مفاوضات محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ. هذا هو الاتجاه الغالب في أوساط المعنيين بالمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية التي ستُطلق الخميس المقبل. وما هذا التشاؤم إلا نتيجة مقدمات تدفع إليه. فهذه هي المرة الأولى منذ مؤتمر مدريد للسلام في 1991 التي يُساق فيها الفلسطينيون إلى مفاوضات وكأنهم ذاهبون إلى مقصلة. أما الفجوة بين الطرفين، في شأن القضايا الأساسية للمفاوضات، فأوسع وأعمق من أن تترك أدنى مساحة لتفاؤل. ولذلك فهما يذهبان إلى واشنطن وبين يديهما نصان مختلفان يتمسك كل منهما بأحدهما كأساس للتفاوض، وهما بيان اللجنة الرباعية ودعوة وزيرة الخارجية الأميركية. لذلك تبدو الأجواء المتشائمة التي تبدأ في ظلها هذه المفاوضات طبيعية في ضوء الظروف التي تحيطها. غير أن هذه الجملة – الخلاصة لا تكتمل إلا إذا أضفنا ما يفيد بأن الفشل أكيد لا شك فيه في حال السعي إلى حل نهائي للصراع. فهذا الحل يستحيل الآن أكثر مما كان في أي وقت مضى منذ مؤتمر مدريد. ولكن حلاً غير نهائي قد لا يكون مستحيلاً إذا قبلت السلطة الفلسطينية مراجعة موقفها السابق تجاه صيغة الدولة ذات الحدود الموقتة. فهذه صيغة لحل موقت، وليس نهائياً، لكنه قد يكون أفضل من الضياع الذي يهدد الفلسطينيين وقضيتهم في ظل الانقسام الذي يزداد رسوخاً يوماً بعد يوم. وقد يكون مفيداً أن تفكر قيادة السلطة في إمكان الوصول إلى اتفاق معقول على حل انتقالي يقوم على صيغة الدولة ذات الحدود الموقتة. وليس مستبعداً أن يقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو هذا الحل الذي لا تحكمه المرجعيات التي سعى هو إلى تجنب انطلاق المفاوضات منها. ولكن هذا الحل لا يهدد، في الوقت نفسه، المرجعيات التي يتمسك بها الفلسطينيون إذا لم يصر نتانياهو على إلزامهم بإنهاء الصراع من دون حل نهائي. وعلى رغم أن حلاً موقتاً ليس ما يطمح إليه الشعب الفلسطيني وأنصار قضيته العادلة، فقد يكون السعي إلى أفضل صيغة ممكنة له خيراً من الضياع المترتب على حال اللاخيار. ولكن مثل هذا الحل يتطلب استعداداً إسرائيلياً للانسحاب من أكثر من ثلثي الضفة على الأقل، مقابل ترتيبات أمنية صارمة، وتوقيع اتفاق لا ينص على إنهاء الصراع حتى لا يلزم الفلسطينيين بالتخلي عن باقي حقوقهم أو وقف مطالبتهم بها. وليس هناك ما يدل على استعداد إسرائيل لذلك. غير أنه إذا توافر هذا الاستعداد، واقترن بقبول إجلاء بعض المستوطنين من قلب الضفة إلى ما يسمي الكتل الاستيطانية الكبرى، قد يكون الحل الموقت في هذه الحال أفضل بالنسبة إلى الفلسطينيين من استمرار وضع كهذا. ولكن قبول المفاوض الفلسطيني مثل هذا الحل يتطلب تحويل معظم المناطق (ج) الخاضعة للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية، والمناطق (ب) التي يوجد فيها تنسيق أمني بين الطرفين، إلى مناطق (أ) التي تقع تحت سيطرة السلطة الفلسطينية في شكل كامل أو بالأحرى شبه كامل. ولما كانت المناطق (ج) تشكّل نحو 60 في المئة من مساحة الضفة (من دون القدس)، فقد يكون نقلها إلى السلطة الفلسطينية خطوة لا بأس بها في غياب أي خيار آخر لديها وفي ظل عجزها عن ضمان تنفيذ أي مشروع تقيمه أو تشجعه في حال اعتراض مستوطن واحد عليه. غير أنه يصعب توقع ما إذا كان ممكناً أن يقبل نتانياهو هذا كله في مقابل الترتيبات الأمنية الصارمة التي يصر عليها. فموافقة السلطة الفلسطينية على هذه الترتيبات لن تكون صعبة في حل موقت بخلاف الحل النهائي. فالحدود الموقتة التي يمكن الاتفاق عليها بموجب مثل هذا الحل تتيح للسلطة التراجع عن إصرارها على عدم بقاء أي قوات إسرائيلية في أراضي الدولة الفلسطينية، وتمكّنها من أن تقبل وجود بعض هذه القوات التي يصر نتانياهو على أن ترابط في منطقة الغور على الحدود الأردنية. غير أنه إذا كان هذا ممكناً، فقد لا يكون سهلاً تلبية شرط آخر يصر عليه نتانياهو، وهو اعتراف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بإسرائيل دولة يهودية. فهذا اعتراف دونه خطوط حمر من النوع الذي يواجه أي قيادة فلسطينية في قضيتي القدس واللاجئين مهما كانت قوية. وقد لا تستطيع قيادة ضعيفة أن تقنع قطاعاً يعتد به من شعبها، فضلاً عن أنصار قضيتها والمزايدين عليها، بأن انتزاع «دولة موقتة» بشروط معقولة يمكن أن يحسّن مركز الفلسطينيين في إدارة الصراع، وقد يمكنّهم من إثبات قدرتهم على تحقيق إنجازات توفر لهم مكانة دولية تقوّي مركزهم في هذا الصراع ما دام الحل موقتاً وليس نهائياً. ولذلك ربما يستحق حل موقت من هذا النوع سعياً فلسطينياً إليه على رغم أن انتزاعه يبدو صعباً للغاية في ظل هشاشة الموقف التفاوضي الفلسطيني، وخصوصاً حين يقترن باعتبارين آخرين يجعلانه بعيد المنال: أولهما الحصول على ضمانات في شأن قضية القدس لكي لا تستغل إسرائيل الحل الموقت الذي لا يشمل هذه القضية للتعجيل بفرض الأمر الواقع وحسم مصيرها على الأرض بما يجعل التفاوض عليها مستقبلاً غير ذي معنى. وربما كان ممكناً لدول عربية أن تقوم بدور في إقناع واشنطن بتقديم ضمانات تتيح لها ولغيرها الاستثمار في القدس، لو أن إدارة أوباما قادرة على إلزام إسرائيل بذلك. أما الاعتبار الثاني فهو التفاهم مع الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي على إلزام إسرائيل عدم التلاعب بالوضع الفلسطيني المنقسم، حتى لا يكون حل موقت في الضفة الغربية مؤذناً بفصلها نهائياً عن قطاع غزة، فينتهي حلم الدولة الفلسطينية إلى دويلة ذات حدود موقتة وإمارة شبه مستقلة بحكم الأمر الواقع. ولهذا الاعتبار أهمية خاصة الآن في ضوء «خطة الانفصال الثانية» التي يتبناها وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان سعياً إلى التخلص من المسؤولية القانونية عن قطاع غزة عبر إجراءات تنطوي فعلياً على إقرار ضمني بحكم حركة «حماس» فيه. وتجنباً لهذا التلاعب، ينبغي أن ينص أي اتفاق على حل موقت على أن الضفة وغزة هما وحدة سياسية واحدة لا تنفصم. فهل يمكن أن تقبل حكومة نتانياهو هذا كله ويحقق رئيسها «المفاجأة» التي تحدث عنها قبل أيام حين قال إنه سيفاجئ المشككين في المفاوضات بتجاوبه مع الفلسطينيين إذا أبدوا جدية، أم أن هذه الجدية ترادف، عنده، الاستسلام غير المشروط عبر التوقيع على إنهاء الصراع من دون حلّه في شكل نهائي والاعتراف بدولة يهودية؟