تخريج 331 طالبًا وطالبة من جامعة الأمير مقرن    شاهد.. وزير الدفاع يشهد تمرين القوات الخاصة "النخبة"    الأمير عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في منطقة القصيم    "سدايا" تسهم في دعم مبادرة طريق مكة بالخدمات التقنية    أكدا أن نادي جدة لليخوت معجزة تكنولوجية.. زوجان بريطانيان ل(البلاد): المملكة ترسي معيارا جديدا للمرافئ حول العالم    47 % محتوى محلي في المشتريات الحكومية    53.2 % حجم الاقتصاد السعودي غير النفطي    خلفاً لرئيس الحكومة المستقيل.. سالم بن بريك رئيساً لوزراء حكومة اليمن    قطر ترفض تصريحات نتانياهو "التحريضية" بشأن غزة    تعاون مشترك بين "التحالف" و"مكافحة الإرهاب" لتدريب ممارسي القانون بالدول الأعضاء    العودة إلى كوكب الروبوتات    السعودية تستضيف "كأس آسيا تحت 17 " حتى 2028    ناصر العطية يتوّج بلقب رالي السعودية    تشيلسي يقيم ممراً شرفياً للبطل ليفربول    ضبط 5 مقيمين نشروا حملات حج وهمية    ضبط 3212 محاولة تهريب في أسبوع عبر المنافذ الجمركية    ترحيل 15 ألف مخالف وإحالة 20 ألفًا لبعثاتهم الدبلوماسية    عرض 5 أفلام سعودية في مهرجان مالمو للسينما العربية    برعاية أرامكو| الظهران تستضيف أولمبياد الفيزياء الآسيوي بمشاركة 30 دولة    في معرض جسور ب"جاكرتا".. "ركن المساجد" يبرز اهتمام المملكة ب"التاريخية"    "رفيقا درب" جمعتهما المبادرة: «طريق مكة» تسهل على ضيوف الرحمن أداء الفريضة    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من جمهورية إندونيسيا    عبدالعزيز بن سعود يزور المسجد النبوي ويؤدي الصلاة في الروضة الشريفة    الحلم يسبق موعده    «أوساط الرأي».. جوهرة إذاعية لامعة    الإعلام السعودي من نقل الحدث إلى صناعة المستقبل    فيرمينيو يُتوّج بجائزة أفضل لاعب في دوري أبطال آسيا للنخبة    فيرمينو ومندي يحصدان الأفضلية    سفير الوطن بطلاً لنخبة آسيا    انتبهوا    "سالم الدوسري" يحصل على جائزة هداف نخبة آسيا    الأمم المتحدة تدعو إسرائيل على "الوقف الفوري" لهجماتها على سوريا    رئيس «الشورى» يرأس وفد المملكة في «البرلماني العربي»    وزير الداخلية يدشن عدداً من المشروعات الأمنية في القصيم    «الجوازات» تصدر قرارات إدارية لمخالفي الإقامة والعمل    بيانات اقتصادية مختلطة تعقد موقف الدولار مع تقلب الأسواق وانخفاض النفط    نائب أمير الشرقية يرعى حفل التخرج بجامعة الملك فيصل    انطلاق مؤتمر السلامة والصحة المهنية غدا    مبادرة طريق مكة تجمع (رفيقي الدرب) بمطار حضرة شاه الدولي بدكا    المناعة مرتبطة باضطرابات العقل    فوائد غير متوقعة للرياضة على مرضى السرطان    مكة المكرمة الأعلى هطولا للأمطار ب17.6 ملم    النقل تباشر أعمالها استعدادا للحج في أكثر من 20 موقعا    ارتفاع شهداء غزة إلى 52495    أبو سراح يكرم داعمي أجاويد 3 بظهران الجنوب    إحباط تهريب (176) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في عسير    أوبك+: زيادة الإنتاج ب411 ألف برميل يوميا في يونيو    شجر الأراك في جازان.. فوائد طبية ومنافع اقتصادية جمة    مجتمع تيك توك: بين الإبداع السريع والتمزق العميق    نجاح عملية جراحية معقدة لاستئصال ورم ضخم في كلية مسن ببريدة    الملحقيات الثقافية بين الواقع والمأمول    اللغة تبكي قتلاها    «اليدان المُصَلّيتان».. يا أبي !    جمعية خويد تختتم برنامج "محترف" بحفل نوعي يحتفي بالفنون الأدائية ويعزز الانتماء الثقافي    سجن بفرنسا يطلق عن طريق الخطأ سراح نزيل مدان بسبب تشابه الأسماء    قطاع ومستشفى المجاردة الصحي يُفعّل مبادرة "إمش 30"    أمير تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج بالمنطقة    أمير منطقة جازان يستقبل القنصل العام لجمهورية إثيوبيا بجدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين التنزيل والتأويل: نموذج المحاسبي في كتابيه العقل وفهم القرآن
نشر في الحياة يوم 03 - 04 - 2010

عرفتُ الحارثَ بنَ أسد المحاسبي (-243ه/857 م) عام 1970. كنت قد تخرّجتُ حديثاً في الأزهر، وعدتُ للعمل في دار الفتوى في لبنان، إعداداً لإكمال دراساتي العليا في ألمانيا. وقتَها كان البروفسور جوزف فان أس - الذي صار مُشرفاً في ما بعد على أُطروحتي للدكتوراه - قد نصح المرحوم الأستاذ حسين القوتلي، مدير دار الإفتاء في لبنان، والمدرّس في الجامعة اللبنانية؛ وبتوسُّط من الراحل الأب الدكتور فريد جبر، أن يُحضّر أُطروحةً للدكتوراه عن المخطوطات الباقية للمحاسبي. والمخطوطات المُحاسبية كان قد درسها كُلٌّ من الشيخ الدكتور عبدالحليم محمود الذي حضّر أُطروحةً للدكتوراه عنه في السوربون بإشراف ماسينيون عام 1946، والأستاذ فان أس الذي حضّر أُطروحةً للدكتوراه الأولى عن المحاسبي أيضاً عام 1961. وكلا الرجلين ركّز على كتاب المحاسبي: «الرعاية لحقوق الله»، والمواريث التي تركها للصوفية من بعد من خلال هذا الكتاب. وأحسَّ فان أس أكثر من الشيخ عبدالحليم محمود، أنّ المحاسبيَّ هو أكثرُ من متصوف وإن يكن رائداً في هذا المجال أيضاً. وقد بدا ذلك في عمل فان أس، الذي ترجم في أُطروحته فقراتٍ كثيرةً من رسائل المحاسبي غير المطبوعة. والمُهمُّ أنني ساعدْتُ الأستاذ القوتلي في قراءة مخطوطتي المحاسبي: «مائية العقل وحقيقة معناه واختلاف الناس فيه»، وكتابه الآخر الأكبر حجماً: «فهم القرآن». وقد أضاف الأستاذ القوتلي إلى عملَي عبدالحليم محمود وجوزف فان أس، في فهم المحاسبي، الاهتمامَ ببعدين آخرين من أبعاد التجربة الفكرية لذلك الزاهد المتميّز وهما: خلافُهُ مع الإمام أحمد بن حنبل (-241ه/ 855 م) وأسبابُهُ، وكونه الطليعة لما صار يُعرف من بعد بالسنّية الأشعرية. وعندما عدتُ من ألمانيا عام 1977، عدتُ لأسبابٍ مختلفةٍ للاهتمام بالمحاسبي، فانجلى الأمر عندي عن بُعدٍ رابعٍ لتفكير المحاسبي؛ الأول التصوف، والثاني، الاختلاف مع المحدِّثين، والثالث، ريادتُهُ الكلامية في مواجهة المعتزلة. والبُعْدُ الرابعُ هو خلافُهُ مع مُعاصرة الفيلسوف الكندي (-252ه/866م) في مفهوم العقل. فالكندي يعتبرُهُ مبدأً أول بالقوة، وجوهراً بسيطاً مدركاً للأشياء بحقائقها، والمحاسبي يعتبرُهُ غريزةً أو نوراً للغريزة يقوى ويزيدُ بالتجارب والعلم والحِلم. وما تنبَّهتُ وقتَها، أي بين العامين 1978 و1985 للبُعد الخامس أو الأساس المنهجي الجديد للمحاسبي بين التنزيل والتأويل. وقد تبيَّنَ لي في تسعينات القرن الماضي أنّ المحاسبيَّ إنما رسم منهجاً في رسالته «مائية العقل»، ما لبث أن طبَّقَه في «فهم القرآن» الذي تتراوحُ موضوعاتُهُ بين أربعة علوم: أصول الدين، والتفسير، وأُصول الفقه، والفروع الفقهية.
ما هي الأجواءُ الفكرية التي عاصرها المحاسبي بين العام 200ه، وحتى وفاته عام 243ه؟ يتبينُ من مؤلَّفات المحاسبي المختلفة، وبخاصةٍ كتابه في «المكاسب» ومائية العقل، وفهم القرآن، أنَّ الموادّ التي يستخدمُها سواءٌ في الرواية أو الدراية أو علم الكلام أو الفقه أو التفسير تنتمي إلى أربع بيئات: بيئة أهل الحديث، وبيئات المعتزلة، وبيئة اللُّغويين، الذين مارسوا التفسير القرآني، وبيئة الفقهاء. وتتخلَّلُ ذلك كُلَّه نزعةٌ زُهديةٌ غلاّبة وغير عرفانية. لكنّ منظومتَه الفكرية لا تنتمي إلى أيٍّ من هذه البيئات؛ بل إنّ الأمر يقتصرُ على استعارة موادّ البناء دون الهندسة والتشكيل. والعبارةُ المفتاحيةُ التي تتكررُ في كلّ كتبه: «العقل عن الله». واستناداً إلى هذه العبارة أعدْتُ النظر في منظومة المحاسبي الفكرية. ولنستعرضْ بشيء من التقصي ما أقصدُهُ بالمنظومة الجديدة التي توصَّل الرجلُ إليها، وما حظيت بإعجاب الكثير من مُعاصريه، وإن يكن الإعجابُ بشخصه ومسلكه، ظلَّ كبيراً وجليلاً.
يقول المحاسبي: «إنّ العقل غريزةٌ وضعها الله سبحانه في أكثر خَلْقه لم يطّلع عليها العبادُ بعضهم من بعض، ولا اطّلعوا عليها من أنفسهم برؤيةٍ ولا بحسٍ ولا ذوقٍ ولا طَعْم... فهو لا يُعْرَفُ إلاّ بفعالِهِ في القلب والجوارح...». والطريف أنّ أحمد بن حنبل مُعاصر المُحاسبي وخصمه يصلُ للتعريف نفسِه؛ إذ ينقل عنه أصوليو الحنابلة قوله: إنّ العقل غريزةٌ، والحكمة فطنة، والعلم سماع. ويضيفُ الفرّاء: «إنّ معنى قوله غريزة أنه خَلْقٌ لله ابتداءً، وليس باكتسابٍ للعبد، خلافاً لما حُكي عن بعض الفلاسفة أنه اكتسابٌ...». وهذا غير صحيحٍ طبعاً، فالفلاسفةُ جميعاً يقولون إنّ العقل جوهرٌ بسيطٌ مُدْركٌ للأشياء بحقائقها. ويوضّح الفارابي أنّ فِعْلَ العقل: «العناية بالحيوان الناطق والتماسُ تبليغه أقصى مراتب الكمال». ثم يُضيفُ أيضاً: «إنّ منزلة العقل من الإنسان منزلة الشمس من البصر، فكما أنّ الشمس تُعطي البصر الضوءَ فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصراً بالفعل بعدما كان مُبصراً بالقوة... كذلك العقلُ يفيد الإنسان شيئاً يرسمُهُ في قوته الناطقة منزلةُ ذلك الشيء من النفس الناطقة منزلةُ الضوء من البصر...».
فلا شكَّ في أنّ المحاسبيَّ يقصدُ هنا بغَرَزية العقل أنه جزءٌ من الدوافع الإنسانية، وظيفتُهُ التعقُّلُ والإدراكُ، والتمييزُ بين الأمور في الجانب النظري، وبين الخير والشرّ تفصيلاً في الجانب العملي. فالمُرادُ هنا ومن هذا الجانب إيضاحُ أمرين: وحدة الإنسان بسائر قُواه وأنها جميعاً من خَلْق الله، وأنّ السلطتين التدبُّرية والتدبيرية واللتين يتولاّهما العقلُ الغَرَزي هما سلطتان تخضعان للشروط الإنسانية، وليست السلطة الإدراكية والتدبيرية للعقل مطلقةً مثلما يرى الفلاسفةُ الذين استرشدوا في هذا الأمر بالترجمات عن اليونانية؛ باعتبار العقل في أصله آتياً من خارج الإنسان، وبالتالي فإنها سلطةٌ خارجيةٌ ذاتُ قدرةٍ مطلقةٍ على التوجيه، مثلما هي السلطة الإلهيةُ لدى متكلمي المسلمين وفقهائهم. وقد صَحَّح ابن تيمية ما ذهب إليه زملاؤه في السابق عندما قال: «وسبب غلط الفلاسفة أنّ لفظ العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً... ويُرادُ بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقلُ بها. وأمّا أولئك فالعقلُ عندهم جوهرٌ قائمٌ بنفسه كالعاقل؛ وليس هذا مُطابقاً للغة الرسل والقرآن...».
ولدى المحاسبي لا تترتّبُ على هذه المقدّمة في تعريف العقل الاختلافاتُ مع الفلاسفة المُعاصرين له وحسْب؛ بل تترتّبُ عليها نظريةٌ في المعرفة، وعلى النظرية في المعرفة، تترتب رؤيتُهُ لعلائق العقل بالنصّ من جهةٍ والعقيدة والتشريع من جهةٍ أُخرى. ففي فصلٍ عنوانُهُ: «مسألة في العقل» من رسالة «مائية العقل» يقول المحاسبي: «الحجةُ حجتان، عيانٌ ظاهرٌ، أو خبرٌ قاهر. والعقل مضمَّنٌ بالدليل، والدليلُ مضمَّنٌ بالعقل. والعقلُ هو المستدلُّ، والعيانُ والخبرُ هما علّةُ الاستدلال وأصلُهُ. ومُحالٌ كونُ الفرع مع عدم الأصل، وكونُ الاستدلال مع عدم الدليل. فالعيان شاهدٌ يدلُّ على غيب، والخبرُ يدلُّ على صدق. فمن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سَفِهَ أو سُفِّه...».
هناك إذاً مصدران للمعرفة عند المحاسبي العيانُ المُدْرَكُ بالحواسّ، والخبرَ المُنَزَّلَ من الله. والعقلُ هو الذي يُوازنُ ويُقايسُ ويتوصَّلُ من طريق «التفكر والاعتبار» كما يقول المحاسبي، إلى الحُكْم الصحيح الناجم عن هذا الاعتبار. وهذه العمليةُ هي التي يُسمّيها المُحاسبيُّ: «العقل عن الله». فالمُشاهدات والمدركات كونٌ منظورٌ، والقرآنُ كونٌ مسطورٌ، والعقلُ من طريق التدبُّر والتفكُّر والاعتبار هو الذي يضمُّ الكونين في سياقٍ واحدٍ يتناول الناحيتين: ناحية التصرفات الدنيوية، وناحية التشريعات الإلهية.
ماذا يعني ذلك في مجال التأصيل والتشريع أو مجال المنهج في فهم النصّ؟ هذا ما حاول المحاسبي إيضاحَهُ في كتابه: «فهم القرآن». ومع أنّ الكتاب يتضمن بحوثاً كلاميةً تتصلُ بالذات والصفات، وبخَلْق القرآن، وبالقضاء والقدَر، وبالوعد والوعيد؛ فإنّ أكثر فصُوله تدور حول الناسخ والمنسوخ. ومادةُ الكتاب مأخوذة في الأكثر من كتاب «الناسخ والمنسوخ» لأبي عُبيد القاسم بن سلاّم (-224ه) شيخ المحاسبي. لكنْ في حين يقصدُ أبو عُبيد إلى القول إنّ المشكلة في الاستنباط التشريعي هي مشكلةُ تنزيل الأحكام أو النصوص التي تتضمُن أحكاماً على الوقائع؛ فإنّ المحاسبي يرى أنّ المشكلة هي مشكلةُ «تأويل». والمعروف أنّ الشافعيةَ يعتبرون أبا عُبيد والمحاسبي من بين تلامذة الشافعي (-204ه). وقد يكونُ ذلك صحيحاً. إنما القضيةُ التي رآها الشافعيُّ في «الرسالة» باعتبارها مشكلةً بيانيةً، أو تنزيلية تعتمدُ الاتّباع (وكذلك أبو عُبيد وأحمد بن حنبل مع تشبُّثٍ أكبر بظاهر النصّ)؛ فإنّ المحاسبيَّ بخلاف شيخيه يرى أنّ المشكلة تأويلية. يعتبر المحاسبيُّ أنّ المعتزلة عندما قالوا بخلْق القرآن؛ فإنما أتاهُمْ هذا الوهْمُ من أنّ القول بقدَم الكلام يعني أنّ الله عَزَّ وجلَّ ينسخُ كلامَهُ بكلامه. والحقُّ أنه إنما «ينسخُ مأموراً به بمأمورٍ به. فأَبدل أحدَهما مكانَ الآخر، وكلاهُما كلامُه...». ثم انطلق يُعدِّدُ الأحكام التي تغيرت أو نُسخت مع تأكيد الله عزَّ وجلَّ أنه «لا مُبَدِّلَ لكلماتِه» (سورة الأنعام: 115، وسورة الكهف:27)؛ فعاد الى الاستنتاج الأول الذي هو تغيير حُكْمٍ بحكْمٍ ومأمورٍ بمأمور، وكُلُّ ذلك كلامُهُ. ثم ينطِقُ بالكلمة الفصل: «لقد جهلوا التأويل، إنما قولُهُ عزّ وجلَّ: نأتِ بخيرٍ منها (سورة البقرة:106) بخيرٍ مأمورٍ به، وهو أَوسَعُ لكم، وأَخَفُّ عليكم أو مثلُهُ في الخِفّة والسَعَة...».
والمعروفُ أنّ المُعتزلة - مثل الشافعي وأبي عُبيد - إنما اهتمُّوا بالتقليل من الآيات المنسوخة، من طريق اللجوء إلى الخصوص والعموم والمجمل والمفصَّل. أمّا المحاسبي فيرى أنّ هذه المسألة بالذات مسألةٌ فرعيةٌ يمكنُ حلُّها بالفعل من طريق البيان وأساليب العرب في الكلام. فللتأويل جانبٌ منها، لكنّ الجانب الأكبر بيانيٌّ وأُسلوبيٌّ وسياقي، ولا ينقُضُ المنهج الذي اتخذه لنفسِه، وأعطاه اسم «العقل عن الله». وهو يمثّلُ لذلك هذه المرة بمسألةٍ عَقَدية هي مسألةُ الوعد والوعيد التي هي أحد أصول المعتزلة الخمسة. فالله سبحانه توعَّد بالنار آكِلَ مال اليتيم والزاني والسارق وشارب الخمر والقاتل. وهو يعني بذلك أنهم مستحقُّون لذلك العذاب على ما ارتكبوا من كبائر. بيد أنه قال: «إن الله لا يغفر أن يُشرَكَ به، ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء» (سورة النساء:48). فأَوجب العقوبةَ للمشركين والكفّار، وترك لمرتكبي الكبائر فُرصة التوبة: «فإنْ أراد أن يُعذِّبَ بعضَ مَن استوجب فيُعذّبه بعدله. ويعفو عن بعض مَنْ وجب عليه (العذاب لزلاته) بفضل رحمته...». ثم يُلزمُ مُخالفيه من المعتزلة أنه برأيهم في الوعد والوعيد إنما يمنعون الخوفَ والرجاءَ، والعفوَ، وامتناع شفاعة النبي... الخ. وهكذا تبقى المسألةُ تأويلية، وليست تنزيليةً بالمعنيين. ليست تنزيليةً؛ بمعنى أنّ في النصّ تناقُضاً أو مشكلةً لا تُحَلُّ، كما أنها ليست تنزيليةً بمعنى أنها تكمُنُ في تنزيل النصوص على الوقائع. فإذا قيل إنها تنزيليةٌ بالمعنى الأول؛ فإنّ ذلك يترتّبُ عليه المستحيل هو الخُلْف في قوله عزّ وجلَّ وفعله، كما يترتب عليه الخروجُ من الإسلام. وإن قيل إنها تنزيليةٌ بالمعنى الثاني؛ فإنه تترتب عليها افتراقاتٌ وخلافاتٌ في العقائد. أمّا في التشريع واستنباط الأحكام، فإنّ الحركة تصبحُ شديدة التقييد لخروج العقل منها، والمُراوحة بين نصوص القرآن ونصوص السنّة.
لكنْ ما معنى «التأويل» إذاً لدى المحاسبي؟ استخدم المحاسبيُّ في عملياته التأويلية الموادّ التي جمعها أبو عُبيد في «الناسخ والمنسوخ». واستخدم أقلّ المادّة التي عرضها أبو عُبيدة (-209ه) في كتابه: «المجاز في القرآن». وأبو عُبيد – كما سبق القول - يتبع أُسلوب الشافعي البياني في تمييز النصوص، وربْطها بمصادر التشريع. وهكذا فإنّ الشافعيَّ وأبا عُبيد، وعلى رغم اعتمادهما على البيان وأسالييه؛ إنما كانا تنزيليَّين، أي أنهما مهتمان بالدرجة الأُولى بتنزيل النصوص على الوقائع أو تزمينها. وهنا – وعلى رغم الموادّ المُستعارة من أبي عُبيد وكثافتها - فإنّ المحاسبيَّ يذهبُ بالتأمُّل الأول للنصّ باتِّجاه مجاز أبي عُبيدة، وباتّجاه المفسِّرين الأوائل وليس المتكلمين أو الفقهاء. وهكذا فهو لا يختلفُ عنهما في اعتبار البيان؛ بل في منهج تحصيل الحكم. ومنهجُ تحصيل الحكم في العقيدة والفقه عنده يقومُ على تأويل النصّ في ضوء تجربة الجماعة المتلقية، وفي ضوء العقل الذي يزيدُهُ العلمُ، وتزيدُهُ التجاربُ – كما يقول - فطنةً وحكمةً في العملية التي يسمّيها: العقل عن الله؛ إنما بعد تلقّي الجماعة له وعيشها فيه، وعيشه فيها، فالشافعيُّ وأبو عُبيد تنظيريان، أي أنهما يرميان الى التقعيد باعتبارهما المتلقّيين المباشِرَين للنصّ؛ فالعلماءُ ورثة الأنبياء. أمّا المحاسبيُّ فهو تجريبيٌّ اجتهاديٌّ في التعامُل مع النصّ العقدي والفروعي أو الفقهي، ويريد فهم النصّ لكنْ في ضوء الإجماع. فلنتأمَّلْ الأمثلة التي يذكُرُها لمعنى «العقل عن الله»، عسى أن يُفيدنا ذلك في التعرُّف على ماذا يريدُهُ من وراء التأويل أو العقل عن الله من طريق التأويل. ففي قوله تعالى: «ولا تجهر بصلاتك ولا تُخافِتْ بها...»، اختلف العلماء: «والأمة مجمعةٌ - كما يقول المحاسبي - أنّ للمصلّي أن يرفع صوته وأن يُخافِتَه». وفي قوله تعالى: «وآتيتُم إحداهنّ قِنْطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً» (سورة النساء:20)، اختلف العلماء أيضاً، وقال بعضُهم بالنَسْخ. والمحاسبي يرى الإحكامَ، واتّباعَ المصلحة في الحالة المعينة... وهكذا يمضي معدِّداً عشرات الحالات التي اختلف فيها الصحابة والتابعون، ثم أجمعت الأمةُ على شيء مخلتفٍ أو ذهب هو إلى ما يُخالف الأقوالَ السابقة. ولذا فالذي يمكن قوله إنّ للتأويل عنده ثلاثة أُسُس: المستوى اللغوي الظاهر فالمجازي. ومستوى إجماع الأمة أو جمهور الفقهاء. ومستوى التعقُّل الفردي للمصالح. أمّا المستوى الأول فالمحاسبيُّ يبدأُ بالنص في تعقُّل لُغَويٍ بحتٍ باعتباره خاماً أو طازجاً ما صرَّح عن مكنوناته بعد. وهو يتوسع في المستويين الآخرين؛ مع اعتبار المستوى الثالث عملية تفكرٍ ومُوازنةٍ وتعقُّل للنص وتجربة الجماعة معه، معاً. وبذلك يبقى تجريبياً بالفعل، قبل ظهور التدقيقات القياسية في تحقيق المناط وتنقيحه، ذلك أنه يعتبر النصَّ الإلهيَّ القرآنيَّ والنبويَّ واحداً. ويمضي منه مباشرةً إلى الجماعة التي تتلقّى النصَّ. ثم يؤول الأمر بالفقيه إلى تأمُّل النصّ وعمله في الجماعة في ما يسمّيه عملية العقل عن الله.
لماذا ذهب المحاسبي إلى هذا المعنى للتأويل؟ المؤكَّد أنه عرف أعمالَ أبي عُبيد، وربما عرف رسالةَ الشافعي. لكن يبدو أنه ما اقتنع بها أو أنّ أُطروحةَ الشافعيّ ما كانت قد سطعت تأثيراتُها. وعلى كل حال، فإنّ الخلافَ لا يتناولُ العلاقةَ بين التأويل والتنزيل بالمعنيين وحسب؛ بل يتناول أيضاً مفهوم التأويل، وهو عند الفقهاء عمليةٌ لغويةٌ وأُسلوبيةٌ بحتة.
أين يقعُ عملُ المحاسبي المنهجي هذا من أعمال الأُصوليين والفقهاء في ما بعد في شتّى المذاهب؟ ظلَّ الأصوليون يكررون في كتبهم رأْيَ المحاسبي في مفهوم العقل أو تعريفه. بيد أنّ أحداً منهم ما تابعهُ في رأيه أو منهجه الشامل باعتباره أنّ «العقلَ عن الله» إنما يعني اعتماد التأويل في شتّى العلوم الإسلامية، للخروج من التأصيل، ومن المنهج الاتّباعي بتنزيل النصوص على الوقائع أو تزمينها بهذه الطريقة.
محاضرة أُلقيت في أغادير - المغرب في 30/3/2020 خلال مؤتمر رابطة علماء المغرب عن «العلوم الإسلامية - أزمة منهج أم أزمة تنزيل».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.