في داخل ذاكرتنا يتم طباعة أي ظلمٍ أو قسوة أو ألم عميق يمرُّ بنا، ليشعرنا فيما بعد بالخوف فوراً من أي شيء يشبه مات عرضنا له سابقاً، وكأن تلك اللحظة القاسية ستمر بنا ثانية، أو كما يقولون (اللي اتلسع من الشوربة.. ينفخ في الزبادي). حين نتلقى طعنة في الظهر مثلا دون أن نرى الشخص الذي تسبَّب لنا بها، نصبح خائفين بعدها من كل شخص يمشي أو يقف خلف ظهرنا، وقد نفتعل أى حركة خفيفة لنسمح له بتجاوزنا، والسير أمامنا. ولكن بظنّي هناك العديد من التقنيات التي قد تُحدث شفاءً من أشد الحوادث سوءاً، وأحدها قد يكون ما جرّبته بالصدفة يوما، وهو محاولة سرد القصة التي عشناها واعادة صياغتها على أحدٍ ما بكل تفاصيلها وكما حدثت لنا تماماً، إن حديثاً كهذا قد يعمل كمهدئ وملطف للأحاسيس والمشاعر، قد (يُطبطب) على كتف الذاكرة ويجعلها تعمل على تخفيض مستوى ما تستعيده من ذكريات مؤلمة. قبل سنوات جرّبتُ هذه التقنية بشكلٍ عفويّ وغير مخطّطٍ له، حين جاءَ مقعدها بجانبي، وحين كنّا على متن طائرة عائدة من لندن، ابتسم كلٌّ منّا للآخر، تململنا، ربطنا الأحزمة، والتفتت إليَّ فجأة، كشفت لثامها، أطلّت بوجهها نحوي، وباغتتني بسؤال لم أتوقعه: «لوسمحتِ تعتقدي إن شكلي مقبول؟؟ كيف تشوفيني؟؟ ترى أنا أصدّق الناس اللي ما أعرفهم”. الآن.. إذا التقيتُ بهذه المرأة مصادفة حتماً سأشكرها لأنها أعادت إليَّ الثقة بأنني مازلتُ قادرة على اقامة علاقة صداقة ولو في رحلة عابرة. أحاديث المقعدين المتجاورين هذه أثبتت لنا أن قلوبنا مازالت قوية ونابضةً بالحياة، وأن تجربتنا القصيرة معاً كانت نعمةً كبيرة، وأننا بعد أن التقينا فإن أمورنا لم تعد أبداً مؤلمة كما كانت. تخيّلوا..هذا ماحدث، وهكذا تعارفنا!!، هكذا أوقعتني صدفةً في براثِن بوحٍ بدأ يسرعُ من تلقاءِ نفسه ولم يتوقف إلَّا حين توقَّفت عجلات الطائرة في مطار جدة. لقد منحتُها ثقتي بكلّ بساطة، لم نمضِ الوقت بتعارف خجول كما يفعل الناس، بدأنا الحديث من الجزء الأقسى والأصعب، وانتهى بتبادل الأسماء وأرقام الهواتف. يبدو أن كلا منّا كان يعاني حينها من صدمة جذرية عبثت في تفاصيل حياته وغيّرتها. لكننا أطلقنا لمشاعرنا وحكاياتنا وآلامنا العنان، ولا أذكر بأنني فكَّرتُ ولو للحظة كيف يمكن أن تكون شكل صداقتنا في المستقبل، كنَّا فقط نتحدث، ونتحدث، ونتحدث، وأحياناً كانت تستلقي للوراء وتبكي، الغريب أنني لم أحاول مواساتها ولم أتجاهلها أيضاً، كنتُ أظلُّ صامتةً بجانبها إلى أن تتوقف عن البكاء، أعتقد أننا أدركنا الحاجة للدموع للمرة الأولى .. أو للمرة الأخيرة. عندما انتهت الرحلة، عاد كلّ منّا إلى منزله، ولم أرها مجدداً، أظننا تحدَّثنا عبر الهاتف مرتين أو ثلاث، وطرحنا بعض الوعود ومحاولاتٍ خجولة لترتيب لقاء ما، ولكننا كنَّا نعرف بأن ما تحدثنا به، أو عنه، على متن تلك الطائرة لم يكن أبداً بداية لصداقة جديدة، كان مجرَّد فضفضة جذريَّة وعميقة بل غائرة. الآن.. إذا التقيتُ هذه المرأة مصادفة حتماً سأشكرها لأنها أعادت إليَّ الثقة بأنني مازلتُ قادرة على اقامة علاقة صداقة ولو في رحلة عابرة. أحاديث المقعدين المتجاورين هذه أثبتت لنا بأن قلوبنا مازالت قوية ونابضةً بالحياة، وأن تجربتنا القصيرة معاً كانت نعمةً كبيرة، وأننا بعد أن إلتقينا فإن أمورنا لم تعد أبداً مؤلمة كما كانت. twitter: @hildaismail