د. الشريف حاتم بن عارف العوني - نقلا عن الاسلام اليوم لكل طائفة من المسلمين نصوصٌ يفهمونها خطأً، وربما كان فهمهم الخاطئ لها هو سبب ضلالهم. وأشهر مثال على ذلك الخوارج، الذين فهموا نصوص الوعيد على أنها تقتضي كفر مرتكب الذنب. ولا يخلو أحدٌ من أن يخطئ في فهم آية أو حديث؛ إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن لا يلزم من كل خطأ في الفهم ضلالٌ؛ إلاّ إذا كان خطأ كبيرًا يشوّه حقائق الدين الكبرى وأصوله العظمى. وهناك قائمة من النصوص التي يشيع الخطأ فيها بين الشرعيين، حتى بين كثير من أهل العلم الشرعي: مشايخَ وطلاباً. فأحببت التنبيه في هذا المقال على أحد هذه النصوص، لمناسبةٍ جدّدت لي أسبابَ الكتابة في التنبيه عليه. أعني قول الله تعالى: (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). وفي هذه الآية يذكر الله تعالى حال جماعة من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانوا يأمرون وينهون ويحتسبون، فإذا قيل لهم: لا فائدة من أمركم ونهيكم؛ لأن الناس لا يأتمرون ولا ينتهون، وسيصيبهم لذلك عذاب الله وإهلاكه، أجابوا قائلين: إنما نأمر وننهى طلبًا للعذر من ربنا، لكي لا يعاقبنا بترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونأمر أيضًا لبقاء احتمال أن يستفيد الناس من موعظتنا، فيجعلهم ذلك من المتقين. هذا هو المعنى الذي لا يخالف فيه كثيرون. لكنّ الخلل يأتيهم في فهم هذه الآية من جهة فهمهم لوجه تحصيل إعذارنا من ربنا عزّ وجلّ، فيوسّعون وجه تحصيل الإعذار زيادةً على السعة التي جاء الشرعُ يفسح لنا فيها، ولا يلتزمون بمجال العذر المحدّد الذي فتحه لنا ربنا سبحانه وتعالى. وهنا يقع الخطأ؛ إذ إنهم بهذا الفهم الخاطئ يظنون أنفسهم قد أعذروا إلى ربهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم في الحقيقة لم يُعذِروا إليه فيهما، ولا أَدَّوا حقَّ الله عليهم في الاحتساب! وحينئذٍ قد يعذرهم الله تعالى: لا من جهة قيامهم بالواجب، وإنما من جهة الإعذار بالجهل والتأوّل؛ لكنه تعالى لن يَعْذُرَ بالجهل من عَلِمَ وسكت، ولن يقبل حجةَ الخطأ في التأويل ممن فَقُهَ مرادَه ولم يُبيِّن. نعم.. فإننا نفهم هذه الآية خطأ إذا فهمناها على أننا نستحق الإعذارَ إلى ربنا بكل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، أو أننا نستحقه بكل عمل احتسابي. بل يجب أن نعلم بأننا قد نستحق العقوبة ببعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وببعض الأعمال الاحتسابية؛ وذلك إذا لم يكن أمرنا ونهينا واحتسابنا ملتزمًا بواجب الوقت وفرض الحال من مراعاة المصالح والمفاسد فيه، أو كان يُهمل السننَ الكونية التي حرّمَ الشرعُ علينا أن نهملها بأي حجة من حجج ضعف الفقه في الدين، والتي قد نظنها بسبب الجهل: توكَّلاً، أو إعذارًا إلى ربنا، أو قيامًا بالحق الذي لا نخاف فيه لومة لائم!! فتركُ اتخاذِ الأسباب وإهمالُ السنن الكونية أمرٌ محرم شرعًا، وهو من بدع عقائد جهلة العباد من غلاة الصوفية وأصحاب الخرافات، ولا يجيز لنا الشرعُ تركَ اتخاذ الأسباب، ولو كان ذلك تحت شعارات كريمة، من مثل: - شعار (التوكّل): وهو في حقيقته تواكل. - أو شعار (الإعذار إلى ربنا): وهو في حقيقته إعذارٌ إلى أنفسنا، لنرضى عنها، ولا تنالنا ضمائرُنا بسياط التأنيب. - أو شعار (القيام بالحق الذي لا نخاف فيه لومة لائم): وهو في حقيقته انتحارٌ لحياتنا الإصلاحية وتخلُّصٌ من قدرتنا على العطاء الدعوي؛ نفعل ذلك لشعورنا بالعجز عن القيام بالحق، ويخالط هذا العجزَ جزعٌ (وانعدامُ صبرٍ) عن تحمّل الأعباء الحقيقية والطويلة الأمد للقيام الصادق بالحق!! فيا أيها الإخوة والأبناء الغيورون تذكّروا أن بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة تصدّ الناس عن الدين: من مثل الاحتساب القائم على الخطأ في تطبيق قاعدة سدّ الذرائع. فإننا حين نحرّمُ المباح بحجة أنه ذريعة إلى المحرم، دون الانتباه إلى أن سدَّ الذريعة كما قد يكون بتحريم المباح، فإنه قد يكون أيضًا بالحثِّ على التوسع بالمباح، فإننا بذلك نكون سبباً في نفور الناس من الدين؛ لأننا سنضيّقُ عليهم واسع الدين، ونحرمهم من فسحته التي كنا نباهي بها الأديان، ونوقعهم في الحرج الذي رفعه الله تعالى عنهم. فأي إعذار نرجوه بعد هذا التضييق والإحراج على المسلمين؟! وبعد تلك الفتنة التي عرّضناهم لها؟! وبعد كل تلك الأسباب المنفّرة من الدين وأحكامه؟! أقول هذا؛ لأن بعض الناس لا يفهم من سدّ الذرائع إلاّ تحريم المباح الذي يظن أنه سيكون ذريعة للحرام، ويصرّون على ذلك في عامة الظروف والأحوال، ولا يدرون أن من وسائل سدّ الذريعة أيضاً الأمر بتوسّع الناس في الحلال لكي يصرفهم عن الحرام ويغنيهم عنه، بل لا ينتبهون أن من سدّ الذرائع أيضاً دَفْعَ أشدِّ المفسدتين بأخفّهما، فيكون الحرام من حيث الأصل حلالاً في هذه الحالة! وبذلك نسدّ الذريعة هنا بتحليل الحرام، كما نسدّها في موطن آخر بتحريم المباح!! ولا شك أن تحليل الحرام لكون مفسدته هي الدافع الوحيد لمفسدة محرّم آخر أشد حرمةً وأعظم مفسدة: أمرٌ له فقهه وقيوده، كما أن تحريم مباح منعًا من حرام لا يندفع إلاّ بسدّ ذريعته المباحة في الأصل: أمرٌ له فقهه وقيوده أيضًا. ولا فرق بين تحريم المباح وتحليل الحرام، فكلاهما جرمٌ كبير وافتراءٌ على الله تعالى؛ إلاّ بشروطهما الشرعية. فقد قال تعالى: (ولَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ). فسألتكم بالله! هل تكرر على مسامعنا: أن من سدّ الذريعة تحليلَ الحرام، كما تكررت على مسامعنا: أن سدَّ الذريعة يكون بتحريم المباح؟! دعوا هذه: فهل تكرر على مسامعنا أن من سدّ الذريعة التأكيد على سعة الحلال والحث على التفسّح بها، كما تكررت على مسامعنا: أن سدَّ الذريعة يكون بتحريم المباح؟! وأيّ التقريرين أولى باللجوء إليهما في زمن ضعْف التدين وكثرة الفتن والتباسِ المفاهيم وغزو الحضارات وضغط العولمة؟ هل يصح أن نطالب الفاسق بالورع والمستحبات وهو منصرفٌ عما دونه من التزام الفرائض؟! وهكذا.. عندما تكثر الفتن، وتلتبس المفاهيم، وتغزونا الحضارات، وتضغط علينا العولمة: يصبح ضبط باب سدّ الذرائع صعباً جداً، ويصبح الشيوخ حيارى بين غيرة على الدين وتفكير واقعي يدرك أن معرفة مناحي ضعفنا ليس انهزامية، بل هو إقدامٌ وشجاعة؛ لأننا بتقدير قوتنا وضعفنا يمكننا التخطيط للنصر، والذي قد يكون أحياناً نصرًا في تقليل الخسائر، لا في إلحاق الخسارة بالعدو. كما أنه قد يكون نصرًا مؤزراً في أحيان أخرى؛ لكن لا يستحقه إلاّ من نصر أمر الله تعالى، وحقق شرعه، بما فيه من وجوب اتباع أسباب النصر المادية. ولصعوبة استيعاب هذا الواقع المرّ، يعجز كثير من أهل الغيرة غير المنضبطة بالفقه الحقيقي عن أن يتعاملوا مع هذا الواقع بالفقه الصحيح لقاعدة سدّ الذرائع، بل تجدهم يتعاملون معه لا بغرض سدّ الذرائع حقاً، وإنما بمنطق الانتحاري الذي لا تهمّه النتائج، وإنما يهمه أن يموت فقط، وانتحاريو الاحتساب لا يصبح همّهم تحقيق شرع الله وحكمه في تلك المرحلة، وإنما همّهم هو ما يظنونه إعذارًا إلى ربهم بأمر ونهي هم يعلمون أنه أمرٌ غير مؤتمَرٍ به ونهيٍ غير مزدجَرٍ عنه. إن الإعذار إلى ربنا إنما يتم بتخفيف المفاسد إذا كنا عاجزين عن دفعها، ولا يتم بمجرد الدعوة إلى دفعها، إذا كنا نعلم أنها دعوة غير قابلة للتطبيق. فكيف إذا كان تخفيف المفسدة ممكناً بتوسعة المباح، فأصررنا مع ذلك على تحريم المباح بحجة سدّ الذرائع؟! أيّ إعذار نرجوه بذلك؟!