أمطار تؤدي لجريان السيول بعدد من المناطق    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    وفاة الأمير منصور بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود    أرباح شركات التأمين تقفز %1211 في 2023    تحت رعاية خادم الحرمين.. البنك الإسلامي للتنمية يحتفل باليوبيل الذهبي    الرياض.. عاصمة الدبلوماسية العالمية    بمشاركة جهات رسمية واجتماعية.. حملات تشجير وتنظيف الشواطيء    492 ألف برميل وفورات كفاءة الطاقة    «زراعة القصيم» تطلق أسبوع البيئة الخامس «تعرف بيئتك».. اليوم    الرياض.. عاصمة القمم ومَجْمَع الدبلوماسية العالمية    «هندوراس»: إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول    "عصابات طائرة " تهاجم البريطانيين    كائن فضائي بمنزل أسرة أمريكية    موعد مباراة النصر القادمة بعد الفوز على الخليج    النصر يضمن المشاركة في أبطال آسيا 2025    القيادة تهنئ رؤساء تنزانيا وجنوب أفريقيا وسيراليون وتوغو    أمير الرياض يؤدي الصلاة على منصور بن بدر بن سعود    إحالة الشكاوى الكيدية لأصحاب المركبات المتضررة للقضاء    القتل ل «الظفيري».. خان الوطن واستباح الدم والعرض    طابة .. قرية تاريخية على فوهة بركان    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية.. استمرار الجسر الإغاثي السعودي إلى غزة    وزير الإعلام ووزير العمل الأرمني يبحثان أوجه التعاون في المجالات الإعلامية    فريق طبي سعودي يتفوق عالمياً في مسار السرطان    برعاية الملك.. وزير التعليم يفتتح مؤتمر «دور الجامعات في تعزيز الانتماء والتعايش»    العرض الإخباري التلفزيوني    وادي الفن    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    مؤتمر دولي للطب المخبري في جدة    أخصائيان يكشفان ل«عكاظ».. عادات تؤدي لاضطراب النوم    4 مخاطر لاستعمال الأكياس البلاستيكية    وصمة عار حضارية    استقلال دولة فلسطين.. وعضويتها بالأمم المتحدة !    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    الأرصاد تنذر مخالفي النظام ولوائحه    التشهير بالمتحرشين والمتحرشات    (911) يتلقى 30 مليون مكالمة عام 2023    تجربة سعودية نوعية    وزير الصناعة الإيطالي: إيطاليا تعتزم استثمار نحو 10 مليارات يورو في الرقائق الإلكترونية    الأخضر 18 يخسر مواجهة تركيا بركلات الترجيح    الهلال.. ماذا بعد آسيا؟    انطلاق بطولة الروبوت العربية    تتويج طائرة الهلال في جدة اليوم.. وهبوط الهداية والوحدة    في الشباك    الاتحاد يعاود تدريباته استعداداً لمواجهة الهلال في نصف النهائي بكأس الملك    64% شراء السلع والمنتجات عبر الإنترنت    السجن لمسعف في قضية موت رجل أسود في الولايات المتحدة    ألمانيا: «استراتيجية صامتة» للبحث عن طفل توحدي مفقود    واشنطن: إرجاء قرار حظر سجائر المنثول    المسلسل    البنيان: الجامعات تتصدى للتوجهات والأفكار المنحرفة    وفاة الأديب عبدالرحمن بن فيصل بن معمر    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بناء الإنسان.. أولى أولويات مشروع الدولة الحديثة
أرشيف التاريخ يوثق الإنجاز السعودي ويؤكد:
نشر في اليوم يوم 23 - 09 - 2002

في أرشيف التاريخ صور مذهلة إذا ما قيست الصور بما تحقق على تراب هذه البلاد من منجزات. ولا يقتصر الذهول على ما بنته اليد السعودية شوعمرته وصنعته وشيدته. وإنما يمتد - بدرجة أكثر جدارة بالإعجاب - إلى صناعة الإنسان وبناء العقول، ورعاية التنمية البشرية الشاملة. وفي أرشيف التاريخ الذي سجلته عيون الآخرين وتحدثت عنه في مراحل سبقت وتزامنت مع تأسيس الدولة السعودية، العديد من الدلالات التي تجدر مراجعتها ومقارنتها بالواقع الذي بنته القيادة السعودية على امتداد سنوات البناء والنماء. وقد دونت أقلام الرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية أبان نشاط الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، رحمه الله، في تأسيس الدولة، بعضا من ملامح الواقع آنذاك، وهو واقع مدهش بالنسبة لنا، بوصفنا وارثي الإنجاز الحضاري العظيم..
البدوي المتخلف
وللجزيرة العربية في نفوس الرحالة العرب صورتان متمايزتان: الأولى منتزعة من كتب السير والمغازي والتاريخ والشعر القديم، والثانية مستقاة من التجربة والمشاهدة. ولا تخلو آثار الرحالة العرب الذين زاروا الأراضي المقدسة وبعض مناطق الجزيرة العربية الأخرى، في أوائل هذا القرن من هاتين الصورتين: الصورة الرومانسية العاطفية الخلابة، والصورة الواقعية المتجهمة، ومن الطبيعي أن يكون التناقض حادا بين الصورتين ، لا سيما في أواخر العهد العثماني والعهد الهاشمي في الحجاز. ولقد ساعد على تعميق هذا التناقض في أذهان الرحالة العرب عدة عوامل أهمها الجهل بأوضاع الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وتأخر بلدان الجزيرة العربية اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا عن معظم البلدان العربية الأخرى لأسباب كثيرة لا محل لذكرها هنا. ويكفي أن الحجاز في أواخر العهد التركي وحتى أوائل العهد السعودي كان يعتمد في موارده الاقتصادية اعتمادا كليا على الحج والأوقاف والصدقات التي ترده من جميع أنحاء العالم الإسلامي. يقول إبراهيم رفعت: ((جرت العادة من قديم أن تصرف الحكومة المصرية مرتبات للأشراف والعربان والأهالي بمكة والمدينة)) وليست هذه الموارد ثابتة بل كثيرا ما تتغير بتغير الظروف والأحوال السياسية المختلفة. فالحرب العالمية الأولى حرمت الحجاز من (الصرة) العثمانية والحجاج الأتراك، كما حرمته من (الصرة) المصرية وصدقات الحبوب التي كانت ترد إليه من مصر وتوتر العلاقات بين الحجاز وكثير من البلدان الإسلامية الأخرى في عهد الشريف الحسين قد حرم الحجازيين من مرتباتهم التي كانوا يقبضونها من تركيا ومصر كما حرمتهم أيضا من التبرعات التي كانت تصلهم من الهند وبخارى. وقد ساعدت تلك الظروف، على اقتران حياة الصحراء غالبا بالهمجية والتخلف. ولم تتغير تلك الصورة كثيرا في أذهان الرحالة العرب الذين قدموا إلى بلادنا خلال النصف الأول من هذا القرن. ويرجع ذلك أيضا إلى العزلة التي عاشتها معظم أجزاء الجزيرة العربية في الخوف والفقر والجهل، حتى غدت مفازة يصعب العيش فيها للمقيم ومهلكة يحسن تجنبها للمسافر الغريب. أما فريضة الحج فقد كانت حقا رحلة محفوفة بالأهوال والمخاطر. ومن ثم فقد أصبحت كلمة (بدوي) مرادفة لكلمة اللص أو قاطع الطريق، كما أصبحت تعبر عن العرق أو الجنس ولم تعد حالة من حالات التمدن البشري. وكثيرا ما اختلطت كلمة (عربي ) ب (أعرابي) ولا يزال بعض إخواننا العرب يطلقون كلمة (عربي) و (عرب) على البدو الرحل. ولعل خير ما يمثل ذلك الخوف المتأصل في نفوس العرب من (العرب) ما قاله أمين الريحاني في كتابه (ملوك العرب) مبينا أسباب رحلته إلى الجزيرة العربية ، إذ يذكر أنه عندما سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية كان في سن الثانية عشرة من عمره، ولم يكن يعرف شيئا عن العرب وأخبارهم (غير ما كانت تسمعه الأمهات في لبنان صغارهن: هس جا البدوي ! والبدوي والأعرابي واحد إذا رامت الأم (بعبعا تخوف به أولادها.. ) ويكاد يكون هذا الجهل الذي يعترف به الريحاني - قبل قدومه إلى الجزيرة العربية سنة 1922م - قاسما مشتركا لدى جميع الرحالة العرب الذين زاروا بلادنا في أواخر العهد العثماني في الحجاز وبدايات الحكم السعودي. يقول محمد لبيب البتنوني في كتابه (الرحلة الحجازية) سنة 1910م أن (هذه البلاد غير معروفة للآن كما يجب لذوي البصيرة والعرفان...) ويشير محمد حسين هيكل إلى الإهمال الشديد الذي لحق بالجزيرة العربية من قبل الباحثين في العصور المتأخرة وذلك لتخلفها وضعف شأنها (شأن الناس اذيرغبون عن كل ما انطفأ بريقه وإن حوى في طياته أثمن النفائس) وتقول بنت الشاطئ إنه طوال الأربعة عشر قرنا الماضية كانت آلاف الحجاج تصل إلى المدينتين المقدستين ولكنهم ما كانوا يتخطون حدود الحجاز إلى نجد (وبقيت الصحراء خلال تلك القرون قائمة هناك بكل صمتها العميق وسرها المرهوب....) ويقول خير الدين الزركلي إن أكثر الرحلات العربية لم تعن بغير المدينتين المقدستين وما بينهما مما له علاقة بفريضة الحج، وهكذا أهمل الطائف وغيره مما لا صلة له بالفريضة. ومن الطبيعي أن يتقذر أولئك الحضر المترفون من رثاثة البدو وخشونتهم . وقد صور لنا علي الطنطاوي شيئا من ذلك في رحلته التي قام بها مع الوفد السوري إلى الحجاز سنة 1935م بمناسبة افتتاح طريق الحج البري للسيارات وقد نشرت الرحلة سنة 1940م يقول في وصف ما سماه (وليمة بدوية): ((..... جاءوا بالدقيق فعجنوه بهذه الأيدي القذرة، ذات الأظافر السود، وصبوا عليه السمن النيئ ومزجوه به، ثم جاءوا بالعجوة فعجنوها معه، فكانت الأكلة من ثلاثة أجزاء متساوية: جزء من الدقيق وجزء من العجوة. وانضم إليها جزء مثل ذلك من الرمل الذي طار إليها، وجزء من الشعر الذي نزل من رؤوسهم ومن لحاهم فيها. وكنا نريد أن نفطر الصبح فقالوا: لا بل تصبرون حتى تأكلوا الحنينة فصبرنا وصبرنا حتى اقتراب الظهر ولم تنته الحنينة. ثم جاءت فأقبلوا عليها بأيديهم يكبكبون ويرمون في حلوقهم وجئت لآكل فلم أستطع.....)).
الأمن
وكان الأمن القضية الرئيسية ، البدوي هو المحور الأساس فيها لأنه مصدر الخطر على الحجاج والوافدين. وقد كان طريق الحاج من أكثر مناطق الجزيرة العربية تعرضا للغزو وأعمال العنف. يقول إبراهيم رفعت: إن أول من أقام للمدينة المنورة سورا كان محمد بن إسحاق الجعدي سنة 263ه وذلك لكي يحميها من هجمات الأعراب وغزوات البدو. ويقول هيكل: بل إن عضد الدولة (أبو شجاع) وزير الطائع لله هو أول من أنشأ سورا للمدينة المنورة سنة 360ه وكان الأمراء يجددونه كلما تداعت أركانه اتقاء لغزو الأعراب. ومدينة ينبع البحر محاطة كذلك بسور بناه دولة المشير عثمان باشا نوري، وقد منع الأعراب من دخول هذه البلدة مسلحين بل يضعون سلاحهم في المخفر ويأخذونه بعد الخروج. وكثيرة هي الأخبار التي تدل على الفوضى وتدهور الأمن في الحجاز منذ أقدم الأزمان. وفي رحلة إبراهيم رفعت والبتنوني ما يؤكد استمرار هذه الحالة حتى أوائل القرن الميلادي الحالي. يقول رفعت عن الجمالة ((... هؤلاء العربان يحافظون على الحجاج وعلى أمتعتهم متى غمروهم بالخيرات من مأكولات ولحوم ومشروب الشاي، وتزداد عنايتهم بالحجاج إذا وعدوا بكسوة يعطونها في المحطة الختامية. وكسوتهم يسيرة الكلفة فهي ثوب قطني من البفتة السمراء وعقال وكوفية لا تتجاوز قيمتها عشرة قروش مصرية، أما من بخل عليهم بماله فيرونه العذاب ألوانا فتارة يقطعون حزام الجمل فيقع راكبه ويتأخر عن القافلة حتى يصلح الحزام. وربما انتهزوا فرصة الانفراد به وقتلوه إذا لم يبرز لهم الريالات ويتعهد بالغذاء، وتارة يؤخرون الجمل عن القافلة بحجة أن الرحلة في حاجة إلى إصلاح، وما يريدون بذلك إلا فرصة للفتك به....)) ويشير إبراهيم رفعت إلى أن الطريق بين جده ومكة كان مليئا بالقلاع التي يرابط فيها بعض الجنود الأتراك وجنود الشريف لرد الغارات والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطريق. ويقول: إن الطريق من المدينة المنورة إلى قباء مخوف لكثرة النخيل به على الجانبين (فالواجب اتخاذ الرفيق وحمل السلاح، إذ هناك أعراب أشقياء يترصدون من ينفرد عن ركبه فيسلبونه ماله وربما قتلوه..) وقد بلغ أذى العربان المشاعر المقدسة نفسها فقد كان بعض أشرارهم يتربص ببعض الحجاج الذين يبتعدون عن منى لإحضار المياه فيسلبونهم أموالهم . وقد كانت الآبار تبعد عن منى بأكثر من ثلاثة أميال. والحقيقة أن مشاكل الأمن لم تكن مقصورة على طريق الحاج بين مكة والمدينة، بل كانت تشمل كافة أنحاء الجزيرة العربية. يقول الريحاني الذي طوف معظم مناطق جزيرة العرب في أوائل هذا القرن: (كانت الطرق في الأحساء في عهد الأتراك لا تعبر إلا بقوة عسكرية أو بدفع (الخوة). وكانت الطريق بين العقير والحسا، وهي طريق التجارة إلى نجد الأسفل، أكثرها وأشدها أخطارا . فكان التاجر العربي المسلم الذي يروم الوصول إلى الهفوف - مسافة أربعين ميلا - يضطر أن يدفع (الخوة) كلما اجتاز خمسة أميال أو عشرة من هذه الطريق المخيفة، طريق التجار والأموال) . ويقول لقد جاءها الأعراب من كل مكان: من الجنوب ومن الربع الخالي ومن قطر وما دونها ومن الشمال من نواحي القطيف والكويت ومن داخل البلاد من وراء الدهناء (فحاموا على هذه الطريق وربطوها وقطعوها، وتقاسموا أموال قوافلها). ولم تكن الجنوب ونواحي تهامة أسعد حالا فقد كانت تعاني هجمات بعض القبائل الشرسة التي كانت لا تخضع لسيد أو إمام ولا تخشى أساطيل الإنجليز. فكانوا يقطعون الطريق ويعملون بالقرصنة ويهربون السلاح ويتاجرون بالرقيق. وهكذا هي صورة البدوي في أواخر العهد العثماني صورة الفاتك المجرم قاطع الطريق وشخصيته هي شخصية البدوي المستقل المعتد بنفسه الذي لا يدين للدولة بقدر ما يدين للقبيلة. ومن هنا نستطيع أن نقدر تلك الجهود العظيمة التي بذلها جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله للتغلب على مشاكل البدو وإخضاعهم للسلطة، وقد عانى منهم الأمرين في بداية فتوحاته وإصلاحاته في قلب الجزيرة العربية وما جاورها من مناطق. وقد دهش الريحاني الذي زار الملك عبد العزيز سنة 1922م أي قبل فتحه الحجاز، عندما رأى استتباب الأمن والعدل في جميع المناطق الخاضعة له، فقد استطاع الملك عبد العزيز منذ ذلك الوقت أن يغير من تلك الصورة المنفرة للبدوي الشرس الخارج على السلطة، وأن يجعله مواطنا صالحا يدين للدولة ويحترم النظام. أهمها زرع العقيدة في نفسه وجعله جنديا مخلصا للذب عنها ونشرها وترسيخها (أخو من طاع الله) وربطه بالأرض يفلحها ويتعيش منها وإشاعة الأمن والعدل وتطبيق الشريعة الإسلامية.
صورة الحاكم
والرحلة الوحيدة التي يغلب عليها الطابع السياسي خلال هذه الفترة هي رحلة أمين الريحاني (ملوك العرب) التي قام بها بعد الثورة العربية بحوالي سبع سنوات، وقبيل فتح الملك عبد العزيز للحجاز بحوالي سنتين فقط. فالريحاني كما يدل عنوان كتابه معني في الدرجة الأولى بمقابلة الزعماء العرب واستقصاء الحالة السياسية العامة في الجزيرة العربية ومصير المشرق العربي وشعوبه بعد الحرب العالمية الأولى وبعد الثورة على الأتراك وانهيار الخلافة العثمانية. ويتحدث إبراهيم رفعت في موضوع آخر من كتابه عن فداحة الظلم الذي لحق بالناس من استبداد عون الرفيق وجوره، ويشير إلى ثلاث رسائل كتبت عنه في ذلك العهد، الأولى بعنوان : (ضجيج الكون من فظائع عون) كتبها السيد محمد الباقر بن عبد الرحيم العلوي، في 29 ذي الحجة سنة 1316ه يستنجد فيها بالسلطان عبد الحميد والثانية بعنوان : (خبيئة الكون فيما لحق ابن مهني من عون) للشريف محمد بن مهني العبدلي وكيل الإمارة بجده وأمير عربانها. أما الثالثة فهي قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي نشرت بجريدة اللواء سنة 1322ه - 1904م وقد أورد إبراهيم رفعت نصوص هذه الرسائل . وقصيدة شوقي هي القصيدة المعروفة ب(صدى الحجيج) والتي يقول في مطلعها:
ضج الحجاز وضج البيت والحرم
واستصرخت ربها في مكة الأمم
قد مسها في حماك الضر فاقض لها
خليفة الله أنت السيد الحكم
تلك الربوع التي ريع الحجيج بها
اللشريف عليها أم لك العلم؟
أهين فيها ضيوف الله واضطهدوا
إن أنت لم تنتقم فالله منتقم.
وقد قام البتنوني برحلته- مرافقا للخديوي عباس حلمي- سنة 1329ه ، أي بعد أكثر من عامين على تولي الشريف الحسين بن علي إمارة مكة. وقد أثنى المؤلف علي الحسين وقال انه (قام بالأمر حق قيام بهمة لا تعرف الملل، وضرب علي أيدي قبائل العرب الذين كانوا يتحفزون للخروج على الدولة..). ويقول أيضاً: (ولقد تشرفت بمعرفته (الحسين)مدة وجودنا بمعية الجناب العالي بمكة فوجدته أنيسا وديعاً كريم الأخلاق،حسن السجايا،وقد جمل الوقار رؤياه، وكمل الأدب جلال محياه..). أما الإمام محمد رشيد رضا فقد قدم إلي الحجاز في الأيام الأولى من الثورة العربية التي قام بها الشريف الحسين ضد الأتراك سنة 1334ه - 1916م، وشاهد الأسرى من جنود الأتراك بعد سقوط الطائف مخفورين في طريقهم إلي جدة. ولكن المدينة المنورة مازالت في ذلك الوقت محاصرة في أيدي العثمانيين. وعلى الرغم من تأكيد الإمام أنه إنما شد الرحال إلي الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج فحسب، فإنه في الواقع لا يخفي كراهيته لرجال الاتحاد والترقي وتأييده للثورة وإعجابه بشخصية الحسين، وان كان إعجاباً يشوبه التحفظ لعدم وضوح الرؤية في تلك المرحلة المبكرة والغامضة من الثورة. وقد أورد المؤلف نص الخطبة السياسية التي ألقاها في منى بين يدي الشريف ورجال دولته وبقية الوفود من العرب والمسلمين. وفي هذه الخطبة يبين الإمام موقفه واضحاً من رجال الاتحاد والترقي، فهم- في نظره- ( أوباش من الملاحدة المارقين قد وصلوا إلي ما وصلوا إليه بكيد يهود سلانيك. وشركاؤهم في النمسا وألمانيا أقوى أنصارهم، ولذلك نرى أكبر همهم جمع المال، فلاهم على دين هذه الدولة فيغاروا عليه، بل هم يقاومونه ويهدمونه، ولا هم من أصل راسخ فيها فيكونوا أحرص من (هكذا) على حياتها من أبناء سلاطينها وأساطينها..). وحين نصل إلى سنة 1920م تاريخ الرحلة التي قام بها خير الدين الزركلي إلى الحجاز نجد ان الأمور قد تكشفت بما فيه الكفاية في معاهدة (سايس بيكو) التي اقتسمت فيها بريطانيا وفرنسا تركة الرجل المريض منذ مطلع هذا القرن، وفي وعد بلفور سنة 1917م الذي منح اليهود وطنا قومياً في فلسطين . وقد ثبت الآن، بما لا يدع مجالا للشك، سراب ذلك الوهم الكبير الذي كان يعيشه الشريف الحسين والمتحمسون لثورته من أمثال محمد رشيد رضا، او كما قال الزركلي : (عاهدوه على سورية واستعمروها، وعلى العراق واحتلوها، وعلى فلسطين وهودوها، وعلى الجزيرة وقسموها ..) الخ لقد اخرج الفرنسيون ابنه فيصل من سوريا ولم يدم حكمه فيها سوى اشهر معدودات، فبادر إلى إرسال ابنه عبدالله إلى الأراضي التي حول سوريا والتي لم يحتلها الفرنسيون، وأعلن الحسين إن ابنه سيكون أميراً على معان، آخر الحدود الحجازية من ناحية الشمال . أما فيصل فقد فر من الشام إلى إيطاليا ثم إلى لندن لمفاوضة الإنجليز في ملك العراق .
والزركلي نفسه جاء فاراً من الفرنسيين ، لاجئا إلى الحجاز بجواز سفر هاشمي. في أول دخوله على الحسين في قصره بمكة، وكان لا يزال بملابس الإحرام : (دخلت على جلالة الملك فنهض قائما فأقبلت على يديه لأقبلها، فبسط يديه قابضا بهما وجهي فقبلتهما من باطنهما، وما كنت عالما بشيء من أسرار تقبيل اليد في ذلك القصر. وكان أول ما كلمني به جلالته قوله : بلادكم يا ابني ! هذه بلادكم يا ابني ! فدعوت له . وامرني بالجلوس فجلست وتحدث الزركلي عن معاناة الحجاز ومجاعته أثناء الحرب العالمية الأولى، وعن ضغوط الاتحاديين على الشريف وأعوانه، وعن استغلال الإنجليز لهذه الظروف الصعبة التي كانت تعيشها البلاد، إضافة إلى حالة القمع التي كانت تمارسها الحكومة التركية في كل من سوريا والعراق (فمد الإنكليز أيديهم إليهم من بعد، يوهمونهم العطف والإشفاق ويمنونهم بالإنقاذ والتحرير ..) وأشار المؤلف إلى الرسائل المتبادلة بين الشريف وبين السير هنري مكماهون ، النائب البريطاني الأكبر بمصر، وبعضها، لا يزال مطويا آنذاك، ولكنه أورد نص إحداها، وهي موجهة من مكماهون الى الشريف، كنموذج لأسلوب المداهنة والخداع الذي كان يستخدمه الإنجليز مع الزعماء العرب .
أما أمين الريحاني الذي قابل الملك حسين في أواخر أيامه، سنة 1922م، فانه يعطي عنه صورة لا تختلف كثيراً عن تلك التي رأيناها عند كل من الإمام محمد رشيد رضا وخير الدين الزركلي، ولا سيما في وثوق الحسين بنفسه واعتداده، برأيه وشدة حذره وسوء ظنه بالآخرين غير ان الريحاني. وهو المسيحي المتعصب لقوميته وعروبته، لا يؤمن أصلا بثورة الحسين القائمة في أساسها على الدين، كما جاء في منشور الاستقلال الذي أصدره الحسين في 5 رمضان سنة 1334ه الموافق 27 حزيران سنة 1916م والذي حمل فيه على الدستور العثماني المخالف للكثير مما جاء في نصوص الشريعة الإسلامية. ويتساءل الريحاني في مرارة وتهكم عن جدوى تلك الوحدة العربية بالنسبة للعرب غير المسلمين ويقول : (أفما حان لنا، أولا يحق لنا أن نتساءل نحن العرب غير المسلمين ماذا يهمنا من نهضة أساسها (الدين) وأي دخل لنا في ثورة أعلنت في ذاك السبيل ولتيك الأسباب الدينية ؟ ).
لكن الريحاني يقدم صورة مختلفة تماما ل (السلطان) عبدالعزيز آل سعود حين التقى به لأول مرة في النفود بين العقير والأحساء صورة تمتزج فيها ملامح الصحراء الأخاذة بملامح البطل الفارس، وفي جو من الشاعرية والبساطة المتناهية : (.... وكان الليل صافي الجبين، ورقيق الجلباب، شأنه في البادية، تدنو النجوم في سمائه من الأرض بريقا، وتسمع فيه الأصوات كأنها على طول المسافات الأبواق في الغابات، لها دوي لطيف ينجد ويغور وصدى يتموج كالنور ...) ويصف قدوم السلطان وما تخلله من رغاء الإبل وأصوات الخيزران ونصب الخيام .
لقد دهش الريحاني في هذا اللقاء الأول بالملك عبدالعزيز بتواضعه الجم وبساطته وكرم ضيافته . ويتساءل مستغربا، بعد أن مر بتجارب سابقة مع الحسين والإدريسي والإمام يحيى: (أين أبهة الملك وفخفخة السلاطين؟ أنك لا تجدها في نجد وسلطانها. وأن أول ما يملكك منه ابتسامة هي مغناطيس القلوب. لست أدري كيف حييته وأنا في دهش وابتهاج من تلك المفاجأة الكبيرة، ولكني أذكر أنه حياني باسماً بالسلام عليكم وظل قابضاً على يدي حتى دخلنا الخيمة، فجلس والكور إلى يمينه يستند إليه، والنار قبالته تنير وجهه) ولكن تلك البساطة التي أعجب بها الريحاني في شخصية الملك عبد العزيز تخفي وراءها ذكاء فطريا لماحا وفراسة نافذة وهاهو يضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بمهمة الريحاني وما يثار حولها من تساؤلات، إذ يقول له في صراحة تامة ومواجهة مفاجئة: (قالوا: أنك أميركي جئت تنشر الدين المسيحي في البلاد العربية، وقالوا: أنك تمثل بعض الشركات وجئت تبغي الامتيازات. وقالوا أنك قادم من الحجاز وأنك شريفي تسعى لتحقيق دعوة الشريف. وقالوا غير ذلك. فقلنا إذا كان في الرجل ما يضر فنحن نعرف كيف نتقيه، وإذا كان فيه ما ينفع فنعرف أيضاً كيف ننتفع. ونحن أعلم يا حضرة الأستاذ بمهمتك، بارك الله فيك). ولكن هذه المعلومات التي يسردها عبد العزيز على مسامع الريحاني لا تعتمد على الفراسة فقط، بل تعتمد في الدرجة الأولى على النظرة العلمية الدقيقة في جمع المعلومات واستقصاء الأخبار عن هؤلاء الأغراب الذين يفدون إليه من كل صوب وحدب. ويبدو أن الملك عبد العزيز قد توسم في الريحاني خيراً كثيراً أو أنه أراد أن يختبره ويتفحص سريرته، فأطلعه على بعض الأمور السرية التي كانت تدور بينه وبين الاشراف، ومنها خطاب الشريف حسين الذي يطلب فيه الولاء والصلح، بشرط أن تعاد تربة والخرمة إلى الحجاز، وأن يعاد إلى ابن الرشيد ملكه في حائل. ويطلب عبد العزيز من الريحاني رأيه في هذا الموضوع: (ما رأيك يا حضرة الأستاذ؟ لا تقل لي: ان لا دخل لك بالسياسة، وأن سياحتك في بلادنا سياحة علمية فقط (حنا) نفهم. ومرر يده على لحيته وهو يبتسم بسمته الخلابة. لا تخدعنا يا أستاذ. لا تغزل عنا في المقاصد والكلام، أصدقنا الخبر. فقد قابلت الشريف وحدثته، وقابلت الإمام يحيى والأدريسي والملك فيصل، وحدثتهم كلهم. فأعطني الآن رأيك. ابغي نصيحتك.. تكلم. ويكفي أن تقول رأيي تسذا (كذا). ولا جزم فنقبله منك..). ونحن نجد ان هذا الإعجاب بشخصية الملك عبد العزيز وباعماله وسجاياه لا يقتصر على الريحاني فقط ، بل هو شامل لجميع الذين قابلوه وعرفوه عن كثب ، وها هو شكيب أرسلان الذي التقى بالملك عبد العزيز سنة 1930 م أي بعد الريحاني بحوالي ثماني سنوات ، يقول عنه: ( ثم شاهدت جلالة ملك هذه الديار - خادم الحرمين الشريفين عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود - وكان في جدة ذلك اليوم ، فوجدت فيه الملك الأشم الأصيد ، الذي تلوح سيماء البطولة على وجهه ، والعاهل الصنديد الأنجد الذي كأنما قد ثوب الاستقلال العرب الحقيقي على قده ، فحمدت الله أن عيني رأت فوق ما أذني سمعت ، وتفاءلت خيرا في مستقبل هذه الأمة..)
اما محمد حسين هيكل فقد التقى بالملك عبد العزيز مرتين خلال رحلته التي سجلها في (منزل الوحي) سنة 1936م ، وقد عبر عن إعجابه به وإعجاب الآخرين ولا سيما في مسألة الأمن التي كانت من المسائل او المشاكل الرئيسية والمحلة في الأراضي المقدسة منذ زمن طويل ، وقد استطاع عبد العزيز أن يحلها بشكل حاسم ومشرف ، ويروي هيكل إعجاب الكثيرين من المفكرين العرب والأجانب بذلك البطل العظيم والزعيم الفذ إذ يقول:
(.. ولقد لقيت إذ ذاك غير واحد من الصحفيين المشهود لهم بالاتزان وبدقة الحكم على الأشياء والأشخاص ، فما كان أشد عجبي حين سمعت من أحدهم (فون فيزل) الألماني المعروف بمبالغته في الثناء على ابن السعود الى حد نعته اياه بأنه (بسمرك الشرق) هذا وكان فون فيزل قد لقي ابن السعود وتحدث اليه وعرف مرامي سياسته)
الحضري المثقف:
لم تكن حال التعليم في مكة والمدينة آخر العهد العثماني مما يساعد على ظهور طبقة متميزة من المتعلمين أو المثقفين ، وها هو ابراهيم رفعت ، الذي زار الحجاز سنة 1901 م يلاحظ اهمال التعليم وقلة المدارس في مكة المكرمة ، ويعزو ذلك الى عقلية الشريف عون المتحجرة واستبداده ( لأنه يرى في العلم تنويرا للأفكار ومطالبة بالحقوق وضربا على أيدي الظالمين وجهادا للتخلص من المستبدين وهو عليم بنفسه خبير بسيرته) فلم يبق في مكة المكرمة آنذاك سوى ست مدارس أولية وبعض الكتاتيب وأشهر مدرسة بها هي الصولتية التي أسسها الشيخ رحمة الله الهندي ،ويدرس فيها بعض مواد الدين واللغة العربية والحساب وينفق عليها من تبرعات الهنود اما المكتبات فقد كانت هي الأخرى في حالة يرثى لها ، إذ لم يبق منها سوى مكتبتين صغيرتين إحداهما في باب ام هانئ والأخرى في باب الدريبة ، ولا تتجاوز محتوياتهما بعض الكتب النحوية والفقهية والأدبية ، وبمكة مطبعة الولاية وتصدر فيها جريدة رسمية بالتركية والعربية اسمها (حجاز) تعنى بأخبار الحكومة وإعلاناتها.
أما المدينة المنورة فلم تكن أحسن حالا من مكة المكرمة من حيث عدد المدارس الأولية والكتاتيب أما من حيث المكتبات فقد كانت بها مجموعة لا بأس بها منها مكتبة شيخ الإسلام وعارف حكمت ومكتبة للسلطان محمود ومكتبة للسلطان عبد الحميد ومكتبة بشير اغا وفي المدينة جريدة اسمها (المدينة المنورة) تصدر بالتركية والعربية وتطبع على البالوزة ، ولكنها لم تكن منتظمة في صدورها.
أما حلقات الدرس في الحرمين الشريفين فقد اضمحلت وتدنى مستواها في أواخر العهد العثماني الى حد كبير . يقول البتنوني عن التدريس في الحرم المكي: ( ويدرس في الحرم الشريف بعض العلوم العربية والتفسير على الطريقة القديمة العقيمة ، ويقدر عدد الطلبة ببضع مئات جلهم من الجاوة الذين يفرون الى هذه البلاد من المظالم التي تتساقط على رؤوسهم من حكومة بلادهم).
وإذا كانت حالة التعليم قد انتعشت قليلا بعد الدستور العثماني وبعد الثورة العربية في منطقة الحجار فإن الأمور لن تتغير بشكل منتظم وملحوظ الا بعد الوحدة التي حققها الملك عبد العزيز لهذه المناطق الضعيفة المتناثرة ، ومن ثم فاننا لا نستغرب كثيرا حينما نجد ان الرحالة العرب الذين زاروا تلك المناطق خلال الثلث الأول من هذا القرن الميلادي ، يسخرون من تلك الثقافة المتخلفة ويرون فيها امتدادا لعصور الظلام التي لم تخرج منها جزيرة العرب الا في فترة متأخرة. يروي ابراهيم رفعت قصيدة طويلة لأحد أئمة المالكية بالمسجد النبوي يندد فيها بما فعله بعض العربان بالمحمل الشامي سنة1295 ه ويقول رفعت: ( وإنا لم نذكر هذه القصيدة ان صح أن تسمى قصيدة مع كثرة الخطأ فيها الا لما حوته من تفصيل الحادث ،ولنقدم اليك نموذجا من شعر الحجازيين الغث في عصرنا الحاضر) ويورد رفعت كذلك نصوصا من خطابات بعض شيوخ القبائل ،وذلك لإطلاع القارئ على مستوى لغتها وأسلوبها ،وبعد ان يأتي بنص خطاب سليمان باشا ابن رفادة شيخ مشايخ عربان - بلي يقول وإنما ذكرنا لك هذا الكتاب بنصه كما ذكرنا أمثاله لنقفك على لغة العرب وكتابتهم الآن ، وأين هم من لغة أسلافهم الأقدمين الذين بلغوا من الفصاحة غايتها.
ولم تكن الثقافة في العهد الهاشمي أفضل كثيرا منها في أواخر العهد العثماني ، وإن رأينا فيها شيئا من التحسن لوجود نخبة جيدة من الأدباء العرب في صحيفة القبلة من أمثال محب الدين الخطيب وفؤاد الخطيب والطيب الساسي ، وربما استمر هذا الضعف العام في الثقافة المحلية حتى بدايات العهد السعودي في الحجاز ، إذ يقول المازني في (رحلة الحجاز ) سنة 1930م عن حفلة خطابية حضرها بوادي فاطمة : ( .. ولما جاء الأمير (فيصل) استؤنفت الخطب ، ودعا زميلنا خير الدين أفندي الزركلي الشاعر السوري ، فأنشد قصيدة حماسية هي كل ما خرجنا به في يومنا بل في رحلتنا كلها من الكلام الرصين الجيد)
وكان الريحاني قد قال قبل ذلك شيئا من هذا عن حال الشعر الفصيح في من نجد وتهامة يقول عن الأولى : ( ولا يزال للشعر مقام في نجد وإن رثت حواشيه وتفاقم اللحن فيه ) ويقول عن الثانية: (.. واليوم لا تجد في تهامة كلها شاعرا واحدا ينظم باللغة الفصحى ).
ولكن هذه الحالة العامة من الضعف العلمي والثقافي لم تمنع هؤلاء الرحالة من الحديث عن بعض المثقفين المحليين والعرب الذين التقوا بهم صدفة أثناء تجوالهم إو إقامتهم في بعض المدن، ومن ذلك ما قاله إبراهيم رفعت عن الشيخ سليمان بن عبد الله البسام (وكيل أمير نجد) في مدينة جدة التي أتحفهم بضيافته ، و(بلذيذ حديثه وشعره) ويتحدث الزركلي في رحلته عن مجموعة من المثقفين الذين تعرف عليهم في كل من جدة ومكة والطائف ،ومنهم قسطنطين يني ويوسف ياسين ، وهما من الأدباء السوريين الذين انضموا الى الثورة العربية ، وكل من الشيخين / عثمان بن عبد الرحيم قاضي وعبدالله بن ابي بكر بن علي كمال يقول عنه القاضي: انه من ادباء الطائف، وقد قرأ له قصيدة يرحب فيها بالأمير زيد عند عودته من إيطاليا الى مكة المكرمة ويقول عن القاضي عبد لله كمال انه ( أفقه من في هذه المدينة ( الطائف) وأعلمهم بالادب وفنونه) ويورد نموذجا من شعره إذ يقول:
ترفق أيها الحادي
وعج بي نحوهم عج بي
كرام قد عهدناهم
بذاك السفح والشعب
أريج المسك رياهم
وريح المندل الرطب
ويقول الزركلي عن الشيخ صبحي الحلبي ، وهو أستاذ في المدرسة الخيرية الهاشمية بالطائف : ( والشيخ صبحي يعد اليوم من أدباء الطائف ، اطلعت على مجموعة من شعره فكان مما قرأته فيها قوله:
هذي الديار فقف بها يا حادي
واعطف لحالي فرقتي وبعادي
ويتحدث الريحاني عما سماه ( نادي الصلاة) في مدينة جدة خلال العهد الهاشمي إذ يقول: (انه ناد قليل الأعضاء ولكنهم كلهم حكماء ، صغير الحلقة ولكنها حلقة نور صفي ليس فيه خيط واحد من الظلام ، وهو ناد فريد في بابه لا رئيس له ولابيت ولا قانون يجتمع أعضاؤه كل يوم عند الغروب على كثيب رمل قرب البحر خارج البلد ، فيصلون المغرب أولا ثم يبادرون الى كرة من حديد فيتمرنون ويتبارون في رميها .، ثم يجلسون في حلقة على الرمل ويتحدثون في الأدب والشعر والتاريخ)
وأعضاء هذا النادي كما يقول الريحاني سبعة هم : الحاج زينل على رضا والحاج عبدالله علي رضا "منشىء المدينة العمومية في جدة " والشيخ محمد نصيف والشيخ سليمان قابل (رئيس البلدية) وأخوه عبد القادر ،والشيخ محمد الطويل ( ناظر الجمارك في القطر الحجازي ) والملا حسين الشيرازي، ويقول الريحاني عن محمد نصيف انه أديب جدة الأكبر وأمين الكتب فيها( فإن عنده مكتبة حافلة بالقديم والحديث من التآليف لا يقتنيها للعرض فقط بل لينتفع وينفع بها ، يجيء الأدباء الى دار الشيخ محمد كأنها دار الكتب العمومية فيعيرهم ما يشاؤون منها ويشتري ما يعرضون من مخطوط او مطبوع) وقد تكرر ذكر بعض أعضاء هذا ( النادي) العجيب في رحلات لاحقة ، فنجد أن المازني قد نوه بثلاثة منهم هم: محمد نصيف ، وعبد الله رضا (الزينلي) ، ومحمد الطويل ويقول عن محمد نصيف: إنه من وجوه جدة وكبار تجارها وأصله مصري ، وله مكتبة خاصة هي أكبر مثيلاتها في الحجاز . وفي داره ينزل ، على ماسمعنا جلالة الملك عبد العزيز حين يكون في جدة ) ومن المثقفين الآخرين الذين يذكرهم المازني : (السيد عبد الوهاب نائب الحرم يقول عنه (انه بلا شك أبرع محدث وأظرف رجل عرفناه في الحجاز ، وقد تعلم في الآستانة وأتقن التركية والفرنسية فضلا عن لغته العربية) وفؤاد حمزة الذي كان مديرا للشؤون الخارجية آنذاك. وحين زارت بنت الشاطئ منطقة الأحساء سنة 1951م، والتقت بأدباء القطيف واستمعت إليهم، قالت ما قاله هيكل في مقدمة (وحي الصحراء) عن شباب مكة الذين كانوا يقرأون بنهم لأساتذتهم المصريين ويتابعون الجديد من فكرهم وإبداعهم، ولا يجدون منهم سوى الإهمال وعدم الاهتمام. يقول هيكل: (فناشئة الحجاز شديدة الولع بالاطلاع على جميع الآثار الأدبية التي تظهر في البلاد العربية في العصر الأخير، ولقد أتيح لي اثناء مقامي بالحجاز واتصالي بالمثقفين من أبنائه أن ألاحظ هذه الظاهرة اشد وضوحا فيهم منها في أبناء مصر ..) وتقول بنت الشاطئ عن أدباء القطيف : (وهي (القطيف) على الهجر الأليم .. لا تكف عن ذكر مصر وتتبع نهضتها العلمية والأدبية). انها في معزلها النائي المهجور على ساحل الخليج، تستورد البضاعة الادبية من ضفاف النيل وتعرف عن سير الفن والحياة بها، واعلام الادب والفكر فيها ما يجهله المصريون انفسهم، لا اكاد استثني منهم سوى قلة من خاصة المتعلمين. ومن ادباء القطيف الذين تذكرهم بنت الشاطئ في رحلتها: عبدرب الرسول الجشي ومحمد سعيد الشيخ الخنيزي ومحمد سعيد الجشي. اما الثقافة المحلية في اواخر العهد العثماني والعهد الهاشمي، وكما صورتها الرحلات العربية، فقدكانت ثقافة تقليدية يغلب عليها الضعف وسمات العصور المتأخرة، وان بدأت تنتعش قليلا بما كان يكتبه الادباء العرب الوافدون في صحيفة (القبلة) اثناء العهد الهاشمي. ولعل ذلك الضعف العام في ثقافتنا الفصيحة هو الذي حول بعض أولئك الرحالة إلى ثقافتنا الشعبية فكتبوا عنها كتابات أكثر تعاطفا وصدقا كما فعل الزركلي في (ما رأيت وما سمعت) وما فعله الريحاني في (ملوك العرب) وقد استمر هذا الاهتمام باللغة واللهجة المحلية والشعر البدوي عند أرسلان وعبد الوهاب عزام. أما الثقافة في العهد السعودي فلم تجد من الرحالة العرب من يهتم بها الاهتمام الكافي . وقد رأينا أن معظم الأسماء التي ذكروها في أعمالهم كانت أسماء لبعض الأدباء العرب، ولم يذكروا سوى النذر القليل من الأدباء المحليين، مع أن تلك الفترة كانت تعج بأسماء الأدباء والشعراء السعوديين من أمثال: ابن عثيمين وابن بليهد والغزاوي والعواد وحمزة شحاتة إلخ. والغريب أن أحدا من أولئك الرحالة لم يذكر شيئا عن صحافة تلك الفترة، وقد كانت الوعاء الوحيد للأدب والثقافة لعدم تيسر طباعة الكتب.
وقد كانت صحيفة (أم القرى) في أوج تألقها عن وصول أرسلان والمازني، وأضيفت إليها (صوت الحجاز) أثناء رحلة هيكل. أما في أثناء رحلات عبد الوهاب عزام وبنت الشاطئ فقد كانت البلاد تعيش نهضة صحفية رائعة وذلك بتلاحق صدور الصحف والمجلات من أمثال (المنهل) و(البلاد السعودية).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.