«من الميدان»... القطاعات الأمنية توثّق جهودها اليومية بعدسة الكاميرا    مدرب نيوكاسل عن هدف الهلال: إيزاك مستمر.. هو لاعب لا يعوض    القبض على باكستانيين في المدينة المنورة لترويجهما (الشبو) المخدر    47 ألف بلاغ إسعافي بالشرقية في النصف الأول للعام 2025م    العلا قديما.. تناغم فريد بين الإنسان والطبيعة    أكثر من 11 ألف طن من مياه زمزم لسقيا ضيوف الرحمن في المسجد النبوي    1541 حالة ضبط بالمنافذ خلال أسبوع    المملكة تقدم مساعدات لنازحي السويداء    7 جوائز دولية للطلاب السعوديين في أولمبيادي أستراليا وألمانيا    ضبط 23 ألف مخالف للأنظمة    لا ترم كنزك: الموظفون القدامى وتشكيل النجاح    ترسيخ الاعتدال ومحاربة التطرف    676 مستفيدا من الاستشاري الزائر بصامطة    وفاة الوليد بن خالد بن طلال بعد معاناة مع المرض    الديوان الملكي: وفاة الأمير الوليد بن خالد بن طلال بن عبدالعزيز    بدء القبول في المعاهد الصناعية والدبلوم المسائي بالرياض    الذئاب يستعيد مدربه    السعودية تُرحب بالتوقيع على إعلان مبادئ بين الكونغو وتحالف نهر الكونغو    جمعية نجوم السياحة بمنطقة جازان تشارك في فعالية "ثقف" بنسختها الثالثة    روسيا: أوكرانيا خسرت أكثر من 1195 جنديا خلال يوم واحد    أمير منطقة جازان يفتتح مبنى فرع وزارة "الموارد البشرية"    برشلونة يتعاقد مع ماركوس راشفورد بنظام الإعارة    تين هاغ غير منزعج رغم خسارة ليفركوزن بخماسية وديا    حسام حبيب: السعودية أصبحت مركزا فنيا عالميا    تير شتيغن سيخضع لجراحة في الظهر مما يهدد مصيره مع برشلونة    ترمب يقاضي مردوخ ويطالبه ب 10 مليارات دولار    رغم إعلان وقف إطلاق النار.. خروقات في السويداء وعدد القتلى يرتفع إلى 940    مجلس الجمعيات الأهلية بجازان ينفذ لقاء التواصل الثالث مع ممثلي الجمعيات بالمنطقة    514 مليار ريال الصادرات غير النفطية السعودية في 2024    الأونروا: لدينا غذاء يكفي غزة لثلاثة أشهر لكنه عالق بسبب إغلاق إسرائيل المعابر    صدور قرار تقاعد مدير مكتب التعليم بطريب والعرين الأستاذ حسين آل عادي    حرائق الغابات تلتهم 6 ملايين هكتار في كندا حتى الآن    رياح نشطة وأتربة مثارة في عدة مناطق    الاتحاد يضم الغامدي حتى 2023    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بحضور رئيس النادي    تراجع أسعار النفط    الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    أمير الشرقية يدشّن المخطط العام لمطار الملك فهد الدولي... الأحد    إدارة "النصر"تعيّن البرتغالي"خوسيه سيميدو"رئسياً تنفيذياً    "وِرث" و"السودة للتطوير" تطلقان برنامجًا تدريبيًّا لفن القط العسيري    حسين آل الشيخ: النميمة تفسد الإخاء وتورث العداوة    المعيقلي: «لا حول ولا قوة إلا بالله» كنز من كنوز الجنة    إنقاذ مريضة تسعينية بتقنية متقدمة في مركز صحة القلب بمدينة الملك سعود الطبية    جراحة تنهي معاناة مريضة من آلام مزمنة في الوجه والبلع استمرت لسنوات ب"سعود الطبية"    تجمع مكة الصحي يفعّل خدمة فحص ما قبل الزواج بمركز صحي العوالي    اختتام أعمال الإجتماع الأول للجان الفرعية ببرنامج الجبيل مدينة صحية    خارطة لزيادة الاهتمام بالكاريكاتير    جامعة الإمام عبد الرحمن تختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي    (إثراء) يعلن عن فوز 4 فرق في المنافسة الوطنية لسباق STEM السعودية    برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية يعلن توطين تقنية «فيچ قارد»    السعودية تعرب عن بالغ الأسى لحادث الحريق الذي اندلع في أحد المراكز التجارية في مدينة الكوت العراقية    أمير منطقة جازان يستقبل وكيل الإمارة والوكلاء المساعدين الجدد    وزارة الحج والعمرة تكرم عمر بالبيد    إسرائيل تكثّف ضرباتها على سوريا رغم تعهدات التهدئة.. اشتباكات دامية في السويداء والجيش يفرض السيطرة    20 قتيلاً.. وتصعيد إنساني خطير في غزة.. مجزرة إسرائيلية في خان يونس    نيابة عن أمير عسير محافظ طريب يكرم (38) متفوقًا ومتفوقة بالدورة (14) في محافظة طريب    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمي تصنع شملة!
نشر في عكاظ يوم 16 - 02 - 2019

(أمي تصنع شملة)، عنوان طفولي -إن صح الوصف- لكنه مقصود، فالمقال قليل من ذكريات الطفولة القابعة في مكان قصي في جنبات كهوفها الخفية، تعود إلى أكثر من خمسين عاماً مضت.
في صبيحة يوم لا يتكرر إلا مرة كل بضع سنين، نتحلق نحن الصبية في مكان ما، ننتظر بلهفة وشوق حدثاً استثنائياً -كنا قد سمعنا عنه- يكسر رتابات أيامنا المتشابهة؛ هذا الحدث هو قيام أمي رحمها الله -شأنها شأن قريناتها آنذاك- بما يسمونه (طَرْحُ شَمْلة) ويعني شروعها في حياكة شَمْلَة، والشملة نوع من المنسوجات عبارة عن كِساء من صوف أو شعر يُتَغَطَّى ويُتَلَفَّف به، ويستخدم أحياناً فراشاً يوضع في الغرف حيث لم تكن الناس تعرف (الموكيت) أو السجاد. إن طقس طرح (الشملة) يأتي مكملاً ومتمماً لخطوات تسبقه بعام وأكثر؛ تبدأ بجز الصوف من الأغنام؛ الماعز والشياه وهي عملية يقوم بها في بيئتنا عادة الرجال، تليها عملية غسله ثم تفكيكه ليصبح عِهْناً منفوشاً، ويستخدم لذلك (الكِرْدَاش) وهو آلة تتكون من لوحين مدببين بداخلهما أسنان، ومن ثم تتم عملية غزله ب (الغَزْلَةِ/‏‏ المغزلة) وهي عصا مقسومة من أعلاها إلى قسمين حيث يوضع الصوف في مقدمتها، ويُبْرَم ب(المِغْزَل)؛ وهو ابن الغزلة لتكوين خيوط تجمع في كرات كبيرة، تؤخذ بعد ذلك إلى محل صِبَاغَة، يقوم بفردها أولاً، ثم تغميسها في سطول كبيرة ممتلئة بسوائل الصِبَاغِ الملونة المختلفة وأهمها الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر والبرتقالي.
وتعاد من عند الصَّباغِ إلى النساء في البيوت مكتنزة بروائح غير مألوفة لنا، وبألوان فاقعة تسر الناظرين، وتمنح عيون الرائين إليها -ومنهم نحن الأطفال- متعة بصرية لا توصف، وكأني بها تملأ المكان وتشغل الزمان، الفقيرين عادة إلى دفء الألوان وثرائها وطاقاتها.
في اليوم المُعَدِّ لعملية الطرح هذه، تُجَهِزُ والدتي بمساعدة جاراتها وقريباتها إحدى غرف المنزل القليلة لهذه الغاية، وعلى مساحة يقارب طولها أربعة أمتار وعرضها متران، تنصب أربعة أعمدة تسمى بالمناسيب من أربعة جوانب لربط الخيوط الصوفية التي جففت مسبقاً في الشمس لتجف من سوائل مادة الصباغ. وتبدأ عملية الحياكة هذه، باستخدام أدوات منها (المِدْرَا) وهو مسمار حديدي معكوف الرأس، له مقبض خشبي تغرز به خيوط النسيج. وكذلك (المِنْشَزَة) وهي قطعة خشبية مستطيلة الشكل ذات طرفين حادين تستعمل لرصف الخيوط على الشملة بعد تشكيلها. تظل والدتي تضحي وتسرق كثيراً من وقت راحتها ونومها، ووقت عيادة الجارات والقريبات، من أجل إتمام حياكة الشملة، وما كان لها -رغم انشغالها بهذا العمل- أن تترك مهامها اليومية شبه المقدسة لديها من رعي للأغنام، وحلبها وإطعامها وسقياها، وكذلك جلب الحطب والماء، وطبخ وغسيل، ورتق ثوب لأحد أفراد الأسرة قد شُقَّ. يستغرق العمل في الشملة وعليها ما يقارب الأسبوعين، وكان من المعتاد أن تأتي إلينا القريبات والجارات بين حين وآخر ليساعدن والدتي في موقف ينم عن الحب والتعاون والتكاتف. كنت أراها -رحمها الله- مسرورة وهي تنظر مساء كل يوم لترى مقدار ما أنجزته؛ والإنجاز يتمثل في عملية الحياكة التي تستحيل فيها تلك الخيوط المنفصلة إلى قطعة واحدة متصلة، وكأني بوالدتي حينذاك تمسك بخيوط الوقت الهاربة لتنقشها في لوحة قشيبة الألوان، وتقايض الزمن -الراحل لا محالة- بشيء خالد عظيم النفع، يحمل كثيراً من بركة أنفاسها، ونبل مشاعرها تجاه أسرتها. كنا ننام أحياناً سعداء في جانب من جوانب تلك الغرفة؛ التي مُنِحَتْ الأولوية فيها لهذا الضيف البهي، والغرفة عادة ما تكون من اللِبِّن أو الخشب أو الصفيح قبل أن نعرف بيوت الخرسانة المسلحة. عملية الحياكة تتم برؤية فنية من قبل صاحبة (الشملة) حيث تستخدم الخيوط الملونة بتتابع مدروس، وتكرار مقصود أحسبه امتداداً وانعكاساً لما يرونه في بيئتهم من تعاقب لليل والنهار، والفصول الأربعة، ومواسم البذار والحصاد، وغزارة نزول الغيث وندرته، وأزمنة تلاقح المواشي وإخصابها ونحو ذلك.
الشملة تكون طولية لا عرضية في تماهٍ -لعله آتٍ من العقل الباطن الجمعي- مع الامتداد غير المحدود لأفق الصحراء والسهول، والوديان المنبسطة في بيئة القوم.
وفي ختام العمل عندما تصبح الشملة كياناً مستقلاً، تأتي النساء القريبات لمساعدة والدتي ثانية في رفعها من على الأرض بعد إبعاد الأعمدة والمناسيب.
تكون أمي حينها في أوج سعادتها، بينما نحن الصغار نشعر ببعض مرارة، وشيء من الحزن لرحيل هذا الزائر الجميل أرضية بيتنا، وفقدنا لرؤية طقس غريب كان يسعدنا. الأم بفطرتها تلحظ ذلك، وتعوضنا عنه بأن تسمح لنا أن نلتحف الشملة الجديدة عندما يكون الفصل شتاءً، ونتدفأ بها والحقيقة أن ما يدفئنا أكثر هو ما أودعته أمي في تلك اللوحة من طاقة وحب ودفء من أعماق نفسها الطاهرة، ومن خلال يديها المكتنزتين نبلاً وعطاء، وأناملها التي كانت لا تمل ولا تكل في مجاهدة شظف العيش وقسوة الحياة.
رحمها الله، وأسكنها فسيح جنانه، هي وسائر أموات المسلمين والمسلمات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.