نهضة خضراء    كيسيه: الدربي يُكسب ولا يُلعب    رينارد يغلق تدريبات «الأخضر»    إنزاغي يرفض إجازة اللاعبين    الائتمان السعودي يواصل استقراره في الربع الثالث 2025    انطلاق مناورات "الموج الأحمر 8" في الأسطول الغربي    بغداد: بدء التصويت المبكر في الانتخابات التشريعية    مشاهد مروعة من الفاشر.. عمليات قتل من شارع لشارع ومقابر جماعية    ختام مسابقة الجري في جيوبارك بمحافظة ثادق شمال الرياض    15 شركة صحية صغيرة ومتوسطة تدخل السوق الموازي    تداولات الأسهم تنخفض إلى 2.9 مليار ريال    الأهلي يتوج بالسوبر المصري للمرة ال 16 في تاريخه    الأخضر يدشن تدريباته في معسكر جدة استعداداً للقاء ساحل العاج    فيفا يُعلن إيقاف قيد نادي الشباب    وزارة الداخلية في مؤتمر ومعرض الحج 2025 .. جهود ومبادرات أمنية وإنسانية لخدمة ضيوف الرحمن    على وجه الغروب وجوك الهادي تأمل يا وسيع العرف واذكر الأعوام    معجم الكائنات الخرافية    حرف يدوية    5 فوائد للأسماك تتجاوز أوميغا 3    حرب موسكو وكييف انقطاع للكهرباء ودبلوماسية متعثرة    علماء روس يبتكرون عدسة نانوية قادرة على تغيير مستقبل الطب الحديث    الشرع في البيت الأبيض: أولوية سوريا رفع قانون قيصر    هدنة غزة بوادر انفراج تصطدم بمخاوف انتكاس    82 مدرسة تتميز في جازان    وزير الحج: موسم الحج الماضي كان الأفضل خلال 50 عاما    إنفاذًا لأمر الملك.. تقليد رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    وزير التعليم: وصول مبادرة "سماي" إلى مليون سعودي وسعودية يجسد نجاح الاستثمار في رأس المال البشري وبناء جيل رقمي مبتكر    (إثراء) يشارك في أسبوع دبي للتصميم 2025 بجناح الخزامى    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة توثق ركن الحج والرحلات إلى الحرمين    200 سفيرة للسلامة المرورية في الشرقية بجهود لجنة أمهات ضحايا الحوادث    ورشة عمل لدعم وتطوير الباعة الجائلين بحضور سمو الأميرة نجود بنت هذلول    أمير تبوك يشيد بحصول إمارة المنطقة على المركز الأول على مستوى إمارات المناطق في المملكة في قياس التحول الرقمي    "أشرقت" الشريك الاستراتيجي للنسخة الخامسة من مؤتمر ومعرض الحج 2025    إنقاذ حياة خمسيني من جلطة دماغية حادة في مستشفي الوجه العام    أكثر من 11 ألف أسرة محتضنة في المملكة    رئيس وزراء جمهورية النيجر يُغادر جدة    أمير تبوك يستقبل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ يوسف بن سعيد    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة في ديربي جدة    ترتيب هدافي دوري روشن بعد الجولة الثامنة    انطلاق أعمال مؤتمر ومعرض الحج والعمرة 2025 في جدة بمشاركة 150 دولة.. مساء اليوم    مبادرة تصنع أجيالا تفتخر    وزير الإعلام سلمان الدوسري يقدّم العزاء للمستشار فهد الجميعة في وفاة والده    83 فيلما منتجا بالمملكة والقصيرة تتفوق    أكد دعم المشاريع الصغيرة.. الخطيب: قطاع السياحة محرك رئيسي للازدهار العالمي    رحلة رقمية للمستثمرين والمصدرين..الخريف: تعزيز الاقتصاد الصناعي المستدام في المملكة    هنأت رئيس أذربيجان بذكرى يومي «النصر» و«العلم».. القيادة تعزي أمير الكويت في وفاة صباح جابر    واتساب يطلق ميزة لوقف الرسائل المزعجة    أكاديميون: مهنة الترجمة تبدأ من الجامعة    الإطاحة ب«لص» نام أثناء السرقة    «المنافذ الجمركية» تسجل 1441 حالة ضبط    83 قضية تجارية يوميا    واشنطن تراقب توزيع المساعدات    سمو ولي العهد يعزّي ولي عهد دولة الكويت في وفاة الشيخ صباح جابر فهد المالك الصباح    تحت رعاية الملك ونيابةً عن ولي العهد.. أمير الرياض يحضر دورة ألعاب التضامن الإسلامي    المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    ديوانية الأطباء تكرم القحطاني    «أمن الحج والعمرة».. الإنسانية بكل اللغات    الشؤون الإسلامية في جازان تنفّذ أكثر من (40) ألف جولة رقابية على الجوامع والمساجد خلال شهر ربيع الثاني 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عقل غيرك تضيفه إلى عقلك
نشر في أنباؤكم يوم 10 - 06 - 2010


رجل قتلته الكتب عقل غيرك تضيفه إلى عقلك
د. عبدالله محمد الغذامي - الرياض السعودية
عاش الجاحظ في الكتب ومات في الكتب، حيث مات وعلى صدره كتاب، وكانت الكتب قد تساقطت عليه وغمرت أنفاسه وهو مصاب بداء الفالج وهو الداء الذي أعاق جسده ولكن لم يعق حبه للكتب، لم يتزوج الجاحظ ولم يخلف ذرية وليس له عصبة عائلية وقد خرج من عالم الظلمات والتهميش، ولولا علاقته بالكتب لما صار ولا مر على بال أحد. ولكنه ولد وفي فمه وحشة للكتاب، وقد شق طريق حياته كله في بحث أبدي عن الكتاب، وفي مطلع حياته كان يستأجر دكاكين الوراقين في الليل حيث هي مغلقة أصلاً ولا نفع فيها في وقت الليل، إلا أن الجاحظ حول غير النافع إلى نافع، وإذا استغنى التاجر عن دكانه ليلاً فإن الفتى جاحظ العينين سيكتشف طريقة يستثمر فيها هذا الوقت الضائع، وهو إذا استأجر دكان الوراق فإنما ليمضي ليلة كاملة على سراج بسيط يقرأ في الكتب حتى إذا جاء الصباح سلم الدكان لصاحبه ومضى هو لينام بعد أن ترحل ليله كله في صحبة العقول البشرية المسجلة على الورق، ومن هنا جاء تعريفه البارع لهذا النوع من الحياة بقوله: (والأدب هو عقل غيرك تضيفه إلى عقلك).
القراءة عقل مخبوء في كتاب ويتحرك هذا العقل مع تقليب الصفحات وأنت ترى البشر أمامك على الورق وهم البشر الذين رآهم الجاحظ وأخذ عنهم وتربى عقله عليهم ولقد كسب الجاحظ عصارة الفكر البشري في زمنه وجاءت ذاكرته متنوعة ومعمورة بلغات الآخرين وكلماتهم ومعانيهم، وعبر هذا الخليط العقلي واللغوي والمعلوماتي جاء الجاحظ ليفيض بهذه البحار ويتدفق بمياهها وإنك لترى الخليط الثقافي العجيب لدى أبي عثمان بدءاً من موسوعته عن الحيوان إلى معارفه بعلوم العرب وأعرافهم وحياة الأعراب ولهجاتهم وأخبارهم إلى تبحره في (علم الكلام) وريادته لمدرسة كلامية تسمت باسمه، ويحيط بهذا كله ظرف وذهن ثاقب توسل بالاستطراد كحيلة ثقافية لتغليف رسائله الخاصة من تحت المتن الرسمي، فكتب نوادره ورسائله ومبارزاته الكلامية والأدبية وكتب عن البخلاء وقصص الأعراب وحكايات أهل المدن وعجائب البشر، في خليط ثقافي يضم خطابات مزدوجة ما بين المداهن للمؤسسة الرسمية والاجتماعية حيث المتن بوقاره وتحصنه، وما بين الخطاب النقدي الذي يتستر بستر السخرية والنادرة ويأتي وكأنما هو طرفة ونكتة، وهو في صلبه نقد لاذع وتشريح للمؤسسة وفضح لسلطويتها ولا تنقصه الحيلة في ذلك حيث يراوح خطابه النقدي بين النوادر وبين المحاورات المفترضة التي يجريها على ألسنة المهمشين من الجواري والغلمان والسود وكافة أنواع الفئات البشرية من أعراق وثقافات وطبقات، وهي كلها حيل ثقافية توسل بها الجاحظ لعرض سوءات المجتمع وأنساقه الثقافية بكل تقاطعاتها.
ولقد كان من أمثال العرب قولهم: كل لسان إنسان، وهو مثل تراه حياً في صنيع الجاحظ، حيث استخدم ألسنة المجتمع كلها للتعبير عن مكنونات نفسه، وإن كان الشعراء يحتالون بالمجاز الشعري تحت مفهوم أن أجمل الشعر أكذبه وأنهم يقولون ما لا يفعلون، وأن قولهم هو قول لا يحاسبون عليه فإن الجاحظ توسل بالسخرية وأسلوب الاستطراد لكي يرفع عن كاهله اللوم فيسوق الطرفة مساق الإطراب والتسلية مثلما يسوق المحاورات بين الفئات مساق التندر والتطرف فيمر خطابه غير مراقب ولا محاسب مثله مثل المجاز الشعري، ولكنه في الحقيقة كان يرسل رسائله الخاصة ويقوم بإيصالها ببيان عميق وتوثيق ثقافي خالد، ولقد صار القوي والفاعل من حيث هو ضعيف بلا عصبة ومن حيث هو مفرد ووحيد ولكن ذكاءه وسلاحه الثقافي فرض لغته ومقولته على الذاكرة الثقافية في تاريخ الفكر العربي كله.
بدأ بالسخرية من نفسه فروى أن قوماً ذكروا اسمه للخليفة المتوكل ليأخذه مربياً لبعض ولده وذهب الجاحظ لإجراء مقابلة لهذا الغرض وهنا يروي قائلاً إن المتوكل حينما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، ومثلها ما رواه عن قصة له مع فتاة حيث يقول: أتتني فتاة وأنا على باب داري فقالت: لي بك حاجة وأريد أن تمشي معي، فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا وانصرفت. فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت إلى بفص وأمرتني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت لها: ياستي ما رأيت الشيطان، فأتت بك وقالت ما سمعت.
روى الجاحظ هذه القصص عن نفسه مستثمراً بذلك قبحه ليكون سلاحاً ثقافياً يقاوم به السلطة الاجتماعية التي تمرست في التهميش وكان هو قد جاء من قاع التهميش وقرر أن يعري لغة المجتمع وحيله النسقية في الإفراد والإلغاء، ولذا وضع الخليفة من جهة والفتاة من جهة أخرى في سلم ثقافي يكشف عن مجتمع وثقافة تحمل عيوبها الخاصة مثلما تحمل أمجادها، وهو قد وضع الوجهين معاً حيث كشف عن لغة العرب بأبهى صورها البيانية ونافح عن مقام الثقافة العربية في مقابل الشعوبية المحتدمة حينها، وفي الوقت ذاته عرى عيوب المجتمع العباسي، في تقابل بين كافة الوجوه الثقافية، وتبعاً لذلك التزاوج بين مستويات الثقافة فإنه سجل مستويات الأداء اللغوي بين البسطاء والعامة وبين الفصحاء وعلية البلغاء، وكلمة (ستي) في هذه القصة مفردة تدل على لهجة شعبية لم يغفلها الجاحظ ورصدها مثل رصده لخطب أهل البيان، ولعل عنوان كتابه (البيان والتبيين) يدل على هذين البعدين في المستوى اللغوي حيث مصطلح البيان للعلية بينما يشير التبيين إلى لغة التداول اليومي في تقابل مستمر عند الجاحظ بين المتن حيث المؤسسة الثقافية الرسمية، وبين الاستطراد حيث الثقافة الشعبية، وأول مواد الثقافة الشعبية هي القص الشفاهي ومادته التي يبدؤها بنفسه وبتشريح جسده وشكله وتاريخه ويسحبها لتشمل أعلى رؤوس المؤسسة السياسية والدينية والثقافية.
لقد كان الجاحظ مثالاً للمثقف الحر والناقد المعارض ثقافياً، وعاش بالكتب ومع الكتب، ومات بالكتب.
قتلته الكتب وهو الرجل الذي افتتح كتابه البيان والتبيين مستعيذاً بالله من (فتنة الكلام) وكان حريصاً على أن يعيش واقعياً ولا يتعالى على طبقته التي جاء منها ولم ينس أبداً أنه من الهامش وأن قبح وجهه ظل معه مذكراً له بماضيه الشعبي وحاملاً لهذه العلامة في علاقته مع المجتمع حتى صار القبح سمة له وتسمى به، حيث كلمة الجاحظ جاءت بسبب جحوظ في عينيه جعلت الناس تسميه بهذا الاسم ولم تكن هذه التسمية منه ولا من أبيه ولكن الناس وسموه بعيبه الخلقي حتى صار اسماً له وتقبل هو هذه السخرية واتخذها اسماً له ليدين مجتمعه مثلما تقبل نكتة الفتاة عليه وتصرف المتوكل معه ورواهما، لقد حمل هذا الاسم وجعله علامة عليه وعلامة على عنف المجتمع وسخريته، قبل بالعلامة الفارقة اسماً له وعنواناً عليه، وتوسل بها لترقيق مشاعره عن حاله وفي الوقت ذاته وظفها كمنهج نقدي يكشف سيرة المجتمع مع المختلف والمخالف، وعبر هذا عاش الجاحظ فرداً وظل قيمة فردية لا يستند إلى عصبة ولا يتبع غيره حتى من الناحية الفكرية حيث أسس لمنهجه الخاص وصنع منهجية فكرية دينية تسمت بالجاحظية. هو المفكر الذي أضاف عقول الآخرين إلى عقله ومن هذا تعددت عقوله وتعددت كتبه وتعددت رؤاه وتنوعت أساليبه، وسيبقى الجاحظ في ثقافتنا مثالاً حياً على توظيف الكتاب بوصفه عقلاً تفاعلياً، وفي توظيف الشعبي بوصفه روحاً ثقافياً في تزاوج فعال وايجابي حتى وإن دفع المرء ثمناً غالياً لذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.