صحَّ لسان (مهندس الكلمة) الذي إن غاب (البدر) تبقى كلماته محفورة في الأذهان، مطبوعة في الوجدان. ففي ما حلَّ (اليوم العالمي للعمل الخيري) لعامنا هذا، وبحثت معظم دول العالم، حتى (العظمى) منها في سجلاتها القديمة والحديثة عمَّا يمكنها أن تفاخر به الأمم، فعادت بخفي حنين، غير أنهما هذه المرة كانتا غائرتين في وحل دماء الأبرياء التي تلطَّخت بها يديها في كل مكان في العالم، إضافة إلى سجل حافل بشركات عابرة للقارات، تنقل أدوات الخراب والدمار، عبر ناقلات ضخمة برَّاً، بحراً وجوَّاً لكل أصقاع الدنيا، دمَّرت كل ما أتت عليه، فنشرت الفوضى والفساد وسمَّمت البيئة، ففاحت رائحة الموت في كل مكان حلَّت به. أقول، في ما زادت شهية الآخرين للقتل والخراب والدمار والفساد في الأرض، تُبَاهِي السعودية مملكة الإنسانية وتُفَاخِر بسجل إنساني ناصع فريد، عبر نصف قرن من الزمان، أنفقت خلاله نحو ستمائة مليار ريال على مشروعات إنسانية في مختلف قارات العالم، فكانت جهودها المخلصة الطيبة الزكية، برداً وسلاماً على كثير من المستضعفين في الأرض، الذين تقطعت بهم السبل، نتيجة غدر أنظمة حكمهم بهم، وقهرهم واستعبادهم لإشباع شهواتها وشبقها للسلطة والثروة والنفوذ. ليس هذا فحسب، بل توَّجت مملكة الإنسانية مشروعها الإنساني الفريد الاستثنائي، الذي لم يستثنِ أحداً من أصحاب الحاجة في العالم كله، حتى من ناصبنا ذات يوم العداء، لعقيدة أو عرق أو جنس أو لون، بتأسيس مركز عالمي للعمل الإنساني (مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية) الذي شرَّفه القائمون عليه مشكورين، فأطلقوا عليه اسم رائد العمل الإنساني الخيري في العالم كله اليوم، خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الذي نعرفه جيِّداً، بل يعرفه الكل، أن مقامه السامي الكريم، لا يجد لذَّة في الحياة في أي شيء مهما كان، مثلما يجدها في العمل الإنساني الخيري الذي أدمنه، فأصبح جزءً أصيلاً في روتين عمله اليومي. وليس بعيداً عن العمل الإنساني، وإن كان واجباً شرعياً شرَّفنا الله عزَّ و جلَّ به، تحتمه رسالة بلادنا السامية العظيمة، هذا الاهتمام الكبير الدائم، وتلك الرعاية الفائقة، والأمن الوارف الظلال لضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين وزائرين بالملايين على مدار العام، دونما كلل أو ملل، بل على العكس تماماً: يجد كل القائمين على هذا الشرف العظيم، من أصغر موظف أو عامل، حتى قائد مسيرة خيرنا القاصدة وولي عهده القوي بالله الأمين، متعة عظيمة في أداء هذا الواجب العظيم. وليس بعيداً أيضاً عن العمل الإنساني، استضافة مملكة الإنسانية لأكثر من (14) مليون من الإخوة الوافدين من أكثر من مائة دولة من كل قارات العالم، يشكلون أكثر من (40%) من عددنا، يعيشون بيننا بكرامة، مطمئنين آمنين على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، يعملون في مختلف الوظائف والمهن في القطاعين العام والخاص. تغلغل حُبُّ بلادنا في كل خلية في جسدهم، لما وجدوه من تعامل إنساني راقٍ. و ظلَّ حتى أولئك الذين تقاعدوا عن الخدمة لسن أو مرض أو أي ظرف آخر خاص بهم، وعادوا أدراجهم إلى موطنهم الأصلي، ظلُّوا يحملون أصدق مشاعر العرفان والامتنان لبلادنا.. بلاد الإنسانية والخير والأمن والأمان والاستقرار والاطمئنان. وقد رأيت كثيراً من المشاهد التي تقشعر لها الأبدان حقَّاً، ولا بد أن كثيرين منكم رأوها: * رأيت كثيراً من أبناء هذا الوطن يحتفون بالإخوة الوافدين، إن كانوا يعملون لديهم، أو كانوا أصدقاء أو زملاء في عمل ما، فمنهم من تحمل نفقات زواج أولئك من الألف إلى الياء، وأقام لهم الموائد العامرة، مثلما يفعل لنفسه أو لولده. * وهنالك من استمر في صرف راتب من كان يعمل لديه من الإخوة الوافدين ثم توفاه الله، لعائلته في بلدها الأصلي، واهتم بتعليم أبنائه وبناته، وكتب في وصيته لأبنائه الالتزام بهذا حتى يبلغ جميع أفراد عامله المتوفى الرشد. * وقد رأينا كلنا كيف تودع كثير من العائلات السعودية العاملين لديها في المطارات، لاسيَّما العمالة المنزلية، حتى الصغار يودعونهم بالدموع، في مشاهد إنسانية نادرة، لم يرها العالم إلا في بلادنا، مملكة الإنسانية. * بل إن أكثر المشاهد الإنسانية التي تقشعر لها الأبدان حقَّاً: مشهد إبل في الصحراء، رضعت من صاحبها الإنسانية والوفاء، جاءت تركض تقبِّل راعيها الوافد الذي غاب عنها في عطلة لمدة ستة أشهر، عندما سمعت صوته يناديها عند عودته إليها. والحقيقة، يبقى الحديث في هذا الموضوع ذو شجون كما يقولون، غير أنني أكتفي بهذا القدر لأغرد مع (البدر): فوووووق هام السحب وإن كنْتِ ثرى وفووووق عالي الشهب يا أغلى ثرى عِزِّك لقدام وأمجادك ورا *** حِنا هَلِك يا دارنا برد وهجير ونستاهلك يا دارنا وخيرك كثير *** نستاهلك يا دارنا وحِنا هَلِك أنتِ سواد عيوننا شعب وملك وتبقي بلادنا: ما مثلها بهالدنيا بلد. اللواء الركن م. الدكتور بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود