بقلم : مها علي النباتي في عالمٍ يموج بالمعلومات والأفكار المتباينة، يصبح الوعي الفكري ضرورةً ملحّة، فهو النور الذي ينير درب الإنسان ليحسن التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر. وقد أولى القرآن الكريم أهمية كبرى لهذا النوع من الوعي، باعتباره أداة لفهم الدين، وحماية العقيدة، وتعزيز التفكير النقدي، مما يسهم في بناء مجتمع متماسك واعٍ. الوعي الفكري: مطلب ديني لفهم القرآن ومعانيه الوعي ليس مجرد إدراك سطحي، بل هو حالة عقلية متعمقة لفهم القرآن ومقاصده، كما قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89). وهذا يوضح أن القرآن مصدر للوعي والهداية، ويجب على المسلم أن يتدبره ويتفكر في معانيه ليعيش حياة قائمة على الإدراك الصحيح لا التقليد الأعمى. الوعي الفكري حماية من الانحرافات الفكرية والعقائدية أحد أهم أدوار الوعي الفكري هو صيانة العقيدة من الانحرافات، والحماية من التيارات الفكرية الهدامة. وقد حذر الله تعالى من اتباع الطرق المضللة، فقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: 153). وهذا تأكيد على أن الطريق المستقيم واحد، بينما الانحرافات الفكرية متعددة ومتفرقة، ولا يمكن النجاة منها إلا بالتمسك بالوعي المستمد من القرآن والسنة. الوعي والمعرفة في ضوء الإعجاز العلمي حثَّ القرآن الكريم على التدبر في آيات الكون، وربط بين العلم والوعي، فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190). وهذا يشير إلى أن الوعي يشمل استيعاب المعلومات السابقة، وربطها بالمعارف الجديدة، وتسخيرها لفهم الواقع، وهو ما يثبت أن الإسلام دين يحث على التفكر والعلم، لا الجمود والانغلاق. تعزيز التفكير التحليلي والتأملي حثّ القرآن الكريم على التأمل والتدبر، ودعا المسلم إلى عدم الاستسلام للأفكار السائدة دون فحص وتمحيص، فقال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَيُحَاجُّونَكَ فِيهِ﴾ (النساء: 82). فالتفكر العميق في معاني القرآن، ومقارنة ما يحدث في الحياة بميزان الشرع، يرفع مستوى الوعي عند الإنسان، ويجعله قادرًا على اتخاذ قرارات صائبة مبنية على المعرفة الحقيقية لا العواطف والانفعالات. الوعي والتفكير النقدي ونبذ التقليد الأعمى يرفض الإسلام فكرة التبعية العمياء للأفكار والمعتقدات دون تمحيص، ويؤكد على ضرورة استخدام العقل في نقد التراث الفكري والاجتماعي، فقال الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ (المائدة: 104). فالوعي الفكري يحمي الإنسان من الجمود، ويجعله قادرًا على تقييم الأفكار بعيدًا عن التقليد الأعمى، مما يساعده على بناء عقيدة سليمة قائمة على الفهم لا على الوراثة فقط. دور الحواس والقلب والعقل في تكوين الوعي الوعي لا يقتصر على الإدراك العقلي فقط، بل يشمل القلب والحواس التي تعد منافذ المعرفة، وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ (الحاقة: 11-12). فالسمع والبصر والفؤاد كلها أدوات لفهم العالم من حولنا، وإذا تعطل دورها بفعل الجهل أو الغفلة، فإن الوعي يصبح مشوشًا، وقد يؤدي ذلك إلى اتخاذ قرارات خاطئة. الوعي الفكري حماية للمجتمع من الفوضى المجتمع الواعي هو المجتمع القادر على مواجهة الفتن، وحفظ هويته وقيمه من الذوبان في الثقافات الدخيلة. ويكمن دور الوعي في: غرس المبادئ الأخلاقية والسلوكية التي تحفظ كيان المجتمع. تعزيز الحوار البناء بين أبناء الأمة، بدلًا من الصراعات الفكرية العقيمة. حماية الشباب من الانجراف وراء الأفكار الهدامة التي تؤدي إلى الفوضى والانحراف. ختاما الوعي الفكري في الإسلام ليس خيارًا، بل ضرورة دينية وحياتية لحماية الفرد والمجتمع من الضياع. وهو الوسيلة التي تضمن لنا السير على الصراط المستقيم، بعيدًا عن الانحرافات الفكرية والعقائدية. وفي ظل التحديات التي تواجه أمتنا اليوم، أصبح تعزيز الوعي الفكري من أولويات المرحلة، ليكون المسلم قادرًا على التحليل، والتدبر، واتخاذ المواقف بناءً على العلم واليقين، لا التأثر بالعواطف والشائعات. فلنحرص جميعًا على بناء عقول واعية، وقلوب مستنيرة، ونكون كما وصف الله تعالى المؤمنين: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ (المدثر: 18-19)، أي أن التفكير السليم يؤدي إلى قرارات صائبة، والوعي الصحيح هو السبيل إلى النجاة من الفتن والضلالات. بقلم : مها علي النباتي باحثة دكتوراه بجامعة الملك خالد.