أوصى إمام و خطيب المسجد الحرام فضيلة الدكتور خالد بن علي الغامدي المسلمين بتقوى الله في السر والعلانية؛ لأن حقيقة التقوى هي الإخلاص لله والصدق معه وخشيته في كل الأحوال، وإصلاح السرائر . وقال فضيلته في خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام : "قدّر الله على هذه الأمة المحمدية في هذه الأزمان المتأخرة أن يتكالب عليها الأعداء من كل حدب ينسلون ، ويتنادوا على خيراتها ويتكاتفوا لتمزيقها وتعويقها وتأخير نهضتها، ومن رحمة الله أنه لم يترك الأمة بدون بيان وتحذير من هؤلاء الأعداء، وهتك أستار مكرهم وكيدهم، وكان من بيان الله سبحانه أن أعداء الأمة على قسمين، هما: كفار صرحاء ظاهرة عداوتهم وبين كيدهم ، كما قال الله تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ) يعني : ظاهرين بينين في عداوتهم وهؤلاء الكفار الصرحاء لم تعان الأمةُ كثيراً من التعرف عليهم واتقاء شرهم لوضوحهم وظهورهم، وإنما عانت الأمة الأمرّين منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وذاقت العلاقم والمرائر من النفاق وأهله الذين هم أعداء الأمة حقاً، المتلونون المخادعون، الطاعنون الأمة بخناجر مسمومة في دينها وعقيدتها ووحدتها واجتماع كلمتها، المتربصون بها مكراً وكيداً وإثارة للفتن والقلاقل. ولا تزال المعاناة والمكائد منهم مستمرة حتى يخرج رأسُ النفاق الأكبر المسيحُ الدجال الأعور ومن معه من اليهود والمنافقين فيهلكهم الله على يد مسيح الهدى والحق عيسى بن مريم عليه وعلى أمه السلام . وأضاف الشيخ خالد الغامدي " لم تكن هناك حاجة لكي يطهر النفاق وفي العهد المكي في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوضوح عداوة الكفار وصراحتهم، وإنما نشأ في أوائل ما نشأ بعد غزوة بدر الكبرى حينما رأى اليهود ومن في قلبه مرض أن أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه ، قد توجه، وأن رايه الإسلام آخذة في الظهور فخشوا على أنفسهم، واقترح طائفة من اليهود على أوليائهم خطة النفاق هذه كما قال الله سبحانه: (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) فاشتعلت شرارة النفاق الأولى، ونبتت نبتته فينعت شجرة يهودية خبيثة بمكر وخديعة مرض القلوب، حتى غدا النفاق موئل الغادرين الحاقدين ينضوون تحت لوائه ليصبحوا شوكةً في خاصرة الأمة، وأشد عداوة وخطراً على عقيدة الأمة ومقدراتها من الكفار الصرحاء ولسوء أفعالهم وخبث طريقهم وإخفائهم الشر للأمة، تولى الله سبحانه بنفسه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم نصح هذه الطائفة المندسة، وبين سبحانه خطورتهم ،وعلاماتهم وصفاتهم وخصائص سلوكياتهم وبواعث تحركاتهم والمنهج الصحيح في التعامل معهم في آيات محكمات عظيمات كأنها الصواعق المحرقة تهتك أستارهم، آيات حية نابضة كأنها أنزلت اليوم من حديثها وتدفق معلمها كما في صدر سورة البقرة في ثلاثة عشر آية، وفي سورة آل عمران والنساء والأنفال والأحزاب والفتح والحديد والمجادلة والحشر والمنافقون .وما أعظم بيان الله في سورة التوبة التي تسمى الفاضحة لأحوال المنافقين وصفاتهم ؛ حيث ما زال الله تعالى يقول فيها " ومنهم ومنهم" ، حتى ظن الصحابة أنه لا يبقى أحدٌ إلا ذُكر فيها ،ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بياناً مشرقا كثيراً من صفاتهم وملامح شخصياتهم والتعامل معهم في سننه القولية والعملية وسيرته التطبيقية التي تفيض بها دواوين السنة النبوية، وكل ذلك حتى يحذر المسلمون ويعوا خطر النفاق الداهم وأن أهله هم العدو على الحقيقة "فاحذرهم قاتلهم الله أن يؤفكون ". وأوضخ فضيلته أن النفاق الذي ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نوعين، وهو في حقيقته وأصله يرجع إلى اختلاف حالة السر عن حالة العلانية وتغايرهما وقال ": إن كان هذا الاختلاف والتغاير يرجع سببه إلى أن يظهر العبد الإسلام والإيمان بأصول الاعتقاد ويبطن الكفر والعقائد الباطلة فهو النفاق الأكبر الاعتقادي المخرج من الملة، وأهل هذا النفاق آمنوا بأقوالهم ولم تؤمن قلوبهم وعليهم علامات وصفات بينها الله أتم بيان وهي تظهر منهم في لحن القول والفعل وإسرارهم إلى أوليائهم إذا خلو إليهم، والقرآن العظيم لم يتعرض لذكر أسمائهم وأعيانهم بل كان حديثة عنهم مركزاً في بيان صفاتهم وأفعالهم وهذا المنهج القرآني الفريد هو أعظم نفعاً وأبقى أثراً وأسلم عاقبة لأن النفاق وأهله لسوا مرحلة مؤقتة مرت ؛ بل نظام يتكرر في كل زمان ومكان وهؤلاء المنافقون أصناف فمنهم الذين يكرهون الإسلام وشعائره وأهله ويتحاكمون إلى الطاغوت (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ) . ومنهم الذين يكذبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تكذيباً كليا أو جزئياً، ومنهم الذين يؤذون النبي عليه أزكى الصلاة والسلام بالقول والفعل ويبغضونه ويسخرون منه ويطعنون في سنته وهديه، ويلمزون المتمسكين بسنته ويهزؤون منهم، خاصة صحابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الخلفاء والراشدين وبقية الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، ومنهم الذين يكرهون أنصار الإسلام وأهله ولا يودون أن ينزل عليهم خير من ربهم ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ،ويبتهجون بهزيمة المسلمين وتسلط الأعداء عليهم بالقتل والدمار والتشريد (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ) وقد عضوا على المسلمين الأنامل من الغيظ وودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ) ومنهم الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر يبغونهم الفتنه ويسعون في تخذيل المسلمين وكسر شوكتهم والرقص على جراحهم وآلامهم وتمزيق وحدتهم وتفريق كلمتهم وتخريب بلدانهم وحواضرهم الكبرى كما يفعل الباطنيون "منافقو العصر" ومن عاونهم في ذلك من أدعياء الخلافة الإسلامية زوراً وبهتاناً الذين ينشرون الطائفية والنعرات الجاهلية ويحرضون على حكام المسلمين ويحاولون إسقاط ولاة أمرهم والشعوب المسلمة في سفك الدماء والهلاك والتخريب والفوضى كما كان المنافقون الأوائل يظهرون الطاعة فإذا برزوا من عند النبي عليه الصلاة والسلام بيت طائفة منهم ودبروا الخروج عن طاعة النبي وعصيانه ولذلك حاولوا مراراً قتله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله عصمه منهم وهم الذين أثاروا الفتنه على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وحرضوا عليه ضوضاء الناس ودهماءهم حتى قتل شهيداً صابراً محتسباً كما وصاه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :( يا عثمان إن الله مقمصك قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ) أخرجه الترمذي. وأضاف فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام قائلا " و من المنافقين الذين لا يذكرون الله إلا قليلاً ولا يقرؤون القرآن إلا لماماً كراهة فيه و والله لنقل الحجارة أهون عند المنافقين من مداومة قراءة القرآن، نسوا الله فنسيهم (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )، ومنهم الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ابتغاء الفتنه والظلال فيهم، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير ويقبضون أيديهم ولا ينفقون إلا وهم كارهون، وإذا رأيتهم تعجبك أموالهم وأولادهم وأجسادهم وإن يقولوا تسمع لقولهم من فصاحتهم وهم أجبن الناس وأشدهم خوفاً وفرقاً يحسبون كل صحيحة عليهم هم العدو ولذلك كرهوا الجهاد في سبيل الله ورضوا أن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ، إلى غير ذلك وصفات أهل هذا النفاق الأكبر الذين قال الله فيهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) وقال (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) . وبين فضيلته أن هذا النفاق الأكبر هو الذي كان عليه المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزل القرآن بتكفيرهم وتخليدهم في النار، وقد كان على رأس المنافقين آنذاك عبدالله بن أُبي الذي حقد على النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجرا وأشرقت بأنواره والتف الناس حوله عليه الصلاة والسلام ، وفرحوا به فرحاً شديداً فأغاط ذلك ابن أبيّ فاضمر للنبي العداوة أبداً ، وبدأ هو ومن معه من اليهود ومرضى القلوب يكيدون للنبي عليه السلام فكان أن خذل النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد وانسحب بثلث الجيش وكشف ظهره للمشركين ، وهم الذين سعوا لتجميع الأحزاب لمحاصرة النبي في المدينة ، وكانوا على رأس المخذلين والمرجفين ليفتوا في عضد المسلمين وهم الذين كانوا وراء حادثة الإفك الشهيرة التي أرادوا من ورائها تشويه بيت النبوة الشريف وإسقاط رمز الإسلام والمسلمين، إلى غير ذلك من المؤامرات والمكائد من هذه الفئة المنافقة التي غدت قدوة سيئة لكل من يبطن الكفر والخيانة والكيد للمسلمين (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ) . وبين الدكتور خالد الغامدي أن النوع الثاني من النفاق الذي ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو النفاق الأصغر ، نفاق العمل وهو التخلق بشيء من أخلاق وأعمال المنافقين مع بقاء أصل الإسلام في القلب، وهو لا يخرج من الملة لكن صاحبه على خطر عظيم وشفا هلكة لظهور علامات المنافقين عليه التي تدل على اختلاف حالة السر عن حالة العلانية ، وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه عن خشوع النفاق: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع، وقال الحسن البصري: من النفاق اختلاف القلب واللسان، واختلاف السر والعلانية واختلاف الدخول والخروج ومن علامات هذا النفاق أن يظهر العبد للناس علانية صالحه وتقواه ، فإذا خلا بنفسه اختلفت حالته وقل خوفه وحياؤه من ربه (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ) وهو يرائي الناس بأعماله ويسعى للتسميع بما يفعل، وإذا صلى بين الناس جوّد صلاته فأتقنها ، وإذا خلا بنفسه فرّط فيها ونقرها وأخرها عن وقتها، يتخلف عن الصلوات في المساجد دائماً بلا عذر، وأثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ومن ترك ثلاث جمع بلا عذر كتب من المنافقين كما ثبت. وأوضح فضيلته أن من خطورة هذا النفاق الأصغر أنه سلم وجسر إلى النفاق الأكبر إذا استمر صاحبه على أخلاق المنافقين وأكثر من شعب النفاق ولم يدعها ويخشى عليه أن يسلب الإيمان عند الموت ويختم له بخاتمة سيئة كما ثبت في الصحيح أن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختتم له عمله بعمل أهل النار، وأن النفاق الأصغر دليل على ضعف الإيمان في القلب وترى صاحبه في علاقته مع الناس إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر وإذا أؤتمن خان الأمانة وغش المسلمين، وإذا عاملهم داهنهم وعاملهم بوجهين وإن من شر الناس عند الله ذا الوجهين الذي يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، وهذا دليل على اختلاف حالة سره عن حالة علانيته، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً دقيقاً بقوله: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة( يعني المترددة المتحيرة ) بين الغنمين تُغير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع، وهو يدعو بدعوى الجاهلية ويفارق الجماعة وينتزع يداً من طاعة ويستخف بولاة الأمر كما قال عمر وجابر رضي الله عنهما ( ثلاثة لا يستخف بحقهم إلا منافق بين نفاقه، الإمام المقسط، ومعلم الخير، وذو الشيبة في الإسلام )، وتراه يتشبع بما لم يعط ويحب أن يحمد بما لم يفعل ويكثر اللعن والسب ويفحش في منطقه وإن البذاء والبيان شعبتان من النفاق كما ثبت عند أحمد ( نشوز المرأة على زوجها بغير رجعة وطلبها الخلع منه بدون عذر، وتبرج المرأة وسفرها وخلعها الحياء )كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من خصال النفاق. وختم الشيخ الغامدي خطبته بقوله : هذا النفاق الأصغر العملي هو الذي كان الصحابة والسلف يخافون منه ويخشونه ويحذرون منه ويحاسبون أنفسهم لئلا يقعوا في خصلة من خصاله، فقد امتلأت قلوبهم بتعظيم الله والإخلاص له والصدق معه ومراقبته، وعلموا أن النفاق أساس بنائه على الكذب والخداع والتلون، فلذلك عمروا أوطانهم بالخيرات وأصلحوا سرائرهم وحرصوا على لزوم الجماعة المسلمين وإمامهم والنصح لكل مسلم فإن ذلك يصفي القلوب ويطهرها من الدغل والغش، وأكثروا من عبادات السر التي هي أحب إليه من عبادات العلانية وداوموا على تلاوة القرآن وذكر الله وحرصوا على إدراك تكبيرة الإحرام التي من حافظ عليها كتب له براءة من النفاق وبراءة من النار، وكتموا حسناتهم وأخفوا أعمالهم، واستوى عندهم مدح الناس وذمهم، والتمسوا رضى الله ولو سخط الناس وكانت لهم خبيئات الأعمال فلذلك صلحت قلوبهم وخلصت من الرياء والسمعة وطهرت من النفاق، وأصلح الله لهم علانيتهم وآخرتهم وكفاهم أمر دنياهم، قال ابن الجوزي رحمه الله: (فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله ، وعبقت القلوب بنشر طيبه ، فالله الله في إصلاح السرائر فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر )