من صفاته الغدر والفتك والافتراس ، كائن ٌ مؤذٍ بمعنى الكلمة ، ومع ذلك تغنَّت به العرب في موروثها الطويل وحتى اليوم . فقد تجد من يقول لك مادحاً : " ياذيبان ، تكفى يالذيب" ، وعلى النقيض تماماً تجد الكلب الحيوان الرمز في الوفاء والحراسة والأمانة والتفاني في العمل يُتَخذ معيبة ً ، فلا ترضى أن يقول لك قائل: ياكلب أو يابن الكلب !! إنها كاريزما الشر ياسادة (كما يحلو لي أن أسميها) ، تلك التي تعلق بها الإنسان الموصوف بأبشع الصفات في القرآن الكريم فهو ضعيف ، جحود ، كنود ، يئوس ، كفور ، ظلوم ، جهول ، خصيم ، عجول ، قتور … وغيرها من الصفات التي لا حصر لها ، والتي لم يستثنِ منها الله سبحانه وتعالى أحداً من البشر إلا المتقين المؤمنين حقاً ، وهكذا جاءت الأيديولوجيات عبر التاريخ تحاول أن تهذب الإنسان ولكنها تنجح حيناً وتفشل أحياناً ، فالإنسان كائن صعب المراس ، وتعجبه القوة ويطرب لكاريزما الشر . فالأصمعي كما أورد ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء ينحو هذا النحو من حيث يدري ولا يدري فيقول عن الشاعر التقي الورع حسان بن ثابت شاعر الرسول (ﷺ) : " الشعرُ نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخيرِ ضعُف؛ هذا حسان بن ثابت – رضي الله عنه – فحلٌ من فحولِ الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعرُه " ، رغم مراثيه الجميلة في الرسول (ﷺ) وحمزة وجعفر رضي الله عنهم جميعاً . وقس على ذلك إن شئت في كل مجال ، ومن هنا افتتن الناس بمن يسمونهم العظماء السياسيين وما هم بالعظماء أمثال نابليون ، وهتلر ، والحجاج بن يوسف ، وصدام حسين ، وستالين فيما تجاهلوا عظماء حقيقيين أغلقوا باب الشر وتعاملوا مع الناس بما يمليه عليهم ضمير الخير، هاهي نظرية الكلب والذئب تطل برأسها من جديد !! ومن العجب العجاب أن الموظفين في الخارطة العربية من وجهة نظري المتواضعة يستسلمون لهذه الكاريزما ويفضلونها وإن لم يربحوا فيها ، فهم يميلون إلى المدير القوي ذي النقمات وذي الكاريزما الشريرة حتى ولو لم ينصفهم ، بينما ينفرون في دواخلهم من ذلك المدير العادل والمنصف والذي ليس له أنياب الذئب ، وتفسير ذلك أنهم تربوا بفطرتهم الإنسانية (والتي لم تفلح مع بعضها الأديان السماوية والأيديولوجيات السياسية ومثاليات أفلاطون والمفكرين) وتأثروا كذلك بموروثهم الطويل الذي قام على الحروب والنزعات والفتن بأنواعها ونشؤوا على هذا النمط السلطوي المستبد، وإلا فأيُ أمةٍ تقتل رمز العدل والكرم والسماحة الخليفة الراشد عثمان بن عفان ؟ من أين لهم بقائد مثلة ؟ وكم أمة تتمنى أشباهه اليوم؟! بقي أن أقول أن العرب ليسوا وحدهم في هذا المضمار بل كل الشعوب شرقاً وغرباً تتأثر في نظريات القيادة المزعومة ، وتطرب لزئير الأسود رغم بشاعتها ، ولا يعجبها هديل الحمام ولا صفير البلابل ، لأن نغمة الأسد تغذي نزعة الاستسلام للشر في دواخل بعض النفوس المريضة وما أكثرها . من هذا المنطلق قلما تجد عظيماً على مواصفاتهم طبعاً في الشرق والغرب إلا وتجده محاطاً بهالة من الأسلاك الشائكة ، فموكبه لا يضاهى ، ومائدته يقتات على فتاتها اللئام ، ولا يُري من حوله إلا ما يَرى ، والناس يعجبها ذلك ، فهم مثلاً لا يتخيلون زعيماً سياسياً يركب داتسون غمارتين أو هايلوكس ، يريدونه دائماً كالصورة النمطية التي ارتسمت في عقولهم واعتادوا عليها واقتنعوا بها وتحمسوا لها حتى أنهم يدافعون عنها بعد ذلك . يريدونه دائماً مختالاً فخوراً . طبعاً كل هذه النظريات ، وكل هذه الصور المطبوعة في المخيال الإنساني عن العظيم المزيف نسفها الأنبياء والرسل نسفاً وتحولوا رغماً عن أنف الذاكرة الإنسانية الشريرة إلى عظماء حقيقيين وفق شروط العظمة الحقيقية التي لا يعرفها هؤلاء وأتباعهم ، غيروا وجه التاريخ دون عمليات تجميل ودون أن يتقيدوا بشروط كاريزما الشر ، فهم متواضعون ، صادقون ، مخلصون في عملهم ، ليس لديهم واسطة ، قالها رسولنا الأكرم : "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ، وقال لمن ارتبك لمرآة : "هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة " ، وتاريخه كله حافل بكل ما ينسف الصورة النمطية للقيادة المزيفة والتي يعتقد الكثيرون أنها هي الحقيقة ولا شيئ غيرها ، والنبي العظيم يوسف عليه السلام وُصِف في القرآن الكريم بالمحسن في خمسة مواضع ، وعيسى عليه السلام لم يكن جباراً ، وموسى عليه السلام أمر بأن يقول لفرعون قولاً ليناً ، وهكذا نسف الأنبياء وتلاميذهم النجباء من المصلحين تلك العنجهيات على مر العصور بأخلاقهم وتعاملهم الراقي وتواضعهم وانخراطهم في خدمة المجتمع منكرين ذواتهم وأقاربهم في سبيل تحقيق أهداف الأمة . وتلمع في ذات السياق أفكار مماثلة ورسائل إلى كل من بوأه الله منصباً في الدنيا بأن يلطف بمن هم تحته من البشر فالقيادة والعظمة والتأثير والكاريزما هي الخير والتواضع وتغليب مصلحة الجماعة بعيداً عن كاريزما الشر التي يلعنها الشر والشريرون على مر التاريخ ، ومن يظن غير ذلك فليجرب !