فيما كان الخبر ينتشر بين جماعته وأقاربه، أخذت قوافل المعزّين تتوالى على منزل حمود الشمري. كثيرون كانوا يتهامسون فيما بينهم: “لقد فقد هذا الرجل ابنا له قبل سنوات قتيلا، وها هو الآن يفقد ابنه الثاني أيضا.. فماذا تراه سيفعل؟ هل سيصفح كما فعل في الفاجعة الأولى؟” البعض كانوا يرون أن حمود الشمري قد صفح في المرة الأولى لكون ابنه الأول (عبدالرحمن) قتل دهسا، ولكن هذا لا يعني أنه سيصفح في حالة ابنه (عواد) الذي راح ضحية طعنة مقصودة وغادرة. أما البعض الآخر، فكانوا يرون أن الصفح صفة دائمة، وعندما توجد في إنسان فإنها لا تغيب. وعم الصمت في مجلس الشمري المتواضع في حي البادية المتواضع أيضا، قبل أن يشقه بثقة صوت الأب المفجوع، وهو يطلب من جماعته أن يرافقوه نحو منزل أسرة القاتل، وهو منزل جاره القريب قبل أن يكون منزل قاتلي ابنه. لم يعرف أحد ما الذي سيفعله حمود ذو ال50 سنة، ولكنهم لحظوا هدوءه ورباطة جأشه فتبعوه. وأمام منزل الخصوم، ظهر أطفال قالوا ان كبار العائلة جميعهم في مركز الشرطة. وهنا التفت حمود إلى مرافقيه وقال: “إذن فلنذهب للشرطة”. وفي قسم شرطة المنتزه شرق حائل، كانت المفاجأة. إذ أعلن حمود عن أمرين: الأول أنه لن يخرج من مركز الشرطة قبل خروج والد القاتل وإخوته. والثاني أنه متنازل دون قيد أو شرط عن الشاب القاتل. وكان احتجاز والد القتيل وإخوته قائما من أجل مجريات التحقيق أولا ثم من أجل حمايتهم ثانيا، ولكن عندما اتضح أن مصدر فرض الحماية هو من يطالب بخروج خصومه مؤكدا تنازله الكامل عنهم، لم يكن هناك بد من إطلاقهم ليعود رجال الأسرتين إلى منزليهم المتجاورين. وفي اليوم التالي دفن الشمري ابنه، وعاد لمنزله يستقبل المعزّين الذين تقاطروا من كل جهة بعدما سمعوا بما جرى في قسم الشرطة، ولما كان والد القاتل معروفا في أوساط الحي بكرمه ونبله، وبأبواب منزله المفتوحة، فقد أصر حمود عصر ذلك اليوم على أن يفتح والد القاتل أبواب منزله كما كان العهد بها، مؤكدا أن منزله ومنزل جاره هما منزل واحد، وأنْ لا مسوّغ يدفعه لإغلاق أبواب منزله بسبب العزاء في منزله. وكانت ملامح الدهشة قد سيطرت على بعض المعزين من خارج الوسط، إذ كانوا يدخلون بالخطأ لمنزل القاتل لتقديم التعزية، وكانت تقبل تعازيهم ثم يوجهون للمنزل الصحيح. وعلى العكس كان المعزون يخرجون من منزل حمود، ويمرون بمنزل خصمه ليعزوه هو الآخر بمقتل عواد، وليُظهروا له تعاطفهم مع العفو عن ابنه. ولم يكن الملك عبدالله بن عبدالعزيز بعيدا عما يجري في حي البادية، لقد سمع بالقصة منذ بدايتها، وشهد على فصولها الشجاعة، وآثر ألا يسمح بمرور هذا الموقف مرور الكرام، وكان ذلك سبب استقباله لحمود الشمري قبل يومين، حيث قال له: “هذا يرفعنا ويرفع الشعب كله ويرفعكم عند الرب عز وجل لأن هذا عمل أخلاقي وبطولي وإنساني. وعملكم هذا إن شاء الله كل مسلم يصير عليه مثل هذا الحادث يحذو حذوكم”. قبل أن يمنحه وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى تقديرا لقراره بالعفو المباشر. وقال ابن طوعان مخاطبا الملك في كلمة ألقاها نيابة عنه أحد أقاربه وهو خلف الشمري: “إن أول عمل قمت به بعد توليكم مقاليد الحكم هو العفو والتسامح وأنت مَن ناشد العالم في المحافل المحلية والدولية باحترام حقوق الإنسان كإنسان بصرف النظر عن دينه، ولونه، وجنسيته، وهذه دعوة إلى العفو والتسامح”.