* إن كان الخلود يعني البقاء الدائم، والرسوخ يشير إلى عمق الثبات والتجذر في الأرض، فإن الأعمال الفنية التي تملك خاصية الثبات، وتحفر عميقاً في أفئدة الناس تمنح أصحابها أوسمة العبقرية ونياشين النبوغ، فما إن يحمل المنتوج ديباجة التميز والرسوخ حتى يفتح التاريخ أبوابه مشرعة لصاحب العمل، ويمنحه حق السمو والشموخ. * كثيرة هي الأعمال التي تقدم على أنها عروض مسرحية جديدة، بينما المواضيع مكررة، وروح الإبداع غائبة، والنصوص تفتقر للتعبير الساحر والأسلوب الساخر. * من يصدق أن مسرحية (مدرسة المشاغبين) المقتبسة عن الفيلم البريطاني (إلى المعلم مع الحب) قد مر على تقديمها لأول مرة (أربعة وخمسين) عاماً، بينما لا تزال تمثل خيار المشاهدة الأول كلما بحث الناس عن مساحات ترفيهية وابتسامة صافية و(قفشات) حقيقية. * تظل برمجة الفضائيات العربية في الأعياد والمناسبات واحدًا منقوصًا لا يكتمل الا بإعادة عرض مسرحية (مدرسة المشاغبين) التي تمثل (فصلاً إستثنائياً) في تاريخ المسرح العربي في العصر الحديث ..! * لم تقدم (مدرسة المشاغبين) نفسها كمسرحية مختلفة تربعت على سدة عرش الكوميديا فحسب، ولكنها منحت شبابًا مسكونًا بالموهبة جواز مرور للساحة الفنية، وسلمتهم طائعة مختارة مفاتيح الصيت والذيوع وفتحت لهم مغاليق أبواب النجومية . * عرف الناس الزعيم عادل أمام عن كثب عبر (مدرسة المشاغبين)، وقدم الأسطورة أحمد زكي من خلالها أوراق اعتماده للمسرح العربي، وحفظ بعدها الناس أسم ريحانة الكوميديا يونس شلبي، وقال في فصولها المُقِل المجود هادي الجيار كلمته، بينما كانت الابتسامات تلاحق الشاب القادم بسرعة الإفلات سعيد صالح وهو ينحت على الصخر بصبر مستندًا على موهبة فذة في تجربته المسرحية الثانية بعد (هالو شلبي)..! * أحدثت مدرسة المشاغبين، التي تعتبر علامة كوميدية فارقة هزة عنيفة في المسرح العربي في مطلع سبعينيات القرن المنصرم، واستمر نجاح عروضها المتدفقة لسنوات طوال، وباتت أسماء أبطالها محفورة في الأفئدة ومحفوظة لكل لسان، كيف لا وتعليقات الطالب الشقي (مرسي الزناتي) مع أستاذته سهير البابلي، ومدير المدرسة حسن مصطفى راسخة في الأذهان ويرددها الجميع في جلساتهم بعد ما سارت بعباراتها الركبان. * لم تسلم (مدرسة المشاغبين) من الهجوم، كربجوها بسياط الحروف الحارقة، وألهبوا ظهر كاتبها على سالم ومخرجها جلال الشرقاوي بعبارات حادة، ويدون النقاد أن عددًا من علماء الاجتماع كانوا يطالبون بالتقليل من عرضها؛ بسبب سخريتها من رموز السلطة المدرسية التي تتمثل في (ناظر المدرسة)، وقالوا إنها تحتقر القيم والمثل العليا للتعليم، وتدعو لقبول الفوضى وانحطاط مستوى الأدب العام، لينبري البعض مدافعًا، ومؤكدًا أن الفن يسلط الضوء على الظواهر، ولا تتم محاكمته بهذه (الطريقة الجنائية). * مرت السنوات والعقود وخلُدت (مدرسة المشاغبين) التي يقول كاتبها علي سالم: إنها كانت انعكاسًا لفترة انهارت فيها القيم التقليدية، وتحولت إلى مثار للسخرية. * السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: أين هي الآن الأعمال المسرحية القادرة على إحداث الضجة، وتحريك السكون، وحمل لواء التفكير بطرح قادر على الوصول للناس والرسوخ والثبات، فالمسرح العربي للأسف لم يعد يقود حركة التغيير والاستنارة ويهبش عصب قضايا الناس لبعده عن هموم الأمة، ومفارقته للكوميديا المليئة بالمواجع، والغنية بالرسائل والمحتشدة بالمعاني والمفارقات. نفس أخير. .المسرحيات سريعة الذوبان تدخل بهدوء تام لكهوف النسيان.