوديسة» عن حرب طروادة. وتبدو راسخة تلك الصورة عن ذكر منتصر يحظى باللحم. وفي رمزية ما، يبدو اللحم أبرز الأطعمة في العلاقة مع الفحولة. وما زالت قبائل كثيرة في بلاد العرب، تجعل الرجل- الأب على رأس المائدة كي يأكل أولاً، ابتداءً من اللحم. ولم يفت سيغموند فرويد التنظير للعلاقة بين الفم والجنس، ثم «مطّها» إلى الطعام، بل سار بعض منظّري مدرسة التحليل النفسي لإدماجها مع تطوريّة تشارلز داروين. وشاعت صورة تُفسّر التطوّر التاريخي في ثنائيّة ذكر-أنثى، مع أدوارهما الاجتماعيّة المختلفة. إذ اعتقدت الداروينيّة بأن المزايا البيولوجيّة للذكر، كقوة العضلات وطول القامة وثقل الوزن، أناطت به دور الصياد- المقاتل الذي يحمل السلاح ليوفر للقبائل طعامها، ويقاتل أعداءها. وعند عودته، يُكافأ الرجل بالشواء والجنس، فيما النساء هن للاعتناء بالسكن وإنجاب الأطفال، وليكنّ محلاً لمتعة الذكور. عرفت تلك النظرية باسم «الغذاء مقابل الجنس». في أواسط القرن السادس عشر، بدت المآكل متشابهة بين الغرب والشرق الإسلامي للامبراطورية العثمانية. ثم حصل تغيير في أوروبا بالتزامن مع ظهور النظريات العلميّة الكبرى التي بدّلت نظرة الإنسان إلى العالم. وفي القرن 16، صنع الطعام وفق طب اليونان الذي نظر إلى الهضم كاستمرار للطهو الذي يبدأ من حرارة الشمس المغذيّة للنبات والحيوان، ثم يكتمل مع حرارة النار في المطبخ، قبل أن تتولاه حرارة الجسم في المعدة. وزاد في التشابه أنّ العرب تبنّوا أسس الطب اليوناني، خصوصاً نظرية الخلطات التي تظهر في كتابات الفارابي وابن سينا وابن طفيل وغيرهم. وساد غرباً وشرقاً طعام قوامه العصائد التي تخلط الفواكه (التمر شرقاً والتفاح غرباً)، مع اللحم والحليب والسكر والمكسّرات والبهارات. الثورة الفرنسيّة: المساواة على طاولة الطعام سادت القرن 16 خلطات السُكّر والملح والحامض والمرّ: المذاقات الرئيسة للسان الإنسان. وآنذاك، ارتكز الطعام على فلسفة أرسطو عن الخلطات الأربع الأساسيّة في الطبيعة (الماء والنار والهواء والتراب)، فيكون الطعام المثالي أميل إلى الرطوبة والسخونة. السبب؟ خلطات الطبيعة الأربع لها ما يوازيها في الجسم الذي يتكوّن وفق أرسطو، من خلطات: الدم والبلغم والصفراء والسوداء. واستطراداً، يكون الجسد في ذروة قوته أيام الشباب، فيكون رطباً ودافئاً، ولذا، فإن الطعام المثالي يأتي دافئاً ورطباً، كالعصيد. وبعد قرن، تفارق الشرق والغرب. إذ اختفت العصائد غرباً ليظهر طعام يشبه ما هو شائع حاضراً. وسادت نظرة علميّة ترى أنّ هضم الطعام يشبه عملية التخمير التي تمدّ الجسم بما يلزمه، قبل أن تلفظ بقيته إلى الخارج. وصار الأكل مُعتمداً على قوام من الدهن والملح والخضار، إضافة إلى اللحم والخضر الطازجة، لأنها تسرّع عملية التخمير وتنقّيها من الشوائب. وفي نقلة تاريخية، انفصل طعم السكر عن الأكل، وباتت الحلوى تقدّم كأطباق منفصلة بعد الطعام، كي تسرّع عملية التخمير. ونشرت الثورات الأوروبيّة المتتالية مبدأ المُساواة، كما نقلت مآكل النبلاء وطعامهم الثقيل المفعم بالدهون واللحوم، إلى صفوف العامة. وربما يفسّر ذلك جزئياً، ميل الطعام الغربي عموماً، إلى إعطاء الدهن قسماً كبيراً من مُكوّناته. وربما لعب طعام القرن السابع عشر دوراً في انتشار البدانة راهناً. «هرم الغذاء»: هزيمة الدولة على طاولة الطعام! في القرن العشرين، حدث تحوّل آخر في فهم الطعام الصحي، لكنه حصل عبر سيل من التناقضات الهائلة، بما في ذلك صراع المصالح والدول والشركات. يصعب الحديث عن تلك الأمور كلها، لكن يمكن إعطاء نموذج عنها في التغيير السريع في «هرم الغذاء» Food Pyramid الذي يُشكّل تقاطعاً بين العلم والطعام. قبل اختتام القرن 20، عملت المراجع الطبيّة على نشر «هرم غذاء» يعلي من أهمية النشويات (كالخبز والرز والمعكرونة)، ويُحارب الدهون كافة، بما فيها الحيوانية المُشبعة، ويعتدل حيال البروتينات بأنواعها. كذلك تأثّر «هرم الغذاء» بالاقتصاد الذي لم يعد باستطاعته تحمّل الأكلاف العالية لأمراض وصفت طويلاً بأنها أمراض الصناعة، كالضغط والسكري التي ربطت بالدهون الثقيلة. كانت الدولة تُعدّ نفسها لتقليص دورها المركزي، خصوصاً تحت تأثير العولمة، إضافة إلى أنه لم يعد في استطاعتها رعاية جمع من الأمراض التي تضرب جيوش الموظفين عند اقترابهم من التقاعد. وآنذاك، سعى «هرم الغذاء» إلى إيكال شأن مرض الجسد إلى الأفراد. وشكّل الأمر ابتعاداً عن طعام زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، المعتمد على مفهوم الوفرة، والطعام القوي (إرث القرن السابع عشر)، إضافة إلى حق الفم في التمتع بشهوات التدخين والشراب و... الجنس. واستهل القرن 21 بحدوث تحوّل هائل في الطب الذي تحدث عن البدانة للمرّة الأولى، باعتبارها مرضاً معدياً إلى حدّ الحديث عن وباء السمنة. وبالترافق مع ذلك، حدث تعديل جديد في الهرم الغذائي للمجتمعات الغربية المعاصرة. إذ برزت ثلاثة أشياء لم تكن ملحوظة سابقاً. أولها التشديد على نمط الحياة وأثره في الغذاء، مع الإقرار بالتفاوتات الاجتماعيّة في قولبة الجسد عبر المأكولات. وكذلك سجّل الجسد النسوي صعوداً قوياً، إذ نال اعترافاً بتميّزه كلياً عن الذكور، في كمية السعرات الحراريّة، وتركيب الطعام اليومي. إنّه غذاء مختلف لجسد لم يعد يقبل منزلة التابع لجسد الذكر وذائقته. واعترف الغذاء أيضاً بالعمر، ما ينسجم مع إقرار علم الاجتماع الغربي بظاهرة «المجتمعات الرمادية»، بمعنى ارتفاع نسبة أصحاب الشعر الأبيض في هرم التركيبة الاجتماعيّة.