ابن الرامي هو محمد بن إبراهيم اللخمي ويُكَنى بأبي عبدالله الشهير بابن الرامي البنَّاء. عاصر بعض قضاة الجماعة في تونس، أمثال الغوري الصفاقسي المتوفى سنة 699ه/1299م وابن القطان السوسي وابن عبدالرفيع المتوفى سنة 733 ه/ 1332م ومحمد ابن الغماز، وربطته بهم علاقة بحكم أنه كان له النظر في ما يحدث في الطرق والأسواق من بنيان، ويكلفه قاضي الجماعة بمعاينة النوازل التي ترفع إليه من المتخاصمين، لما حازَه من خبرة مهنية بأحوال البناء. إذ كان ينتمي إلى «مجموعة أهل البصر والخبرة التي لبست لغيرهم»، فهو إذاً بمثابة ما يعرف عندنا اليوم بالخبير العدلي لدى المحاكم. عاش ابن الرامي في مدينة تونس معظم حياته، فاعتبر من أهالي المدينة ونُسب إليها، فأضاف بعض النُسَّاخ إلى اسم المؤلف نسبَه التونسي. ولعل والده أيضاً كان قد هاجر من الأندلس إليها. هو بنَّاء، وهو قد استعرض في تأليفه «الإعلان بأحكام البنيان» خبراته وبرهن على أنه كان بحق بناء ماهراً وعارفاً بهذه الصناعة وأساليبها وطرقها فمكَّنه ذلك أن يصبح من عرفاء البنائين. وقد حملت لنا بعض المصادر صدى ما كان للعرفاء الأندلسيين في تونس ومراكش من قبلها من صيت فأثَّروا في هاتين المدينتين تأثيراً واضحاً في مستوى المظهر الحضري. فهل يمكن القول إن ما ساعد ابن الرامي على الارتقاء إلى مرتبة العريف أصله الأندلسي، إذا ما ثبت هذا الأصل؟ وضع ابن الرامي كتابه «الإعلان بأحكام البنيان» ليجمع فيه خبرته في هذا المجال، وقسم كتابه على النحو التالي: 1- كتاب الأبنية في الجدار: يشتمل هذا الكتاب أساساً على مسائل في النزاعات بين الشريكتين في الجدار الواحد عند قسمته أو بنائه إذا ما انهدم أو استغلاله لحمل السقف عليه أو ما إلى ذلك من أشغال البناء، ولكنه خلافاً لبقية الأبواب الأخرى، فإن مسائل هذا الباب الأول تبدو متجانسة تجانساً تاماً إذ لا نكاد نلاحظ أي استطراد أو خروج عن موضوع الباب. فموضوع هذا الكتاب هو أقرب ما يكون إلى اهتمامات ابن الرامي وخبراته ومعارفه بالأحكام العرفية والشرعية. فجاءت فقرات هذا الكتاب مترتبة ترتيباً محكماً وقضاياه مبسوطة بصفة واضحة ودقيقة. فابن الرامي يستهل معظم فصول هذا الكتاب ببسط القضية وتقديم مختلف صورها بطريقة شاملة، ثم يتناولها بالتحليل صورة تلو الأخرى مع إثراء ما نقله من مصادره بنوازل واقعية عدة كان لها شاهد عيان، ولا شك في أن ما ساعده على تقديم كتاب متجانس ومحكم الترتيب تجربته الشخصية في مجال البناء وكذلك محتوى المصادر التي نقل منها. إذ نراه ينقل عن مصادر تناولت موضوعَي الجدار والبنيان بالذات مثل «كتاب الجدار» لعيسى بن دينار الفقيه الأندلسي، أو كتاب البنيان لعبد لله بن عبدالحكم أو «كتاب القضاء في البنيان» من النوادر لعبد الله بن القيرواني، أو كتاب الدعاوى في الجدار من «مفيد الحكام» لابن هشام. 2- كتاب نفي الضرر: لا يكاد يخلو أي تأليف في الفقه أو في النوازل من هذا الموضوع، فكأن بابن الرامي أراد أن ينحو في كتابه منحى الفقهاء في تأليفهم، فأدرج فصلاً عن «نفي الضرر» ضمن تأليفه، فهو لئن قلَّد في ذلك المصادر التي نقل عنها بخاصة الفقهية منها، فإن مسائل الضرر تتصل اتصالاً متيناً بموضوع البنيان. ذلك أن ابن الرامي، إذ أبرز لنا ما يحدثه الناس ببعضهم بعضاً من أنواع الضرر بخاصة في المدن وذلك لعوامل عدة منها: كثرة السكان والعمران والتي لخَّصها ابن خلدون بإيجاز بليغ في قوله: «وذلك أن الناس في المدن لكثرة الازدحام والعمران يتشاحنون حتى في الفضاء والهواء. ومن الانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان فيمنع جاره من ذلك إلا ما كان له فيه حق ويختلفون أيضاً في استحقاق الطرق والمنافذ للمياه الجارية والفضلات المسربة في القنوات وربما يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه خشية سقوطه ويحتاج إلى الحكم عليه بهدمه ودفع ضرره عن جاره. فكل هذه المظاهر للضرر ورد ذكرها عند ابن الرامي بتفصيل دقيق وأمثلة واقعية عاينها بنفسه وبطلب من قاضي الجماعة، إذ كما يقول ابن خلدون نفسه: «ويخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله. فلهم بهذا كله البصر والخبرة التي ليست لغيرهم». 3- كتاب عيوب الدور: يتصل محتوى هذا الكتاب أيضاً اتصالاً وثيقاً بموضوع تأليف ابن الرامي على رغم أنه لا تكاد تخلو تآليف الفقه أو النوازل أو الوثائق من باب العيوب بعامة أو عيوب الدور بخاصة. ولئن نحا ابن الرامي منحى جُل الفقهاء فهو ينفرد عنهم في هذا الكتاب بمميزات عدة منها أنه: - أثرى الكتاب بعدد مهم من النوازل الواقعية التي عاينها بنفسه. قدَّم أمثلة دقيقة لأنواع الضرر الذي يحصل بالبنيان وصنَّفها وفق خطورتها بالاعتماد على خبراته المهنية وعرف صناعة البناء وذلك بلغة عصره وأهل حرفته، في حين أننا نجد في كتب الفقه الأخرى تصنيفاً جافاً لأنواع الضرر الحاصل في الدور على أنها ثلاثة: منها ما ترجع به الدار إلى البائع في حالة ضرر فادح لا يرجى منه إصلاح، ومنها ما يرجع بقيمته للمشتري إذا كان الضرر قابلاً للإصلاح وأخيراً العيوب الخفيفة التي لا تحط من قيمة الدار ولا تضر بها والتي لا توجب الرد ولا الرجوع بالقيمة. إلا أننا نلاحظ أن ما يقارب نصف المسائل المدرجة في هذا الكتاب لا تتصل بموضوع عيوب الدور مثل المسائل المتعلقة بالتخوم بين الأراضي أو بحريم الآبار والتي كان على ابن الرامي إدراجها ضمن الكتاب الرابع أي كتاب الغروس. 4- كتاب الغروس: خلافاً للأقسام الثلاثة السابقة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموضوع البنيان، فإن صلة هذا الكتاب الرابع بعنوان تأليف ابن الرامي تبدو منعدمة خصوصاً معظم مسائل كتاب الغروس تتعلق بالحياة الريفية وما يحدث من نزاعات بين مالكي الأجنة، ولكن محتوى بعض المسائل قد يساعد على إيجاد علاقة بينها وبين موضوع تأليف ابن الرامي، فمن ذلك نذكر مثلاً أن هذه الأجنة تكون عادة مسيَّجة ببناء أو غيره فتعرف لذلك بالحوائط وهي قريبة من المدينة أو القرية وبالتالي فإنها تعتبر امتداداً لهما. كما أنه بهذه الأجنَّة أو الغروس قد بنى بعضهم أبراجاً يقيمون بها عادة في الصيف، وبالتالي فابن الرامي تعرض لهذا الموضوع ولاختلاف مواقف الفقهاء من هذه الأبراج، على أن ابن الرامي قد أدرج مسائل الغروس ضمن تأليفه على غرار المصادر الفقهية التي نقل عنها إذ لا تكاد تخلو كتب الفقه من هذه المسائل المدرجة عادة في بابَي الغضب والاستحقاق فوجودها إذن ضمن تأليف ابن الرامي قد يكون نتيجة لعملية النقل. ثم إن ثلث مسائل الكتاب الرابع خارجة عن موضوع الغروس ومتصلة بكتاب «نفي الضرر». 5- كتاب الأرحية: تبدو علاقة هذا الكتاب بموضوع البنيان غريبة، ذلك أن الأرحية تقام على المجاري المائية من أنهار وأودية وبالتالي خارج التجمعات السكنية، ولكنها تستوجب أيضاً بناء بيت وسد لحصر المياه، ولعل من هذا الجانب يمكن إدراجها ضمن تأليف في أحكام البنيان، وقد نحا ابن الرامي من تأليفه منحى العديد من مصنفي كتب الفقه الذين خصصوا لمسائل الأرحية باباً مستقلاً في تآليفهم، فنقل ابن الرامي عنهم جُلَّ مسائل هذا الباب بصفة آلية وبكثير من الاستطراد حتى إن أكثر من نصف مسائل هذا القسم لا تتصل بالأرحية، بل يمكن إدراجها ضمن الكتاب الأول أو الثاني. خلاصة القول إن تبويب ابن الرامي لمحتوى تأليفه يشبه كثيراً تبويب كتب الفقه ولكنه يختلف عنها من حيث الإثراءات والإضافات التي أقحمها المؤلف انطلاقاً من تجاربه الشخصية وخبراته المهنية. فتميز بذلك هذا التأليف عن بقية كتب الفقه التي كثيراً ما يعاب عليها طابعها النظري، فهو بقلم حرفي خبير بالبناء ولكن ككل معاصريه اعتمد ابن الرامي النقل الآلي عن المصادر على طريقة جُل الفقهاء. فلو حاولنا إذاً تقييم محتوى هذا التأليف لقلنا إن محتوى تأليف ابن الرامي متميز عن غيره بما حواه من إضافات شخصية ووصف دقيق لمعايناته الميدانية للنوازل، فهو إذن تأليف لبناء جمع بين الخبرة المهنية من ناحية وجانب لا يستهان به من العلوم الشرعية من ناحية أخرى، ولا أدلَّ على ذلك من أهمية المصادر التي نقل عنها. أثَّر هذا التقسيم في تناول الدكتور بسيم حكيم لموضوع كتاب ابن الرامي، وإنني إذ أعبر عن تقصير شابَ كتابي الأول «فقه العمارة الإسلامية» بسبب عدم الاستعانة بكتاب بسيم حكيم الذي لم يكن متوافراً أو معروفاً بالنسبة إلي، ترجم هذا الكتاب وراجعه الدكتور رمَّاح غريب، وألقى عليه بسيم حكيم نظرة متفحصة ليتأكد من دقة الترجمة، وهذه الترجمة ما هي إلا وفاء لهذا العالم الجليل. لكن أود أن أشير هنا أيضاً إلى أن كتاب ابن الرامي «الإعلان بأحكام البنيان» حظي باهتمام كبير من الباحثين فنشر أربع مرات: الأولى: في مجلة الفقه المالكي التي تصدرها وزارة العدل في المغرب، وذلك في الأعداد 2، 3، 4 ذي القعدة 1402ه. الثانية: نشره وحققه الدكتور فريد سليمان في مركز النشر الجامعي في تونس بتحقيق ممتاز وتعليقات وافية، اعتمدت عليها كثيراً في دراستي الأخيرة «فقه العمران». الثالثة: في تحقيق لعبد الرحمن الأطرم في رسالة ماجستير قدمت إلى معهد القضاء العالي في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض سنة 1403 هجرية. الرابعة: دراسة أثرية معمارية للكتاب أنجزها الدكتور محمد عبدالستار عثمان. وأخيراً، أدعو الباحثين والدارسين إلى تأمل منهجية بسيم حكيم في هذه الدراسة وتبين طريقته في قراءة ابن الرامي وتطبيقاته على الواقع، وأتمنى أن يستفيد من هذا الكتاب الباحثون في تراث الحضارة الإسلامية، ثم إنني أشكر الزملاء محمد حجازي ومحمد السيد وشيماء السايح الذين قدَّموا لي العون في مختلف مراحل إعداد النسخة العربية من هذا الكتاب.