لله در الفصحاء والفصاحة.. فقد امتاز العرب بالفصاحة والبيان بل أصبحت صفة من صفاتهم وكيف لا وهم الذين عُرفوا بلسانهم العربي في الشعر والنثر.. وامتلأت أسواق عكاظ بهذه البضاعة الثمينة النفيسة ولذا كان معنى الفصاحة في اللغة هو خلو الشيء مما يشوبه، وأصل ذلك في اللبن، فيقال (فصُح اللبن) أي إذا ذهب عنه اللبأ، وهو الرغوة التي تغطي سطحه. وقد قيل (وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الْفَصِيحُ). لكن كثيراَ ما نسمع ونشاهد مع الأسف في بعض الفضائيات كثرة الأخطاء النحوية واللفظية التي تحدث من مقدمي بعض البرامج بما فيهم ضيوف الحلقة أنفسهم.. الأمر الذي يدهشك لكونه يحدث خاصة وأن المذيع أو مقدم البرنامج من المفترض أن يكون قد أعد واستعد لبرنامجه استعدادا مسبقاً لكل فقرات ما سيقدمه.. لكني فوجئت ذات مرة أن مقدم البرنامج يستضيف طبيباً فالطبيب والمذيع معاً يقولان عيوب خُلُقية (بضم الخاء واللام) بدلاً من عيوب خَلْقية (بفتح الخاء وسكون اللام) فصار الموقف غريباً وأثار موجة من الاشمئزاز لأنه حتى الطبيب ضيف الحلقة وقع في هذا الخطأ وكان يقصد عيوب (خَلْقية) بفتح الخاء، وأصبح يكررها على مدى البرنامج بينما صاحبنا مقدم البرنامج يسترسل في العيوب الخلقية بضم الخاء.. عفا الله عنهما فقد كنت أعتقد أن النطق والتعبير الصحيح يُعينان المستمعين من الأجيال على التفريق بين المعنيين ويشكلان رافداً لمسامعهم للنطق والتعبير الصحيحين، لكن لا الطبيب ولا مقدم البرنامج استدركا ذلك الخطأ.. وكذلك عدم التفريق بين كلمة (أكفاء) بكسر الكاف والفاء المشددة بالفتح ومعناه فاقدين البصر فهي جمع (كفيف)، وبين كلمة أكفاء بسكون الكاف وفتح الفاء بدون تشديد جمع كفؤ أي الكفاءة والقدرة.. وما أود أن أقوله هو أن الطبيب الذي يفرق بين معنى (فيروس ووباء) في الطب يستطيع أن يجتهد قليلا ليعرف الفرق بين العيوب الخلقية بفتح الخاء والعيوب الخلقية بضم الخاء. أما مقدم البرنامج فلابد أن يجتهد لمعرفة الإعراب على الأقل الجمل البسيطة الفعلية والاسمية وحروف الجر الظاهرة ويترك للمستمعين والمشاهدين أعانهم الله المستترة مع الضمائر.. يحكى أنه دخلت امرأة ذات يوم على الخليفة تشكو زوجها الذي أراد أن يأخذ وحيدها ومشيرة إلى ولدها قائلة: هذا الذي حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً، ولم أنل منه نفعاً، حتى إذا تمت أوصاله، واستوفت خصاله، أراد أن يأخذه قسراً، ويسلبنيه قهراً ويتركني منه صِفْراً.. فأين نحن من هذه الفصاحة ? ومما يحكى أيضا عن فصاحة العرب أن الحجاج لقي يوماً أعرابياً فقال له من أين أقبلت ؟ فقال الأعرابي:من البادية.فقال الحجاج:وماذا في يدك؟ قال الإعرابي:عصاي أركزها لصلاتي، وأسوق بها دابتي،وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي، فتقيني الحر وتؤمنني القر، وتدني إليّ ما بعد مني، وهي محل سفرتي،وعلاقة أدواتي، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند مبارزة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي إبني، وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى كثيرة ولا تحصى..والآن دعنا عزيزي القارئ نتساءل: أما آن لهذه اللغة أن تُبعث إثر موتها الذي نعاها فيه حافظ إبراهيم يرحمه الله في قصيدته التي قال فيها (أنا البحر في أحشائه الدر كامن) أم لا يزال الوقت جد مبكراً ؟!